أطلق علماء اللغة العربية كلمة الحيل على ما عرف عند اليونان بكلمة ميكانيكا  Mechanec والتي كانت تعني كل الفنون المتعلقة بالمهارة والبراعة والحذق. ومن خلال البحث في بعض مؤلفاتهم فإننا نجد الحيل والحول والحال ألفاظ تنطوي على معاني تتعلق بالحركة والمتحرك والقوة والتغير والثبات والسقوط والعجلة والنقل والاستطاعة والتحول والحذق والقدرة والماء الساكن والمهارة. ومن هذه الجذور اللغوية اشتقوا مصطلح علم الحيل بملاحظة دقيقة لما بين الدلالة المعنوية للفظ وموضوعات علم الحيل القائمة منطقياً على منهجي الاستدلال والتجربة لأن المهندس يحتال في تنفيذها بالخبرات العملية المجرية والابتكارات غير المألوفة، ويجمع بينهما بالإبداع الذهني، وهذا يدل على أهمية إدراكهم أجزاء هذا العلم وتمرسهم فيه من خلال الغوص في مفاهيمه النظرية وتطبيقاته العملية في مرحلة متقدمة من نهضتهم العلمية.

إن ازدهار علم الحيل العربي كان يعني ازدهار العلم والتكنولوجيا، لا سيما أن الدولة العربية عملت على تطوير هذا العلم، واهتمت بالقائمين عليه (علاقة بني موسي 259هـ – وابن الهيثم 430هـ وإسماعيل الجرزي 607هـ وتقي الدين الراصد 993هـ- بالسلطة). ويمكن القول إن إرهاصات العصر الذهبي للعلم والتكنولوجيا العربية كانت في زمن الخليفة العباسي المأمون 218هـ ووصلت إلى العصر الأندلسي ممثلة بعباس بن فرناس 274هـ ثم بأبي الصلت الداني 529هـ وابن خلف المرادي في القرن الحادي عشر الميلادي ثم إلى العهد العثماني بأعمال تقي الدين الراصد الهامة.

وقد مثل هذا علم هؤلاء العلماء الجانب التقني المتقدم في علوم الحضارة الإسلامية حيث كان هؤلاء المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها تقنيًا في كل ما يخدم الدين ويحقق مظاهر المدنية والإعمار. تجلي ذلك على النطاق المدني في إنشاء أقنية الري وفي إقامة النواعير وطواحين الماء وفي صناعة النسيج والورق والسكر والزيوت وغير ذلك. إن التقنيات التي كانت تشغل تلك الأجهزة البارعة تنطوي على أهمية قصوى، إذ إن الكثير من التكنولوجيا الحديثة وليد تلك الآلات البارعة لا سيما ميدان التقنيات الدقيقة والأجهزة الطبية.

يقول مؤرخ العلم جورج سارتون George Sarton في كتابه تاريخ العلم العربي: “إن المعطيات العربية التكنولوجية وصلتنا بشكل مباشر أو غير مباشر لأن المهندسون والحرفيون العرب القدامى لسبب أو لأخر لم يأبه بعضهم لتسجيل نتائج تجاربهم وأعمالهم، بل نقلت أكثرها من شخص إلى آخر ومن جيل إلي جيل إما بالإرشاد الشفهي أو بالتقليد. لذلك فليس من السهل دائما تحديد السبيل الذي اتخذته هذه الإنجازات في الانتقال من العرب. لكن المؤكد أن المؤرخين للتراث والعلم العربي يعترفون بأن هذه الإنجازات لم تكن ابتكارات غربية بل انتقلت إلى أوروبا من العرب بشكل مباشر أو غير مباشر.

ريادة العرب في النهج التجريبي والتكنولوجيا العلمية -علم الحيل (الميكانيكا)

وجد العلماء العرب والمسلمين أن أسلوب التفكير الفلسفي والمنطقي. وإن كان يفي بمتطلبات القضايا الفكرية، إلاَّ انه لا يكفي وحده لمعالجة المسائل الطبيعية وقضايا المادة، ومن ثم استعانوا إلى جانبه بالتجريب وجعلوه سبيلا أساسياً للتوصل للمعارف العلمية. وغلب عليهم المنحى التجريبي لدرجة أنهم كانوا يجرون تجاربهم في مسائل لم تكن تخطر على بال العلماء الإغريق وغيرهم. وخير مثال على ذلك تجارب ابن الهيثم على الضوء، وتجربة البيروني لاختبار مقولة أن النظر إلى الزمرد يسيل أعين الأفاعي. وتجارب الجرزي في الحيل وآلات رفع الماء. ومما ساعد علماء العرب والمسلمين على التجريب أن قيم الإسلام جعلتهم لا يستنكفون العمل بأيديهم. وأنه مع الانفتاح الطبقي الذي جاء به الإسلام لم يعد العلم برجا عاجياً مغلقاً على أبناء الطبقة العليا، بل صار ميدانا يرتاده أرباب الحرف والوراقون وحتى الأرقاء، ويبلون فيه بلاء حسناً إلى جانب أبناء السر العريقة. فموقف الإسلام والدين من الصناعة والحرف موقفاً واضحاً لا لبس فيه فالعمل كان ولا يزال هو ميزان تقدم الأمة، والمهارة في إتقانه هي مقياس الحضارة، والوفاء بالعمل هو الهدف الذي يسعى إليه الإصلاح الاجتماعي.

