إن رقي العلاقة الإنسانية وتحضّرها، قائم على مدى تفاعلها مع منهج الخطاب الإلهي؛ الباني للإتلاف، والمضيق لمساحة الاختلاف. ولقد جاء في الخطاب القرآني إشارات كثيرة لإقامة العدل في سياقات مختلفة، منها العدل مع الله، والعدل مع النفس، والعدل مع الناس، وذلك لأن الخطاب القرآني -على عكس القوانين الوضعية- لم يلحظ في موضوع العدل مجرد علاقة الإنسان بالإنسان فقط، بل لاحظ ذلك وغيره، مما يجعل النظر القرآني لضابط العدل أوسع وأشمل، يغطي كل جوانب حياة الإنسان.
العدل خلُق قرآني من أخلاق تدبير الاختلاف، ليس خاصًّا بمجال القضاء فحسب، بل هو شامل لكل مناحي الحياة العامة والخاصة؛ فاستعماله يشمل الإنسان في خاصة نفسه، وكذلك علاقاته العامة مع المخالف، وهو معلم أخلاقي لتدبير الاختلاف، يعيد التوازن والاستقرار للعلاقات الإنسانية، فهو خلُق توزن به الأعمال الشخصية، والعقود والمعاملات المالية، والأحكام القضائية، والأحكام السلطانية، والعلاقات الدولية.

مقصد مشترك للشرائع

أنزل الله تعالى الشرائع إلى الخلق لتنظيم العلاقات الإنسانية، وبعث الرسل والأنبياء لتدبير اختلافاتها، فكان خلُق العدل والقسط من المقاصد المشتركة بين هذه الشرائع.
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(الحديد:25)؛ يقول الريسوني: “لقد قررت الآية أن إرسال الرسل جميعًا، والبينات التي أوتوها، والكتب التي بُعثوا بها، والميزان الذي فيها ومعها، كل هذا لأجل مقصد واحد هو أن يقوم الناس بالقسط”.
فالعدل مشترك ديني بين كل الشرائع السماوية، يقول سعيد النورسي رحمه الله: “أسس العدالة والفضيلة شيدها الأنبياء عليهم السلام، أي أن الأنبياء هم الذين أرسوا تلك القواعد والأسس”، فدلت الآية الكريمة على أن غاية إرسال الرسل والكتب هو القيام بالقسط، فكل الرسل وكل الرسالات التي أُرسل بها الأنبياء، وكل الموازين التي جاءوا بها، هي من أجل إقامة العدل، وهو مطلوب من الناس جميعهم، وهو (العدل) الذي يحفظ لكل ذي حق حقه، بغض النظر عن معتقده أو فكره أو جنسه أو لونه.
أساس العلاقة بين الناس
جعل القرآن الكريم أساس العلاقة بين الناس؛ العدل والقسط، قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(النساء:58)؛ الحكم بين الناس لا بين المسلمين فحسب، وجاء بأقوى صيغة للتكليف والإلزام في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)(النحل:90)؛ يقول العز بن عبد السلام بعد ما اعتبر هذه الآية أجمع آية في القرآن للحث على المصالح والزجر عن المفاسد: “الألف واللام في “العدل” للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دقِّ العدل وجَلِّه شيء إلا اندرج في قوله: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، والعدل هو التسوية والإنصاف”، ويقول أبو زهرة في سياق الاستدلال بهذه الآية: “كل النظم الإسلامية قامت على العدالة، حيث كانت الشعارات تدعو إلى التسامح ولو مع الظالم ويقول قائلها استغفروا لأعدائكم، فالإسلام يقول اعدلوا مع كل إنسان ولو كان عدوًّا مبينًا”.
فهذه الآية جامعة لأصول التشريع والعدل يقول ابن عاشور في “التحرير والتنوير”: “إعطاء الحق إلى صاحبه، وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات.. ومن هذا تفرعت شعب نظام المعاملات الاجتماعية، من آداب، وحقوق، وأقضية، وشهادات، ومعاملة مع الأمم”، فالعدل خلُق أساسي في تدبير اختلاف الناس، لأنه -حسب ابن عاشور- الأصل الجامع لكل الحقوق الراجعة إلى الضروريات والحاجيات.
والخطاب القرآني مليء بالآيات الدالة على وجوب العدل بين الناس، وتحريم الظلم والبغي بينهم.. فقضية العدل مركزية في القرآن الكريم، تذوب معها كل مظاهر الاختلاف الإنساني، فهي تقر العدل والقسط المطلق مع جميع الخلق، في تعال تسام عن اللغة أو اللون أو الفكر والعقيدة. يقول تعالى في الإشارة إلى أن أساس العلاقة مع النفس والأقارب، والفقير والغني، والقريب والبعيد، هي خلق العدل والقسط: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)(النساء:135).
فإذا كان القرآن الكريم يقيم العدل ضابطًا قويًّا، ينبغي أن يلتزم به حتى بين الأقارب وبين الولد وأبيه رغم ما يكنه لهم من حب وعطف. فالآية تدل دلالة صريحة على أنه لا طبقية في الإسلام، بل الجميع أمام العدالة سواء، لا فرق بين غني ولا فقير، ولا فرق بين مسلم وكافر، ولا فرق بين أبيض وأسود.. والمؤمن مطالب بالقيام بالحق ونصرته، وأن يؤيد الحق حيثما كان.
والخطاب القرآني يأمر بالعدل وينهى عن الظلم للمخالف الذي بينه وبين المسلمين كراهية وشنآن، قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا(المائدة:2)، وقال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(المائدة:8)، يقول القرطبي: “أيْ لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقًا كان أو عدوًّا، ولهذا قال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، أيْ عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه”، ويقول أبو زهرة : “والعدل ليس موالاة الأولياء ومعاداة الأعداء، إنما العدالة للجميع على سواء.. فالعدالة مع الأعداء المبغوضين كحاله مع الأولياء المحبوبين أقرب للتقوى”.

