علومنا الإسلامية والسياق الكوني المعاصر (4)

خامسًا: العلوم الإسلامية سبل تجاوز الإشكالات وآفاق التجديد

كان مدار العلوم الإسلامية، كما سبقت الإشارة – منذ مبتداها على النص المؤسِّس نشأة وتداولاً، حيث كانت في منطلقها متمثلة له علمًا وعملاً، مما جعلها تنفتح على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه، ورغم ما هي عليه اليوم في وضعها الحالي، فإنها تبقى قادرة على إلهام المفكرين وإعطائهم مجموعة من الآليات في غاية الفاعلية لتيمم شطر قِبلات أهدى سبيلاً.. وذلك من خلال:

1- وصل حوار العلوم الإسلامية مع القرآن الكريم

حين ننظر في القرآن المجيد نجد ضربين من العلـــوم علـــوم التسخيــــر انطــــلاقـًـــا مــــــن قـــــول الله تعالــى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13)، وعلوم التيسير انطلاقًا من قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(القمر:17).

علومُ التسخير تُدرَك من خلال النظر والتفكر (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ)(آل عمران:191). وعلوم التيسير يمكن استخلاصها انطلاقًا من التدبر (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24).

والملاحظ هو أن علوم التسخير تطوّرت، وعلوم التيسير لم تتطور بالشكل ذاته؛ فعلوم التسخير تطورت بفضل الحوار المستدام بين الإنسان والكون، واجتهاد الإنسان من أجل استخلاص معالم الأبجد الكوني، واللغة التي بها يتم الحوار مع الكون، ممّا أدى إلى انفجار كل هذه العلوم التي نراها اليوم من الصناعات البسيطة إلى السبرنيطقا (La Cybernétique) في تعقيداتها الكبرى، وكذلك في مجالات (Synthetic Life) أي الحياة الاصطناعية التركيبية.

وتَبرز من خلال النظر في هذا الصوب قضية أخرى، دائمًا في ارتباط مع عدم تطور علوم التيسير، وهي وجود نبض معرفي رائع عند علماء الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين… حيث فُتح ملف علوم التيسير، كما رأيناه مع الإمام الشافعي في كتابه “الرسالة”، والإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والفقهاء السبعة قبل ذلك، حيث برزت بوادر علوم الفقه وأصوله؛ وعلوم القرآن والحديث واللغة والكلام وعلوم أخرى شكلت، بالفعل، مداخل للاستمداد من الوحي، ومن القرآن المجيد.

لكن بعد فترة قليلة من ذلك رأينا انحسارًا غير قليل في هذه الجهود وفتورًا في ذاك النبض؛ إذ حصل عجز اللاحق أمام عمل السابق بسبب تعظيم وتعزيز في أصلهما محمودين مباركين، غير أن ممارستهما غير الراشدة قد تؤدي إلى عدم التكامل بين مختلف أجيال الأمة وراء أسوتها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبدأت تبرز عبارات مثل “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وأضحت كثير من الجهود إثر ذلك، شروحًا لأعمال المتقدمين أو تصنيفًا لها أو حواشي عليها أو تذييلاً على الحواشي.

مع أننا حين ننعم النظر نرى بجلاء أن ثمة واجبًا دينيًا يتمثل في التجديد المستمر، وهو الذي يعبر عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يقول فيه: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين” (رواه الإمام أحمد) . فالتجديد في علوم التيسير في كل هذه المناحي أمرٌ فريضة على أهل الأمانة من العلماء، غير أننا نجد أن هذه الوظيفة لم يُستمر في القيام بها على وجه الكفاية كما يحض على ذلك هذا النص الكريم وأمثاله.

إن التجديد في هذه المناهج هو الذي من خلاله يمكن أن يتم إسهامُ المسلمين وشراكتهُم في تشكيل التاريخ المعرفي والحضاري الكوني، انطلاقًا من قوة اقتراح قابلة للفهم وللفحص، متأبّية على الردّ والتفنيد، وإلا فإن هذا التاريخ المعرفي والحضاري العام سوف يستمر في التشكل ونحن غيابٌ هذا الغياب الجزئي.

والذي يستطيع أن يحاور القرآن المجيد في موضوع مخصوص، لا بد أن تكون تضاريس عقله قد نحتت، ونقشت، لتكون قادرة على إجراء الحوار في ذلك الموضوع، فمثلاً لا يمكن أن نتصور أن الذي سوف يستخرج بعض معالم المنهج التربوي في القرآن المجيد سوف يكون من خارج علماء التربية؛ لأنه لن يلتقط الإشارات التربوية العميقة والدقيقة الموجودة في القرآن المجيد، إلا من قد نقشت تضاريس عقله بحسب مقتضيات هذا الفن، وأصبحت عنده ردود الأفعال التي تجعله ينتبه إلى هذه الإشارات الموجودة بخصوص التربية في القرآن المجيد.

