صباح العيد في مسجد السليمانية

فاض النور في قلبي لحظة بعد لحظة…
إذ الفجر المهيب يسطع في “السليمانية”،
في ساعة العيد هذه، وتحت قبة السماء الزرقاء،
ترتفع ستارةُ الزمان المُغبَرَّةُ، آناً بعد آنٍ،
وترتسم صور للناس جميعاً، للبلاد كلها،
من تسعة قرون غابرة،
* * *
في هذه اللوحة الزرقاء…
فمنذ انحسار ظلمة الليل…
يُسمع صوتُ رفيف الأجنحة في السماء،
ووقْع الأقدام على الأرض
إنه قدوم، وما أعظمه من قدومٍ،
من عالمٍ مباركٍ وعجيب…
السماءُ مزدحمة بالأرواح من مداها إلى مداها…
قدومٌ ومواكبُ من الآفاق كلها،
من حملات النفير في الماضي،
من بلادٍ، يا لها من بلادٍ،
من بلادٍ، يا لها من بلادٍ،
فُتِحَتْ في تلك الغزوات..
وإبّان امتزج الضياء بالظلام في هذا السكون…
يمشي بلا انقطاع خليط من البشر والأرواح!
يَرفّون من الأرض، أو يهبطون من السماء..
يَلِجون من الأبواب صفوفاً إلى مسجد الله،
ويملؤون رحاب مسجد الله،
فتغدو “السليمانية” تاريخاً في هذه الساعة…
* * *
قد نَذَر هذا المعبدَ لله الودودِ شعبٌ كله جُندٌ…
أشدُّ الخلقِ قتالاً، وأقواهم شكيمةً،
جوهرُ آمال الخيال الذي صَوّر هذا المسجدَ،
أنْ يكون أجمل معبد للدين الأخير المبين…
واختار له تلاً مباركاً في أُفُق استانبول مكاناً
ليشهد الآباد منه، من كل ركنٍ وصوبٍ…
حَمَل المجاهدون، ورؤساؤهم لَبِناته على أكتافهم،
وقَهَرَ صُلْبَ أحجارِه آلافُ الصُنّاع ومهندسُهم…
وإنّ معمارَ معبدِ النصر هذا جنديٌ مقاتل،
فتح باباً من أبواب الآخرة،
نحو زمان الوطن الحر الوطيد، بليلهِ ونهارهِ،
لتدخلَ منه جيوشُ الأرواحِ إلى الرحمة الأزلية…
* * *
أيها المعبد العتيد: أنا لم أفهمك إلا هذا الصباح!
فخورٌ أنا بك الآن، لأني ممن ورثوك…
وكنتُ أظنك زماناً أثراً هندسياً عظيماً!
لكني، إذ أنظر الآن إلى هذا الحشدِ تحت قبتك،
أنتقل إلى إقليم الغفران للأجداد،
أنتقل إلى إقليم الغفران للأجداد،
وكم كنت أحلم به ويتوق إليه شوقي!
هنا حشودُ البشر انصهرت،
في لسانٍ، وقلبٍ، وإيمانٍ واحدٍ،
تُحسُّ بوحدة وجودِها في مكان واحد،
إذ يذكرون الله الجليل بلسانٍ واحدٍ،
فيُسمَعُ التكبيرُ ألفَ موجٍ في صوتٍ واحد…
يرتفع إيقاع أنغامهِ عالياً وزاخراً،
مختلطاً بألف رايةٍ، وهادراً في أعرافِ ألفِ فرسٍ…
* * *
ورأيت في الصف الأول جندياً عَرفتُهُ من لباسه،
منصتاً إلى تكرار التكبير في وَجْدٍ…
ما أنقى الصفاء في سيماء هذا الجندي المؤمن!
من ذا ؟
لعله الذي بنى هذا الصرحَ العُلوي ؟
لعله الذي صممه ؟
أم هو الجندي التركي،
القادمُ من سهل “مَلازْكِرْد” ؟
هذا الطافحُ بالعَبرةِ عينُه،
الناظرةُ من العمق،
هذا الذي وجهه أجمل وجوه الشجعان في الأرض،
هذا الذي يبدو على قَسَماته رَهَقٌ من عظائم الأمور…
هو قوتنا التي أقامت هذا الوطن العظيم، وحارسه…
هو وجودنا، ودمنا، ولحمنا…
هو الوارث الحي للوطن، هو صاحبه،
هو سلوى الشعب في هذا الزمان،
* * *
في أرضنا اليوم، في كل أرض بقيت لنا…
وفي كل أرض فقدناها منذ أمد بعيد!
حُمرةٌ كثيفةٌ تفصل الأرضَ عن السماء…
كَأَنّ حدائقَ الوردِ تلتهب في الجبال التي أمامنا!
وثَمّ نداء التكبير كالمدافع في السماء،
تنفذ من الأعماق إلى الأعماق،
فهذه مئات المدن تنادي بعضها…
أهي قريبةٌ أم بعيدةٌ النداءاتُ؟
أَمِنْ “أُسكدار” ؟ أم من “الحصار” ؟ أم من “قواقلر” ؟
أَمِنْ “بورصة” ؟ أم “قونية” ؟ أم “إِزمير” ؟
من بعيدٍ إلى بعيد!
ثُم تتصادى أصواتـنا،
من جَبَلٍ، إلى جَبلٍ!
الآن ترتفع الأصوات تنادي من كل بُعْدٍ،
من “بايزيد”، من “وان”،
نداءً بعد نداءٍ،أصوات المدافع نفسها،
من كل مكانٍ…
* * *
ما أعظمه من سَحَرٍ مباركٍ ووطيدٍ،
مشحونٍ بالمشاعر…
ورجال ونساءٌ وولدان،
قلوبهم طافحة في كل مكان…
كلهم يُنصتون لرياح الذكريات المجيدة هذه،
لمدافع “جالديران”، بعد مدافع “موهاج”.
من أين هذه النداءات التي تملأ السماء بدَويّ المدافع؟
لا بد أن كل نداء يعلو من نصرٍ وظفر…
من “كوسوفا” و”نيغبولي” و”وارنة” و”إستانبول”…
كلُ نداء يتذكر في هياب وقعة من الوقائع…
من “بلغراد” و”بودين” و”اكري” و”ايوار”…
من سلاسل الجبال الشاهقة على الحدود الأخيرة!
ومن أين تنادي أصوات المدافع في آفاق البحار؟
أهو “بربروس” يعود بأسطوله من حملة ؟
أمِنَ “الجزر” ؟ أم من “تونس” ؟ أم من “الجزائر”؟!
عادت مِئَتا سفينة من الآفاق الحرة…
من حيث هَلَّ الهلال، من حيث يُحَدِّقُون!
من أيِّ سَحَرٍ جاءت هذه السفن المباركة؟
* * *
لقد انصَهَرتُ في هذا المسجد العظيم بوحدة الوطن،
فحمداً لله، إذ رأيت في هذه الساعة،
تلك الأرواح التي تعايش أبدان الأحياء،
فقلبي طافح بالأنوار صباح هذا العيد…