في كل يوم يتنقّل بين الأقسام يتفقّد مرضاه… فهذا يحتاج إلى كشف طبّي ودواء يُخفف عنه سقمه، وفي الغرفة المجاورة يستلقي آخر ينتظر فكَّ الجبس عن قدمه ليُهرول إلى بيته ويحتضن أبناءه، وفي الطابق الآخر شخص ثالث قد أجرى عملية جراحية هذا الصباح فهو يقف بالقرب من سريره يترقّب حالته ويمسح عنه حبّات العرق التي يلفظها جبينه من حين لآخر.

قد نختلف في الموقع، في الموقف أو الموضع، لكن لا ينبغي أن نختلف في المعنى. فما يجمعنا أكبر؛ إنه التقاء القلوب والعقول في شارع الإسلام والتفافها على موقد الإيمان، بحثًا عن غدٍ أفضل، عن يوم مشرق لهذه الأمة التي لم يبرأ جرحها.

نعم، إنه المعنى، الذي لو انسلخ من المبنى يكون هذا الأخير صنَمًا يُعبد. وهنا يُسمع لمفكّرنا “مالك بن نبي” -رحمه الله- صوت نَفَسٍ عميق يأخذه ويقول: “حين تموت الفكرة يبزغ الصنم”. ومن بعيد نلمح الأستاذ “فتح الله كولن” وهو يهزّ رأسه وكأنه يصادق على كلام أخيه “ابن نبي” فيتلفّظ بهذه الكلمات: “إذا غدا حرصكم على مشاريعكم المستوى المطلوب، وأصبحت هذه المشاريع مبانٍ شاهقة تحجزكم عن الحرص على رضى الله تعالى، فإنها قد غدت أصنامًا، عليكم أن تحطموها”.

المعيار في القيادة

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)(النحل:120)، لقد انطبق هذا الوصف على سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ ولم يتحلَّ به الملايين من الناس، إنها خصائص حملها إنسان فكان بحقٍّ أمة. فالتمكين لدين الله في الأرض لا يُقصد به مجموعة من الأشخاص أو “الأبطال”، بل هو نسيج جماعي يضم عقولاً وقلوبًا متعانقة. إنه استعداد للعمل في شكل جماعي ضمن فريق يؤمن كل واحد فيه بأن لديه دورًا يؤديه؛ أن يحمل مع أخيه العبء، أو يحمل عنه، وإن لم يكن المسلم على تلك الحالة وكان العمل بتلك الروح، فسيفنى المجموع كلّه. وفي هذا المضمار يقول الأستاذ مالك بن نبي: “من لعنة الزمن بأن الإنسان المُقصي يبني، وبذور في تضاعيف بنائه تهدمه”.

إذن ليس الإنسان مجموعة من التفاعلات النفسية المجتزئة عن السياق الاجتماعي، وإذا سلّمنا بذلك نكون قد خالفنا رؤيتنا الكونية الإسلامية. ففي صلاة الجماعة -مثلاً- يقف المسلمون صفًّا واحدًا خمس مرات في اليوم، إن ذلك يحقق الكثير من المعاني السامية؛ كالدقة في الزمن، انتظام الصف، الانقياد للمعنى، الانضباط في كل جماعي… إنهم ينتظمون في صف واحد وينقاد المأموم للإمام، لكن يا ترى كيف يُنقض هذا الغزْل المُحكمة خيوطه بمجرّد الخروج من صف الصلاة؟ فلا أثر لانتظام وانضباط في صفوف الحضارة والتشييد؟ إننا ببساطة نغفل عن تلك المعاني، وأنه لِتَتحرّك الصلاة وتكون محورًا ديناميكيًّا للحضارة، وجب أن نفهمها فهمًا حضاريًّا إضافة للانضباط الفقهي. إنه الفهم الشمولي، والرؤية المتكاملة التي وُلد بها الإسلام؛ هذه الورشة الكبيرة التي يَنشط فيها كل الناس حسب استطاعتهم، وفق مخطط واحد، ذلك أن الانتظام الجماعي هو ما سيلد الحضارة.

﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾

لقد قدّم رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ النموذج المتكامل، وإن لم ينشرح صدر بعضهم للإسلام فلا غبار يكسو صفحات سيرته ومسيرته المباركة. فهذا أعرابي يلقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيُسْلم مباشرة؛ لقد تلاشت الصورة التي نُقلت له عن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، إنه ينظر ويحدّق في الأصل، في النموذج الذي أَسَّس له خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم.

إنها الحاجة الملحّة لتقديم النموذج، والله ـ عز وجل ـ يقول: (وَقُلِ اعْمَلُوا)(التوبة:105)، ففي سياق بناء النموذج المتكامل دور الإنسان أن يعمل ويحترق وأن ينطلق في المعالي، أن لا يدّخر “جهدًا، مالاً، علمًا، عملاً…”. وينبغي التذكير هنا بضرورة أن تُفهم الآية في سياقها؛ فـ(وَقُلِ اعْمَلُوا) لا تعني أيَّ عمل، لكن لنتمعّن النظر ولننصت جيدًا لقوله تعالى ونحن نُتمّ الآية الكريمة: (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

دهان الاستحالة ودهان السيولة

قد يأتي شخص بفكرة عميقة فيُفرِغ فيها شخص آخر دهان السهولة ويقول: “إنها فكرة سهلة”، تموت حينئذ الفكرة ويُقتل الأمل الذي أُبصِرتَ نورَه من بعيد. من جهة أخرى هناك أفكار كثيرًا ما تتلوّن بصبغة الاستحالة المطلقة، فأنى لصاحبها أن يصل أو يحلم بالوصول لتحقيق المستحيل؟

الحقيقة غير ذلك؛ فكل شيء ممكن الحدوث إذا ما فقهنا السنن الكونية، الظروف الزمانية والمكانية، الوعاء الذي نتحرك فيه… إنه اجتهادُ وجهادُ الإنسان ليجمع بين رؤية النسر ودبيب النملة التي تتعثر في حبات الرمل التي تصادفها في الطريق. ذلك بالتأكيد لن يتحقق إلا بالصبر، والله تعالى في خلقه للسماوات السبع في ستة أيام، يعلّمنا أن هذا الكون منضبط بالزمن، وأن لكل أمْرٍ مدة زمنية ضرورية ليستوي ويحقق النضج.

