علم الأجنة مجهودات رائدة لأطباء عرب

لم يكن غريباً، على تراثنا الطبى العربي، هذا الأهتمام الكبير بعلم الأجنة، هذا العلم الذى يدرس تنامى الجنين، وتشكل أعضائه والآليات التى تتضمن عملية تناميه وتطوره، فقد اهتم الأطباء العرب بهذا العلم أهتماماً كبيراً، و أفردوا له من المؤلفات، وتوصلوا عن طريق الملاحظة والتجربة، إلى نتائج هامة، ساهمت فى تطور هذا العلم، ونتوقف عبر هذه السطور، مع أشهر العلماء العرب فى هذا المجال الطبى، وما قدموه من نتائج، تابع المسير على نهجها أجيال الأطباء فى العالم إلى يومنا هذا.

  • يحيى بن ماسويه

يعد يحيى بن ماسويه، من الرواد الأوائل لهذا العلم من الأطباء العرب، فهو أول من كتب كتاباً مستقلاً فى علم الأجنة باللغة العربية، أسماه “مقالة يحيى بن ماسويه فى الجنين وكونه والرحم” حيث تناول فى هذا الكتاب، الأمور المتعلقة بالجنين تكونه وتطوره، وتمام خلقته وولادته، ووضح أن هناك أختلاف بين الجنين الذكر والأنثى بالنسبة لبدء الحركة، فالجنين الذكر يتحرك عند ثلاثة أشهر، بينما وقت تحرك الجنين الأنثى عند تمام أربعة أشهر، وقد علل ذلك بسبب زيادة حرارة الذكر، أما بالنسبة للتعداد الحسابى لعلم الأجنة، فنجد أن ابن ماسويه، قد أعطى فكرة جيدة فى هذا النمط، حيث أستند فى تفسيره لتطور نمو الجنين على التعداد الحسابى، فقسم أدوار تطور الجنين، إلى ثلاثة أدوار، الدور الأول يبدأ من بداية الحمل حتى تمام الصورة، والدور الثانى من بداية الحركة، والدور الثالث حتى الولادة، وحدد ابن ماسويه، مدة كل دور من هذه الأدوار بالنسبة للأجنة، وذلك بإجراء عملية تضعيف الرقم (7) بالنسبة لحمل السبعة أشهر، والرقم (8) بالنسبة لحمل الثمانية أشهر، والرقم (9) بالنسبة لحمل التسعة أشهر، والرقم (10) لحمل العشرة أشهر، وهذه المراحل هى، مرحلة شبه الرغوة، ومرحلة شيبه الدم، ومرحلة مضغة اللحم، ومرحلة تمام الصورة والتشكل .