وترتب على غلبة النهج التجريبي، وعلى دخول أبناء الحرف الصناعية في دائرة أهل العلم أو في خدمتهم وعلى رغبة علماء العرب الدائمة في رفع درجات دقة بحوثهم، بأنهم تفوقوا كثيرًا علي الحضارات السابقة في مجال التكنولوجيا العلمية، ونقصد بها ذلك النوع من التكنولوجيا المختص بتطوير العلم ذاته وتيسير إجراء العمليات البحثية كالأرصاد والقياسات المختلفة، ومن ثم طور المسلمون مختلف الآلات البدائية التي عرفها اليونان والهنود والسريان – الذين كانوا جميعاً أكثر اهتماماً بالفكر النظري منهم إلي التجريب العلمي- إلي آلات وأجهزة راقية دقيقة وسهلة الاستخدام، وهذا ينطبق علي أدوات القياس المختلفة كالمساطر والموازين وآلات الرصد الفلكي وأجهزة التجارب والتحضيرات الكيميائية وآلات الجراحة وسائر الآلات الطبية، ولم يكتف العلماء العرب والمسلمين بالتطوير وإدخال التحسينات، بل ابتكروا آلات وأدوات جديدة تماما مثل ابتكار جشميد الكاشي للآلتي طبق المناطق ولوح الاتصال، وابتكار الشريف الإدريسي للكرة الأرضية وابتكار الجرزي لخمس آلات لرفع الماء تضمنت ميزات خلفت أثراً كبيراً في تاريخ صناعة الآلات. وقد جمعت إحدى هذه الآلات بين جذع التدوير ومجموعة من المسننات، وكانت تلك أول آلة من هذا النوع في التاريخ، أما الآلة الثانية من ألآت الجرزي فهي النموذج الأول للمضخة المائية التي مهدت الطريق لابتكار المحرك البخاري وآلات الضخ التي تعمل بالمكابس أو الاسطوانات المتداخلة.

يقول الدكتور دونالد هيل Donald Hiell المهندس والمؤلف التاريخي والمستشرق الإنجليزي: “لقد تميز المجتمع الإسلامي منذ أول عهده ببناء المدن الكبيرة كبغداد والبصرة، وقرطبة والقاهرة والقيروان، وغيرها. وكان لابد لازدهار هذه المدن من نشاط يوازيه في الزراعة والصناعة وفي الأراضي التي تحيط بها. ليكفل الغذاء والكساء والمأوي لأهالي هذه المدن ويزودهم بمورد للرزق على شكل تجارة رائجة. وقد وقع عبء تحقيق ذلك على كاهل من نطلق عليهم في هذه الأيام لقب المهندسين. أي المكلفين ببناء الجسور والسدود للري وبناء الآلات رفع المياه والمطاحن المائية والنواعير”.

ويتأسف دونالد هيل أن العرب لم يتركوا في هذا المجال حقل الآلات الهندسية ذات التطبيق العملي في الصناعات والري من إنجازاتهم كتب مسجله سوي ثلاث كتب: الحيل لأبناء موسي بن شاكر الثلاثة، وكتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل لابن الرزاز الجرزي، وكتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية لتقي الدين الراصد. ويرجع سبب ذلك أن العلماء العرب اعتبروا هذه الإنجازات والاختراعات أموراً عادية لا تستحق الذكر.

بديع الزمان – الجزري- نموذجاً.

بديع الزمان أبو العز أبو بكر إسماعيل بن الرزاز، (561- 607هـ/1165-1210م) الملقب بالجزري نسبة إلى موطنه أرض الجزيرة وهو القسم الشمالي من المنطقة المحصورة بين نهري دجلة والفرات بالعراق. يكتب اسمه بأحد الهجائين في اللغات الأوربية Al-Jazari أو Aljazari .

مهندس ميكانيكي ومخترع عظيم، إنجازاته تعد مثالاً لما بلغته الفنون الهندسية والصناعات الميكانيكية من مكانة متقدمة في ظل الحضارة العربية الإسلامية.

درس الرياضيات وما توافر في عصره من معلومات فيزيائية ومعلومات خاصة بالتطبيقات الصناعية، وقرن الدراسة النظرية بالتجريب. وكان لا يثق بالنظريات الهندسية ما لم تؤكدها التجارب العملية.

خدم الجزري في بلاط ملوك ديار بكر التركمانيين الذين كانوا تابعين للدولة الأيوبية في عهد مؤسسها صلاح الدين وكان الجزري مكلفاً بصفه خاصة بصنع الآلات الميكانيكية مثل أجهزة التوقيت وآلات الزراعة والري والألعاب العجيبة المسلية، وقد رفعته خبرته العلمية وقدراته الابتكارية إلى مرتبة ريس الأعمال أي كبير مهندسي الدولة.