التعارف والتعاون الإنساني

التعارف والتعاون قضية واحدة، فلا يمكن الفصل بينهما، لأن التعاون الإنساني ينبني على التعارف بينهم، فالمتنافرون المتناكرون لا يحصل بينهما تعاون حقيقي، ولا يحصل بينهما تآلف كذلك، فالتنوع والاختلاف البشري رجالاً ونساء، شعوبًا وقبائل وأممًا، مختلفة في الطبائع والأخلاق، وفي المواهب والاستعدادات، في الألوان والألسنة، في الشرائع والمناهج، في الفكر والثقافة والحضارة؛ لأجل التعارف.
يقول عبد الله السعدي في هذا التنوع: “لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف”، وكلام عبد الله السعدي يدل على بناء التعاون على التعارف، كما أن هناك أمورًا أخرى تتوقف على التعارف -حسب السعدي- غير التعاون.
ويقول أبو زهرة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13) بأن هذا النص القرآني يشير إلى ثلاثة معان سامية، منها “المعنى الثاني الذي دلت عليه الآية الكريمة أن الاختلاف في الشعوب والقبائل والأجناس يوجب التعارف، ولا يسوغ التخالف، والتعارف يقتضي تعاون أبناء الأرض على استغلال كل ينابيع الثروة في الأرض، بحيث يفيض أهل كل إقليم على الآخر بفضل ما عنده، من غير بخس ولا شطط، ومن غير منٍّ ولا أذى، ويقتضي المساواة في أصل الحقوق الإنسانية الثابتة من اتحاد الأصل، ويقتضي العدالة، ولا يرهق جنسًا آخر بظلم أو أذى أو مضايقة أو استعباد”، وقال في موضع آخر: “فبهذا النص يبين القرآن الكريم أن العلاقة التي يجب أن تكون السائدة، هي التعارف، والتعارف تكون معه المودة، والتعاون وإقرار السلام، وإحياء التراحم”.
فلا تعاون حقيقي بدون تعارف، فالتعاون الإنساني لا يقوم ولا يثمر إلا على أساس التعارف الإنساني، يقول الإمام السيوطي في إشارة إلى هذا المعنى: “إن الإنسان الواحد وحده، لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف”.
والتعارف والتعاون كما بيّن القرآن الكريم، هو ضرورة اقتضتها المواطنة ووحدة الدار، فلا يمكن بناء الأوطان وتنميتها في ظل الإقصاء، أو النزاع الطائفي والديني أو الحزبي. فبناء دولة المؤسسات اليوم، يقتضي التعاون، وفتح قنوات التواصل والتعارف، من أجل العيش المشترك. يقول محماد رفيع: “فالتعارف أساس دعا إليه القرآن، وضرورة أملتها ظروف المشاركة في الدار أو الوطن بالتعبير العصري، وإعمال لروح الأخوة الإنسانية بدلاً من إهمالها، فقد نص القرآن الكريم بإطلاق ومن غير تقييد ولا تخصيص، أن من مقاصد التنوع بين البشر؛ التعارف والتعاون”.
ويشير القرآن الكريم إلى التعارف الإنساني، وفتح قنوات الحوار والتواصل، من أجل التكامل المعرفي والأخلاقي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، يقول بديع الزمان سعيد النورسي: “أيْ خلقناكم طوائف وقبائل وأممًا وشعوبًا، كي يعرف بعضكم بعضًا وتتعرفوا على علاقاتكم الاجتماعية”. وقد يُفهم من النص القرآني حصر التعارف على الشعوب والقبائل، بل التعارف مشروع مفتوح لتدبير كل مظاهر الاختلاف.
والتعارف معناه تبادل المعرفة والخبرة بين الأفراد، وبين الأمم والحضارات، لتحقيق البقاء والرخاء والهناء للبشرية جمعاء. والتعارف ليس معناه الاجتماع حول طاولة لتبادل الآراء فحسب، بل الحوار الحضاري أو التعارف بالمفهوم القرآني يعني ذلك، ويعني بالأساس تبادل المنتجات الحضارية ذات القيمة الإنسانية، سواء كان إنتاجًا ماديًّا أو إنتاجًا معنويًّا.
ودعا الخطاب القرآني إلى التعاون على كل برّ وتقوى، والنهي عن كل إثم وعدوان، قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2)، والخطاب هنا موجه إلى المجتمع الإنساني بكل أفراده ودوله ومنظماته وجمعياته، قال الإمام القرطبي: “وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى”. ويقول ابن حزم: “أما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إِلى كل اثنين فصاعدًا”، حيث أمر الله تعالى الإنسان بالتعاون على البر والتقوى دون إثم ولا عدوان. وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) يشمل الأعمال الخيرية، والمشاريع الاجتماعية في التعليم والصحة والاقتصاد والإسكان.. قال ابن خويز منداد في أحكامه: “والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته”، ولا شك أن هذا تمثيل لا حصر، فكل ما ينطبق عليه مسمى البر والتقوى فيجب فيه التعاون، وكل عمل يصلح الارتفاقات التي بني عليها نظام الإنسان، فهو من البر الذي يجب التعاون عليه.
فالقرآن خطاب هداية الناس إلى ما يصلح علاقاتهم مع خالقهم، من غير أن يغفل الواجب الاجتماعي والإنساني، المتعلق بعلاقات الناس فيما بينهم، وإدارة اختلافاتهم، ومن ثم يعود معنى البر والتقوى إلى الصلاح والتقوى الاجتماعيان.
والنهي عن التعاون في الإثم والعدوان في قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) يكون بمحاسبة المفسدين، ورد المعتدين والمغتصبين، وتفعيل القوانين الدولية الخاصة بالمخالفات التي تقوم بها بعض دول الاستكبار العالمي أو المنظمات التابعة لها، وتفعيل القوانين الوطنية والمحلية في حق مخالفات الأفراد، والجمعيات، والمنظمات، والأحزاب الوطنية.