  • أحمد بن محمد البلدى

أما العالم والطبيب أحمد بن محمد البلدى، فقد خطى خطوات واسعة فى علم الأجنة، وتوصل عبر كتابه الهام “تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم، ومداواة الأمراض العارضة” إلى نتائج مذهلة، جاء ليؤكد عليها الطب الحديث فى هذا العصر، حيث أسهب فى دراسة كيفية خلق الجنين، وتطور نمو الجنين فى الرحم، بداية من كون الرجل والمرأة بمشيئة الله تعالى كليهما مسؤولان عن صفات الطفل وجنسه، وليس الرجل وحده، لأنه يرث والديه، ثم تحدث عن كيفية تطور نمو الجنين فى الرحم، ففى اليوم السادس منه سقوط فى الرحم حيث يصير المنى زبداً لتحركه، واليوم السابع ينشأ من وسطه أصل وعرق، ملقية عند فم الرحم، ليجتذب من تلك الأفواه ما يحتاج إليه، كما تلقى الغروس المغروسة فى الأرض عرقاً، تجتذب بها الرطوبة من الأرض، ويستمر فى تفسير عملية تكون الجنين إلى أن يقول، اتفق المشرحون جمعياً على أن المنى يتلين على الرحم، ويصير منه غشاء، وأنه أول ما يتبين فى خلق جسم الحيوان، شبيه ثلاث نقط متقاربة بعضها من بعض، يتوهم أنها رسم الكبد والقلب والدماغ، ثم يزداد بعضها من بعض بعدما أمتدت أيام الحمل، ثم يقول فأما أن هذه النطفة التى هى أصل هذه الأعضاء الثلاثة أقدم فليس يستدل من التشريح عليها، وأما من الطبيعى إذا يوجب أن يكون أول الأعضاء المخلوقة الكبد ثم الدماغ وإلى تمام أربعة أسابيع يظهر الجسم كله مفصلاً، ويكتمل ذلك أكثر إلى تمام أربعة وأربعين ليله، ويواصل ابن البلدى حديثه عن مراحل خلقة الجنين وتكونه فى بطن أمه فيقول ” ومع إبتداء الفقار وعظم الرأس، يتبدر المخ والدماغ والأعصاب، وعند ذلك يتكون اللحم والشرايين والأوردة من القلب والكبد وتنتشر فى جميع الجسد، وتلتف وترتبط بالعظام، وتتصل وتجتمع بعضها إلى البعض، ويتلوها بعد ذلك الجلد، فتكتمل الصورة ويتم الخلق، وتتميز العينيان والأنف وجميع الأعضاء وتجرى فيها الروح والحياة، ويتحرك فى تمام سبعين يوماً، ومنه فى مائة يوم أكثره، فأما فى الثلاثة أشهر الثانية، والثلاثة أشهر الأخيرة أحرى فيهن أن يتولد فيها الشعر، نجد هنا أن ما ذكره عالمنا ابن البلدى يتفق كثيراً مع ما أثبته الطب الحديث بعد ذلك بقرون، حيث أثبت  الطب الحديث، من أن أنتقال البيضة خلال القناة وطفوها فى الرحم، ثم تغرس البيضة نفسها فى بطانة الرحم، وتنقسم الخلايا إلى مجموعتين، الأديم الباطنى، والأديم الظاهر خلال الأسبوع الثالث تضاف المجموعة الثالثة الأديم الوسط وتعتبر هذه المجاميع أساس تكوين أجهزة الجسم المختلفة. كما نجد أن الطب الحديث، وضح جميع فقرات السلسلة الفقرية، وأنسد الحبل الشوكى ظهر للجنين ذنب واضح، وبدأت الأطراف الذراعان والساقان تظهر، ثم تكوين الصدر والبطن، بدأ تكوين أصابع القدمين واليدين، وأتضحت العينيان، الوجه والملامح تتكون تكوين الأذنين، الذراعان والساقان واليدان والقدمان، واصابع الأطراف تكونت كلياً تماماً، وظهرت الأضافر وتكونت الأذنان تماماً، وتبدأ الأعضاء الحسية الخارجية فى الظهور، ويبدأ أختلاف الذكورة والأنوثة، ويستطيع الملاحظ العابر، تمييز جنس الجنين فى هذا الوقت مع حركات الجنين ودقات قلبه، فى نهاية الشهر يظهر شعر دقيق فوق سطح الجلد، وبعد هذه المقارنة ألا يحق لنا أن نعجب بهذا العالم والطبيب المسلم الفذ، لما توصل إليه من نتائج فى زمن لم يكن فيه مجاهر لدراسة أنسجة الجنين، وإن دل ذلك على شيئ فأنما يدل على دقة الملاحظة وطول التجربة والمشاهدة، وممارسة التشريح على الأجنة . أما عن علامات قوة الجنين وضعفه وصحته، فيؤكد البلدى على نقاط أساسية مقبولة من الوجهة العلمية اليوم، حيث يقول ” يكون من حال الحامل فى بدنها ومزاجها، وما يعرض لها من الأمراض والأعراض، لأن أحوال الأجنة متصلة بأحوال الأمهات وبسلامة الحبالى فى أبدانهن وتمام صحتهن وقلة تشكيهن، وطيب نفوسهن، وقلة الأفعال الطبيعية والنفسانية فيهن تدل على قوة الأجنة وصحتهن وسلامتهن، وهذا ما يؤكد عليه الطب الآن، من أثر صحة الأم وأحوالها النفسية على صحة الجنين، فكلما كانت الأم فى صحة جيدة وحالة نفسية سليمة، عاد ذ لك على الجنين بالخير فى صحته، وكلما كان العكس، أثر ذلك على صحة الجنين وبنائه الجسدى والعقلى بالسلب.

  • إسهامات أخرى

ولم يتوقف عطاء العلماء العرب فى علم الأجنة، عند حدود ابن ماسويه، وابن البلدى، بل القائمة تطول، فهناك من صنف فى هذا العلم، وأولى أهتماماً به ونذكر منهم، حنين بن أسحق العبادى، فى كتابه المولددين، وعريب بن سعد القرطبى فى كتابه خلق الجنين وتدبير الحبالى والمولودين، وأبى سعيد بن هبه الله بن الحسين فى كتابه خلق الإنسان، وعلى بن العباس المجوسى، الذى كتب فى كيفية تخلق الجنين، وأن ذلك إنما يتم بامتزاج منى الذكر بمنى الأثنى، ويتولد من المنى الغشاء عند المنافذ التى يجرى فيها الدم إلى الجنين عروق وشرايين، التى تصير إلى الرحم فيتصل العرق منها بفم العرق، والشريان بفم الشرايين.