لكن المشترك بين هذا الذي سوف يحاور القرآن المجيد في علوم التربية، وذلك أو تلك الذي أو التي سوف تحاور القرآن المجيد في علوم البيئة، أو الذي سوف يحاوره، أو تلك التي سوف تحاوره في مجال الاجتماع، أو في مجال المناهج، أو في مجال السياسة، أو في مجال السبيرنيطيقـــا، أو فــي أي مجال مـــن المجالات، لا يمكن إلا أن يـكون ذا أو ذات خلفية في هذا الباب لكي يكون الاستعداد للحوار، وبهذا تنفتح أمامنا فعلاً آفاق متعددة متنوعة ومتكاملة في آن بين كل هذه الفئات.

ولكن في قدر مشترك ينطلق مما تقدم، أي العلم بطبيعة القرآن المجيد، وكذلك الاستمرار في الحوار مع القرآن المجيد مع استجماع الوسائل المُمَكِّنة من ذلك، وهذه الشروط قد نص عليها علماؤنا في مظانها كالإمام السيوطي (ت 911 هـ) في “إتقانه”، والإمام بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) في “برهانه” بكلام جامع، ومانع، يعتبر المنطلق للتعامل البنّاء مع القرآن المجيد، والذي من خلاله سوف يتمكن الإنسان من القيام بوظيفته؛ والتي هي نقل الهداية للتي هي أقوم الكامنة في القرآن الكريم إلى دنيا الناس، كما في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(الإسراء:9).

وهذا التقرير وحده لو أننا أعملنا فيه الفكر، واجتهدنا لفهم أبعاده، لرأينا أن ثمة اختلالاً ما، فلو أننا تساءلنا سؤالاً أوّلاً، انطلاقًا من تقرير الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، وبما أن هذا تقريرٌ إلهي، فهل يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟ هل يمكن تصور حالة لا يهدي فيها هذا القرآن للتي هي أقوم؟ بالطبع لا. وإذا كان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، هل حالنا اليوم ينطبق عليها أنها التي هي أقوم في كافة المجالات؟ وما هي المجالات التي يمكن أن نزعم أنها داخلة في التي أقوم؟ وما هي المجالات التي يمكن أن نقرر أنها ليست داخلة في التي هي أقوم؟ وما هي معايير ذلك؟

ولا شك أن عددًا من المعارف، وعددًا من العلوم التي تفتّقت ذات اليمين وذات الشمال، علوم من شأنها تمكيننا من أن نبدأ في علم منهاجيّ جديد، فقط من خلال آية سورة الإسراء، مثل أن نحدد معايير التي هي أقوم في كل مجال على حدة، وأن نستدرك التخلف والتراجع عن التي هي أقوم، لكي نرجع إلى التي هي أقوم.

2- إحياء سنة التساؤل

واضح من خلال النظر العام في تاريخ الإنسان أن التساؤل رافعة أساس من رافعات الكسب البشري فوق هذا الكوكب، وأنه يتشعب على احتمالات لا انتهاء لها: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(الليل:4)، احتمالات يكون المحدد لها هو رغبات الإنسان وميوله وطموحاته وآماله. وذلك من خلال ما تستدعيه هذه الدوافع من تساؤلات تتسق معها، وعلى قدر إتقان التساؤل، وإتقان استخلاص الإجابات عنه تكون فاعلية الإنسان في الكون المحيط به. وهو تساؤل ينبغي أن يكون -كما إجاباته- باللغة التي يفهمها الكون.

وحين كف الحوار في واقعنا الحضاري مع الكون للأسف، رأينا أننا أصبحنا نستهلك المنتجات التي ينتجها غيرنا؛ لأن علوم التسخير، رهينة بالقراءة في الكتاب المنظور، وأصبحنا عالة على ما كان عندنا قبلاً، قبل أن نحتك بهذه الحضارة التي استمرت في حمل المشعل الذي استلمته غلابًا من عندنا، واستمرت في هذه القراءة وفي هذا الحوار، توظيفًا للكشوفات التي حصلت قَبلاً بناء عليها وإضافة إليها.