(*) رئيس مركز تدبير الاختلاف للدراسات والأبحاث بفاس / المغرب.
المراجع
(1) الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، الريسوني، دار الكلمة، القاهرة-مصر، ط/1 (1434هـ/2013م).
(2) كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، محاكمات، المكتوبات، بديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم صالحي، شركة سوزلر للنشر، القاهرة-مصر، ط/4، (2004م)، ص:139.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العزيز بن عبد السلام (ت 660هـ)، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (1414هـ/1991م).
(4) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ت 671هـ)، تحقيق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية، (1423هـ/2003م).
(5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي (ت 1376هـ)، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط/1، (1420هـ/2000م).
(6) المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي، شرحه وضبطه وصححه وعنون موضوعاته وعلق حواشيه: محمد أحمد جاد المولي بك، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط/3.
(7) النظر الشرعي في بناء الائتلاف وتدبير الاختلاف: دراسة تأصيلية تحليلية، محمد رفيع، دار السلام، القاهرة، ط/1، (1433ه/2012م).
(9) المعجزة الكبرى القرآن، محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ)، دار الفكر العربي.
(10) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (ت 456هـ)، تحقيق: محمد ابراهيم نصر، عبد الرحمان عميرة، دار الجيل، بيروت.
(11) أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، خير الدين التونسي، تحقيق: محمد الحداد، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني بيروت (1433هـ/2012م).
(12) حجة الله البالغة، الدهلوي، حققه وراجعه السيد سابق، دار الجيل، ط/1 (1426ه/2005م).
(12) الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1417هـ، بيروت.