– ومن ذا الذي لا يحب المال؟

– المعقول، معقول.. أما أنت فغارق إلى أذنيك من كثرة ما تتكلم عنه وتفكر فيه ليل نهار.

– لكنه مهم.

– في الحياة أشياء مهمة والمال واحد منها فقط.

– أنا أراه أهمها.

– فليكن.. لكن معه أشياء مهمة جديرة أن تهتم بها.

– في هذه الفترة، المال هو كل شيء، المال عصب الحياة، المال عافية الأفراد والأمم والشعوب.

– يبدو أنك تهذي.

– لست في وعيي في وقت من الأوقات كما أنا الآن.. أحلم باقتناء سيارة، منزل، أثاث جديد، رغبات كثيرة تحتاج إلى المال.. هل ألام على حبه بعد ذلك؟ ألست معذورًا؟

– حب المال فطرة، لكن الجنون به مرض وبينهما خيط رفيع جدًّا.

– أنا واقعي وأنت فيلسوفة.

– أليس من الدعاء المأثور: “اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا”؟

– ها أنت تعترفين رغمًا عنك.

– بماذا؟

– بأن المال هو الدنيا.

– لكنني مع ذلك أدعو ألّا يكون أكبر همي.

– وما رأيك إذن بقوله -صلى الله عليه وسلم- : “نعم المال الصالح للرجل الصالح”.

سكت برهة ثم أضاف..

– أنا رجل صالح إن شاء الله، وأريده لأشياء صالحة.

– عندك كل خير، ولكنك لا تشبع.. أعوذ بالله.

– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليس من المال الصالح.

– أعوذ بالله من نفس لا تشبع.

مثل هذا الحوار أمر عادي متكرر في أكثر أيام الأسبوع بينه وبين زوجته.. وارتفع بعدها الظن إلى درجة اليقين أن زوجها مفتون حقًّا بالمال إلى درجة المرض.. كانت تضع يدها على صدرها كلما تذكرت ما يقول، فتخاف أن يكون جنونه به سببًا لأن يحصل عليه من طرق محرمة. وكم أنهت حديثها معه بأن يعصم نفسه عن الشراهة المتناهية للمال التي ستسوقه حتمًا إلى أن يكتسبه بأي طريق حتى لو كان محرمًا، كانت تقول:

– يا شيخ.. الله الله فيما تحضره لنا.. لا تكن هواجسك التي تعلنها بصوت مسموع سببًا أن تغمض عينيك وتأتي بالمال الحرام.. المال الحرام لا نريده.. لا نريده أبدًا.. ربي أغنانا عنه، نتحمل كل نقص في المعيشة أو اللباس، ولكن لا نتحمل أن تنبت أجسامنا من مال حرام.. قادرين أن نصبر على الجوع، ولكننا لا نستطيع الصبر على النار.

وكانت تجهش بالبكاء في نهاية كلامها، فيرق لها ويطمئنها:

– أبدًا تأكدي أن كل قرش أتيت به إلى هذا البيت كان حلالاً بعرق جبيني.. تأكدي أن الكلام شيء والواقع شيء مختلف، مختلف تمامًا.. لست بحاجة إلى من يخبرني عن ضرر المال الحرام.. أنا أعرف ذلك ولا أريد من يعرفني به.

كلماته مطمئنة.. وهي تعرف أنه لا يكذب، لكنها تشعر أنها لابد أن تنبهه قبل فوات الآوان.

وذات يوم كانا يشاهدان برامج التلفزيون، وكانت الفقرات الدعائية تعرض مواد استهلاكية كعادتها، وتقدمها بأسلوب مثير كأنه سوط يلهب الظهور للمبادرة فورًا إلى الشراء، لأن الفرصة الذهبية ستفوت كما تقول الدعاية.

كانا يتابعان الدعايات الجديدة، ثم ينصرفان عند تكرار دعاية من الدعايات القديمة.

وظهرت دعاية من الدعايات تعلن عن جوائز قيّمة؛ الأولى منها مليون ريال.. نعم مليون ريال عدًّا ونقدًا.. ولكي تكون الإثارة أكثر، انهمرت في شاشة التلفزيون آلالف الأوراق النقدية، ثم تراصت بشكل بياني بديع لترسم العدد مليون.

وفتح فمه من الدهشة وهو يرى هذا المشهد الذي يعده أعظم مشاهد الدنيا جمالاً وجلالاً وعظمة وروعة.

صرخ لا شعوريًّا:

– يا ليت أكون صاحب المليون.

قالت له:

– اهدأ قليلاً.. ترى كلها دعايات.. أنت متحمس، كأنك تشاهد حلقة من حلقات المصارعة الحرة.

قال:

– مليون ريال يا بنت الناس، هل ترين ما أرى؟

– نعم أرى، ولكنه وهمٌ.. وحتى لو صار حقيقة فلا يستحق هذا الانفعال.

– ما يستحق؟ كيف لا يستحق!؟

واستفزه برودها وعدم تأثرها.. فإذا به يفتح يديه بالدعاء:

– يا رب.. ترزقني مليون ريال، مليون ريال وليكن بعد ذلك ما يكون.