فحين كف الحوار مع الكون في عالمنا، وفي فضائنا الحضاري، أصبحنا عالة على ما كان.. فحين تغيب علامات الاستفهام، يغيب المنهج، لأن الذي يشي بالمنهج ويكشف عن وجوده هو التساؤل، وهو ما يبرز في قوله سبحانه: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (النبأ: 1-3) وتستمر التساؤلات إلى قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)(النبأ: 17)، حيث تختم الحياة بيوم الفصل، يوم القيامة، مما يعني أن التساؤل وجب أن يكون مرافقًا للإنسان إلى أن تنقضي حياته. نصوصنا اليوم فيها عقم من حيث علامات الاستفهام، وهو مؤشر على الحالة التي يوجد عليها الحوار مع الكتابين في عالمنا اليوم.

وواضح من خلال النظر العام في تاريخ الإنسان أن التساؤل يتشعب على احتمالات لا انتهاء لها: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، احتمالات يكون المحدد لها هو رغبات الإنسان وميوله وطموحاته وآماله، وهو ما يستدعي تساؤلات تتسق معها.

إن تساؤل الإنسان إذن -في هذا الكون ومعه- هو حركته، وهي حركة تشكل الدوافعُ والنـزعاتُ الكامنةُ المولدَ لوجهتها. يمكن إذن تشبيه حركة الإنسان في الكون بحوار -إذ كلما حصل على جواب من الكون حوله إلى سؤال آخر أكبر، كدحًا إلى الملاقاة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ)(الانشقاق:6)- فإن كان الحوار مثمرًا، والإثمار مسؤولية يتحملها الإنسان لأنه هو المسخِّر والكون هو المسخَّر، أصبحت حياة الإنسان في الكون ممكنة، وإلا فإنها تنعدم.

وتاريخ الإنسان يحفل بحالات عسر الحياة أو انتهائها التي نجمت عن عجز الإنسان عن إجراء الحوار المثمر مع الكون، فالأرض قد قدَّر رب العزة فيها أقواتها؛ (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)(فصلت:10)(1)، غير أن ثمة أيضًا تجارب مرت تبين أن الحياة تستمر، ولكن بتردٍّ مستمر عبر دركات ومهاوي الذلة والحيرة والتبعية. وما ذاك إلا بسبب تداعي الرغبات غير المنتظمة في نسق مشروع بيِّن العواقب يجعلها (أي الرغبات) تولد طاقة دافعة لتحقيقه.

إن تنوع وتعدد أسباب العيش وأماكنه والحوائل دونه، وكذا تعدد طموحات الإنسان وآماله التي يريد أن يبلغها، وتعدد وتنوع آلامه التي يريد الفرار منها يفرض عليه تقلبًا دائمًا في المواقع، وهي مواقع ليس يسهل عليه منها جعل حركته معانقة لقبلته، فيصبح التوجه ضرورة في حياة الإنسان، لكونه شرط هذه المعانقة. فللسلامة والفوز لا بد من المعرفة بالقبلة التي ينبغي أن يسجد نحوها ويقترب منها: (كَلَّا لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق:19) ولا بد من إبصار العلامات / البصائر الذي تُحدد الوجهة السليمة نحو القبلة انطلاقًا منه: (وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(النحل:16)، (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)(الأنعام:104)، كما أنه لا بد من الحركة وفعل السجود، إذ لا معنى لمعرفة القبلة وتحديد الوجهة إن لم يكن هذا يستتبع حركة وسجودًا نحوها.

فإذا نحن نقلنا النظر من الإنسان فردًا إلى الإنسان جماعة حيث يكون السعي شتى، (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)(الليل:3-4) وحيث بالتبع تتعدد المواقع بتعدد الناس، وما يستبطنه كل واحد منهم من دوافع؛ فإن التحدي يصبح أكبر، ومفاده هو: كيف يُحصّل الانتظام نحو القبلة الواحدة عبر هندسة لمختلف الوجهات تجعل حركة متوجهيها متكاملة متضافرة غير متضاربة ولا متنافية؟ بعبارة أخرى: كيف تصبح هذه الجماعة المقبلة في ظل الوحي المُعلِم بالقبلة قادرة على إبصار الآيات والبصائر المحكَمة المفصَّلة المصرَّفة التي تعين على تحديد الوجهات المتكاملة، لكل من موقعه، فتصير الجماعة أمة تؤم قبلة واحدة.

إنه لا مناص لكي توجَد الأمة من إمام يهدي إلى القبلة بسيره الراشد، كما يهدي إلى منهج تبيُّن الوجهة نحوها، بتلاوة الآيات والبصائر، وبتزكية أفراد الأمة كيما يشكلوا باجتماعهم جماعة مقبلة على ربها، كما يهدي بتعليم الحكمة الممكّنة من تأويل الآيات والبصائر والعمل بمقتضاها.