ولنا في قصة سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ الأسوة الحسنة، إذ نجد هذا النبي الضرير الفاقد لابنيه “يوسف ثم بنيامين”، والمتشبّع بروح الصبر الإيجابي يُعلّمنا: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف:87). إنه باب الأمل، يلِجه الإنسان وهو آخذ بالاعتبار لأسباب الكون.

الإنسان الجديد

كيف يمكن للقلوب أن تحيا بهذه الكلمات التي لطالما رددناها صغارًا: “النظافة من الإيمان، والوسخ من الشيطان”، ثم يعيش هذا الإنسان لحظات أُنسٍ وطمأنينة و”الوسخ” يدق كل حينٍ باب بيته، وباب شارعه، وباب وطنه وأمّته؟

إننا إنْ تعوّدنا أن نمد يدنا للآخر لنحصل على لقمة العيش، لنطلب البرء في مشافيه، لنلتهم مختلف المعلبات التي أحسن ترتيبها وعرْضها لنا على أرفف حضارته المزعومة… فدعوتنا له باسم الإسلام بعد ذلك، لن تجعله يحرّك ساكنًا، لن تدفع به ليحتضن هذا الدين العظيم، إننا ببساطة ندعوه ليكون مريضًا.

لذلك، فالهدف أن يصوغ الإنسان المسلم اليوم سمفونية متكاملة النغمات، سيجد حينئذ بالضرورة آذانًا تصغي إليها. إنه يحرص تمام الحرص لتكتمل هذه النوطة الحضارية، أما إن لم يُعمل عقله وقلبه وجهده من أجل تناسقها، وطلب من الآخرين الاستماع إليها، فإنه سرعان ما سيلحظ تفرّق الناس من حوله منشغلٌ كلٌّ بأموره.

إذن، هناك إنسان لم يتشكّل بعد، متوازن، متكامل، لا يعيش تناقضات بين ما يقرأ في القرآن الكريم وما احتوته السنة الشريفة، وبين ما يجده في واقعه. إنه طبيب للمعنى والروح سائح في كون الله تعالى، أينما حلّ أو انتقل فنُور الحق يبزغ بداخله.

في مطار الانطلاق

“إن المدرسة بقدر ما تكون متوجهة نحو الهدف ومتّسمة بالعمق، تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة، بشرط أن تُصْهَر مكتسباتها في بوتقة ثقافتنا الذاتية”.

أجل، إنها العودة إلى الذات، إلى المعايير الذاتية للأمة، المعايير غير المستوردة، إلى الإيمان. فالإنسان صاحب الهمّ الحضاري، يحمل ذلك الوزن الزائد/ الضروري على مرّ الزمن. إنها عودة تقتضي القيام بعملية غربلة “فكرية، إيمانية، وجدانية”… فالمعلّم في قسمه ليس ملقّنًا للتلميذ لمعلومات، وإلا ما كان معلّمًا بل معلّبًا، لكن المخطط الأهم والاستراتيجي لديه هو بناء هذا الإنسان… وحين تنطلق المدرسة بهذا الحراك، ستغدو حتمًا مطارًا لإقلاع الأمة.

المدرسة

إذا أردنا أن نبصر حاضر ومستقبل أمة ما فلننظر إلى تعليمها. وهذا الصرح الحضاري (المدرسة) في الحقيقة ما هو إلا مشتلة، والتلميذ فيه فسيلة طيبة.

إن الحاجة اليوم ليست لمعلِّم وظيفي يراقب عقارب ساعته كل حين ليستعجل مغادرة قاعة الدرس، بل هو نداءٌ للنجدة ينطلق من بعيد بحثًا عن أفئدة تلتهب شوقًا، وانصهارٌ جماعي في المعنى وللمعنى… إنه القلب يهفو إلى أولئك الأطباء المرابطين في مستشفى الحياة؛ الذين يجمعون بين العقل والقلب، الفكر والفعل… إنه إنسان صابر على تجنين الزمن، ذهنه مُركِّزٌ على الحقل، ويتحرك بثقة كبيرة في خالقه وباتخاذه لأسباب النصر والتمكين.

نعم، فبمنهج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “التسديد والمقاربة”، يتحرّك هذا الأمين على مستودع الحضارة، يعمل ويفكّر، ويفكّر وهو يعمل، مدركٌ تمام الإدراك أن المدرسة ليست هي آلة التغيير، بل هي الحقل الخصب لذلك، وأن مهمته هي السقي والرعاية والتعهد، فلا يزال يضرب في تلك الأرض حتى يُخرج خيراتها بإذن الله.

(*) باحثة وصحفية / الجزائر. المراجع

(1) ونحن نبني حضارتنا، للأستاذ فتح الله كولن. ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والتوزيع، القاهرة.