– ما معنى ما تقول؟

– وليكن معها أي شيء؛ وجع.. ألم.. أي مشكلة، حتى ولو مرض السرطان.

– مرض السرطان؟!

– نعم.

– استغفر ربك يا شيخ، لو أصبت بهذا المرض ما نفعك ولا مئات الملايين.

– آه لو قبل أن أموت أملك مليون.

وانفعلت الزوجة، وقامت تستغفر الله من شر ما نطق به.. وكأنما دوّى صوت القضاء والقدر من ضمير الغيب أن أُجيب طلبك، وستدفع الثمن غاليًا، وستكتشف أن كل نعمة من نعم الله عليك أعظم من أموال الأرض كلها، وستعلم هذا بعد فوات الأوان، ووجدت أمنيته السيئة بابًا إلى الله مفتوحًا فاستُجيب له.. في ساعة لا يرد فيها سؤال سائل.

وما هي إلا سنوات، سنوات معدودة، إلا وكانت الحال قد تغيرت به، وبعد نشاط ودأب في التجارة والعمل، فتح عينيه ذات يوم على مليون ريال في يده.. أمله الذي طالما تمناه، والذي ظل يحلم به في اليقظة والمنام.. حلمه الذي سعى ليلاً ونهارًا حتى أمكنه الحصول عليه.

كانت الفرحة قد أنسته الجزء الآخر من الأمنية.. وما كان ربك نسيًّا.. وفي ذات يوم كان الطبيب يتحسس جسده.. كشف رُوتِيني دوري تطلبه منه المؤسسة التي ما زال يعمل فيها. كان الكشف الدوري في غاية السهولة، حتى إن الطبيب سرعان ما يوقع تحت عبارة “لائق صحي”.

في هذه المرة شيء ما أثار انتباهه، ركّز نظره عليه، ارتعش وهو يضع يده على ذلك الجزء المتورم من صدر مريضه.. كان لديه إحساس أنه هو.. هو.. بشحمه ولحمه.. الورم الخبيث.. ولكن لم يكن من حقه أن يقول شيئًا، فلعل الأمر لا يكون كما توقع، ثم إن الحكم بهذا المرض يحتاج إلى تحليلات أكثر، واستشاري أعلى منه، وحتى لو كان كما توقع فلا يجوز أن يبث الرعب في قلب مريضه.

أخذ الفحص بعض الوقت.. وبدلاً من أن يختم الطبيب بالختم التقليدي “لائق صحيًّا” وجده قد كتب “يُحال إلى استشاري لإجراء مزيد من الفحوصات”، وحاول ألاّ يدخل في حديث مع مريضه، خشية أن يبوح له بما في خاطره، ولذا فناول الورقة وهو يقول:

-لو سمحت.. ادع المريض الذي بعدك بسرعة.. أنا مضطر إلى أن أنهي حالات اليوم بسرعة لأن عندي موعدًا مهمًّا.

وخرج ويده تحمل الإحالة الطبية، والأخرى تتسلل بين ثوبه وملابسه الداخلية يتحسس بها ذلك الموضع.. هل يستحق الأمر كل هذا الاهتمام من الطبيب؟

ومن فوره ذهب إلى الطبيب الاستشاري، وهو يغالط نفسه في أنه لابد من إنهاء الإجراءات الصحية، وأنه سينهيها هذا اليوم حتى لا يتأخر عن أعماله ومشاغله ومواعيده.

وحين ذهب إلى الطبيب الاختصاصي، وجده يأخذ الأمر مأخذ الجد، ويبالغ في فحص الموضع، ثم يتصل بزميل له، فإذا بهما يتكلمان بمصطلحاتهما الطبية التي لا يعرف منها شيئًا، ولكن إحساسه الداخلي بدأ يقول له كل شيء.. قطع خيالاته صوت الطبيب يقول له:

– ستبقى عندنا حتى الساعة الخامسة لإجراء بعض الفحوصات الضرورية اليوم، وغدًا تأتي لنكمل لك الباقي من الأشعة والتصوير والتحليل.. ولكي يطمئنه قال له مهدئًا:

– فحوصات ضرورية، وإجراء احتياطي لا أكثر. ومضى أكثر من شهر فإذا به يشعر بآلام مبرحة في ذلك الموضع من بدنه، وكأن سكينًا حادة تقطع جسمه فيبكي.. ويبكي.. المرض يمنعه الراحة والنوم.. وتساقط شعر وجهه من الدواء الكيماوي الذي يأخذه في علاجه، وأصبح أحد المراجعين الدائمين للمستشفى التخصصي بالرياض.

وكان ينزل من قسم الأورام في الطابق الرابع من المستشفى التخصصي بالرياض يتحسس بيده اليمنى موضع الألم في صدره، وبنفس تلك اليد يستطيع أن يوقع على شيك بمليون ريال، ومع أن دعوته بالحصول على المليون قد تحققت، إلا أنه كان في داخل نفسه يعيش أشد حالات الندم.. ودمعت عيناه وهو يتذكر العافية التي كان فيها، وأنه لا يعادلها شيء، لا يعادلها شيء ولا كل الملايين التي على هذه الأرض.

(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية / المملكة العربية السعودية.