إن خلق الكائنات -ما خلا الإنسان- مُعَرَّفة الحركة والوجهة، أي دوام سجودها وحتميته -كما تقدم- يجعل من الحركة والوجهة في المجال الكوني شيئًا واحدًا. إذ الكائنات ما خلا الإنسان تتمكن من الحركة نحو قبلتها ابتداءً، إذ هي كما أعطيت الخلق أعطيت الهداية: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت:11)، (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(طه:50)، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأعلى:1-3). فالحركة والوحي في المجال الكوني بناء على هذا مندمجان بخلاف حالهما في المجال الإنساني حيث هما منفصلان، فالإنسان لا يتمكن من السجود إلا بقدر تخلصه من مختلف السجون المحتوشة(2) له واضطلاعه بالأمانة التي حملها دون الكائنات كلها: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72).

فالذي يمكِّن من الفعالية في الحركة هو فقه علوم الكون (علوم التسخير). والذي يمكن من الرشد في الوجهة هو فقه علوم الوحي (علوم التيسير).

وفي الآن ذاته فلا الكون ولا الوحي يجعلان السجود حتميًّا في المجال الإنساني بل يجعلانه ممكنًا وعلى الإنسان اتخاذ القرار بتحقيق ذلك في حياته فردًا وأمة.. فالعطاء غير مجذوذ ولا محظور يقول تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)(الإسراء:18-19)، وفرصة الإنسان حياته؛ فإما اهتداء وإما ضلالاً.

وقد أثبتت تجربتنا التاريخية المشتركة أن الرشد الذي برهنا عليه مجتمعين لم يبلغ درجة الكفاية، حتى في إطار تديناتنا المتنوعة، فالقراءة للتاريخ تثبت أن تعاطينا مع الوحي وهداياته لم يكن فيه -في الأغلب- التوجّه لهذا الوحي لنستمد منه أجوبة عن سؤالاتنا، وإنما كان تعاملنا معه -على الأعمّ- تعاملاً استعماليًا من أجل أن ننصر به قضايا ضيقة، أو أن نقضي به أغراضا زائلة، وقد يقارف هذه القضايا وهذه الأغراض في كثير من الأحيان إضرار بالذات أو بالمحيط، أو بهما معًا.

3- ضرورة وعي الموقع والتجسير بينه وبين هذه العلوم

من أُولى علامات الحضور والشهود الحضاريين عند أمة من الأمم قدرتها على فهم واستيعاب ما يحيط بها من أحداث ووقائع، وتبين ما يكمن وراءها من مفاهيم ومعتقدات وقيم ومناهج وأفكار، وكذا قدرتها على بلورة مواقف إزّاء كل ذلك؛ مواقف يتم قياس جدواها بحسب تأثيرها في تأطير السلوك العام وتعبئته لاجتناب مصادر الخلل، وكذا القدرة على صوغ أحلام لها قدرتها التعبوية المُوجهة لجهد الإنسان في تناسق مع المكان، واستعمال راشد للزمان. ومن المؤسف أن نرى أن كسب أمتنا في هذه الاتجاهات قد غِيض وانحسر منذ زمن غير قصير، فانفكت عرى العلاقة مع الواقع والكون والوحي، وطفقنا نتعامل مع هذه المصادر الموجهة لكسب الإنسان، تعاملاً تجزيئيًا واجتراريًا ومقلدًا في بُعد تام عن التكامل بينها.

ولا يختلف اثنان اليوم أن من أبرز سمات عالَمنا الراهن، التركيب، والتداخل، والسرعة وفداحة وكِبَر الآثار التي تترتب عن التصرفات بسبب ذلك، ومن هنا فإن من مقتضيات العيش في العصر الراهن القُدْرة على استيعاب هذه السمات من جهة، ثم القدرة على التجاوب معها بفعالية وإيجابية من جهة ثانية.

ذلك أن إنتاج الهدي من القرآن والسنة النبوية متوقف على فهم الوحي الذي يُتدين به والواقع الذي يُتدين فيه وأخذ بعين الاعتبار آليات التأقلم والتكيف بين الطرفين.

ونحن في هذه المرحلة أحوج ما نكون إلى فتح الأبواب على الواقع كما هو، لنتمكّن من إدراكه على ما هو عليه، لنكون أقدر على تصييره ذلك الواقعَ الذي نحلم به، فكلنا نحلم بالتسامح وبالجمال وبأن تكون البشرية متعاونة على البر والتقوى فوق هذا الكوكب، ولكن الواقع يُثبت أن ثمة سوابق معرفية وبرديغمات تؤطر الأذهان، ومن خلال هذا التأطير تُوجِّه الواقعَ وسلوكَ الإنسان. وبالتالي فإنه لا بد من فتح هذه المنطقة ودخولها لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها؛ وهي خمسة أمور لا يمكن تصوّر تحققها بدون اعتماد مستلزماتها ومقتضياتها، وفي طليعتها الأساس المعرفي البحثي العلمي.