أهم إنجازات الجزري في علم الحيل العربي.

تقع إنجازات الجزري في دائرة الاختراعات الميكانيكية وصناعة الآلات، وكان هذا المهندس البارع معنياً بصفة خاصة باستخدام الحقائق العلمية والخبرة التكنولوجية في صناعة ما ينفع المجتمع من آلات مبتكرة.

كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل:

ألف الجزري هذا الكتاب وزوده بعدد وافر من الصور والأشكال التوضيحية، بناء على طلب الملك ناصر الدين محمود بن محمد التركماني الذي رأي أن يجمع فيه الجزري معارفه وخبراته لئلا تفني معه، ومن العجب أن الجزري توفي في نفس العام الذي أنجز فيه هذا العمل الكبير.

يقع الكتاب في خمسة أجزاء يختص كل منها بقسم من أقسام الحيل أو تكنولوجيا الصناعات.

أطولها قسم الساعات المائية، وقسم آخر يعالج موضوع آلات رفع الماء. أما ساعات الجزري فكانت تستخدم دمي ذاتية الحركة لتشير إلى مرور الوقت، مثل طيور تقذف من مناقيرها كرات صغيرة فوق صنوج، أو أبواب تفتح ليخرج منها أشخاص، أو دوائر بروج تدور، أو موسيقيين يقرعون الطبول وينفخون الأبواق، وفي معظم هذه الساعات كان المحرك الأول ينقل الطاقة إلى الدمى بواسطة أنظمة بكرات بالغة الدقة.

وأما قسم آلات رفع الماء ففيه وصف لتصميم مضخة يعتبرها المؤرخون، الجد الأقرب للآلة البخارية، وتتكون هذه المضخة من ماسورتين متقابلين، فيكل منهما ذراع تحمل مكبساً اسطوانياً، إذ كانت إحدى الماسورتين في حالة ضغط أو كبس فإن الثانية تكون في حالة سحب أو شفط. ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المتضادة يوجد قرص دائري مسنن قد ثبت فيه كل من الذراعين بعيداً عن المركز، ويدار هذا القرص بواسطة تروس متصلة بعامود الحركة المركزي وهناك ثلاث صمامات على كل مضخة تسمح بحركة المياه في اتجاه واحد.

إضافة إلى أن الكتاب يجمع بين دفتيه موضوعات أخري مثل – تقنية السفن، تقنية أحواض القياس، تقنية النافورات، تقنية آلات رفع المياه التي تعمل بقوة جريان الماء، تقنية بعض الآلات المفيدة كالأبواب والأقفال.

ورغم وجود 50 نسخة أصلية من كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل في مكتبات البلاد العربية والإسلامية، فقد انحسر عنه الاهتمام في عصور التدهور، ولم يحفل به أحد من أبناء الأمة التي ينتمي إليها مؤلفه حتى وقع عليه المستشرقون وتناولوه بالدراسة والترجمة التي يستحقها كتاب فريد مثله!. ولعل من أبلغ دلائل الاهتمام الغربي بهذا الكتاب أن إحدى نسخه الأصلية وهي مؤرخة في عام 715هـ 1354م قد باعتها مؤسسة كيفوركيان في مزاد علني أقيم بلندن في إبريل 1978م بمبلغ مائة وستين ألف جنيه إسترليني.

وحصل الباحث الدكتور دونالد هيل على جائزة دكستر Dakastr العالمية التي تمنح لأصحاب الإنجازات المتميزة في مجالات التكنولوجيا، لترجمته كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل إلى الإنجليزية وكتابة رسالة شاملة عن الجزري وتاريخ التكنولوجيا العربية.

ويقول جورج سارتون: “إن كتاب الجزري: الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل هو أهم سجل هندسي وصل إلينا عن أي حضارة سبقت عصر النهضة في أوروبا، ليس فقط فيما حواه من وصف للحيل والآلات المبتكرة بل لأنه سجل التفاصيل الدقيقة لكيفية صُنع هذه الآلات حتى أن عددا من هذه الحيل أعيد تركيبها على أيدي حرفيين في العصر الحاضر بمجرد إتباع التعليمات التي زودهم بها الجزري في كتابه عن صناعة الحيل”.

تقول المستشرقة الألمانية- زيجريد هونكه Z.Honke نحن مازلنا حتى يومنا هذا نقف فاغري الأفواه دهشة وإعجابا كلما رأينا ساعة كبيرة في مبني البلدية، وما يرافق دقاتها من ظهور شخوص صغيرة متحركة تذكرنا بما فعله العرب في الماضي البعيد حباً بالآلات الميكانيكية وولعاً بها.

لقد كانت الحيل الهندسية في عصر الحضارة الإسلامية مبحثاً مهماً من مباحث العلوم الهندسية له أصوله المنهجية والمعرفية.