ففتح رمّانة المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات والقيم والمعايير، وإحصاءُ حبّاتها عددًا، وقياس تأثيراتها، وتتبع تجلياتها في حياة الناس أفرادًا وجماعات، أمر لا يمكن بدون ركوب مَركب المعارف المساعِدة، والتشميرِ للقيام بالبحث العلمي اللازم بالمناهج الملائمة، مراعاة للسياقات التاريخية والحضارية والثقافية المتنوعة.

كما لا يمكن تصور دخول هذه المجالات المركّبة دون الاستثمار الزمني والنفسي والذهني والمادّي الملائم، إذ هو دخول لا يمكن أن يتم دون التعاطي الميداني التفاعلي المباشر مع أهلِ ومكونات الحضارات المختلفة.

أما الاستكشاف، فلا يمكن تصوّر وقوعه بدون ما يلزم من آليات منهاجية ولغوية للتعايش مدخل الاستكشاف، وكذا يلزم من مهارات ومقتضيات مادّية لدراسة العلوم والآداب والفنون والصنائع والشرائع والنظم، والتي هي جميعًا مُتجلّى المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات المؤطرة والقيم والمعايير، مع ضرورة مواكبة ذلك كله بالانتباه المتوفّز للفروق بين مختلف الحقول العلمية والعملية، والتفاوتات التاريخية، ومع الملاحظة الدقيقة والجمع المستوفي للمعطيات مع دراستها وتحليلها بالمناهج الملائمة، وهي مناهج يضطر المستكشف في كثير من الأحيان أن يبنيها بناء.

كما لا يمكن تصور القيام بتنقيةٍ، دون امتلاك ناصية المعرفة الدقيقة بالأصول والمنطلقات، إذ لا تعدو التنقية في نهاية المطاف تصفية الأمور ممّا يشوبها عبر الزمن وردّها إلى أصول نشأتها الأولى دون تمحّل ولا تكلّف، كسحًا للألغام المفاهيمية، والإعاقات التصورية التي قد تتسرّب إلى هذه الأنساق خلال مساراتها التاريخية وتقلباتها الاجتماعية، فتحجمها وتلجمها أو تفتحها على سراديب الكلّيانية والعنف الحضاري والدمار المدني.

لا يخفى أن هذا التجسير أمر عملي إجرائي بامتياز يقتضي وضوحًا في عناصره الثمانية، وهي:

  1. التوجيه: هو الجانب الاستراتيجي التقديري.
  2. التخطيط: هو عبارة عن تصميم في مجالات الإنسان والمجال والزمان والإمكان لبيان كيفية تنزيل هذه الاستراتيجيات على أرض الواقع، وبرامج ذلك وما يحف بها من إجراءات وضبط وتدقيق.
  3. التشريع: وهو عبارة عن الشرائع والقوانين المؤطرة والميسّرة والحامية لعمليات التنزيل.
  4. التنظيم: وهو عبارة عن كيفية تدبير سائر عمليات التنزيل والموارد البشرية والتقنية والمادية المعينة على ترتيب ذلك.
  5. التعيين: للمسؤولين عن هذا التنزيل أفرادًا ومؤسسات، وفق مؤشرات وظيفية واضحة.
  6. التمكين: فلا معنى للتعيين دون منح الإمكانات المادية والمعنوية المسعفة في القيام بوظائف ومقتضيات التنزيل.
  7. الإنجاز: أي لكل ما سلف.
  8. التقويم: وهو الذي يمكّن من النظر في ثمرات هذا التنزيل وتطويرها.

(*) الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء / المغرب.

الهوامش

(1) ألا ترى إلى اليابان المشكل من جزر كثيرة الزلازل والميَدان كيف استطاع أهله جعل الحياة فيه ممكنة بإحسانهم لغة الحوار مع الكون؟

(2) يتخلص من سجن نفسه (أهوائه، غرائزه، نـزعاته..) بالمجاهدة والتزكية، ومن سجن محيطه بالتوكل، ومن سجن العقائد والمفاهيم الباطلة بالإخلاص، ومن سجن الأشياء بالتوق إلى الآخرة المنتج للزهد، ومن سجن الطاغوت بالجهاد الكبير بالقرآن وما يوجه القرآن إلى الجهاد به.