تَقَطَّعت أنفاس الزمن؛ راكضًا لاهثًا، جَوَّابَ عوالم، عصّافًا بالحضارات، هدّامًا للمدنيات، بَنَّاء هنا هدَّامًا هناك، صوّالاً جوّالاً في الأمم والشعوب، كرّارًا فرّارًا، مدًّا وجزرًا، عطاء وأخذًا، محّاء نَشَّاء، ضحَّاكًا بَكَّاء، ناشِر عِبَر، وملقي دروس، يؤنس ويطرب، يحزن ويشجي، دوّارًا بين الناس باللحود، ومشَّاء بينهم بالمهود.

حتى إذا أعياه التعب، وأخذ منه النصب؛ توقف عند غار “حراء” مبهورًا، يسترجع الأنفاس، ويستروح الأفياء، سائلاً الدقائق والساعات، واللحظات والبرهات، عن المتحنث العظيم، هل آن أوانه، ودقت ساعة انبعاثه؟ فيُطّل على العالم من غاره، حتى إذا غادر الغار، وانحدر إلى مكة كالصبب، وقد غشيته قشعريرة اللقاء بناموس السماء.. تتبع الزمن خطاه، وجرى حيث جرت به الشعاب والآكام، وجاء بيته، وأقبلت خديجة بقلبها الرحيم وصدرها الحنون، متسمعة إليه مشفقة عليه وهو يقول: دثروني دثروني، زملوني زملوني.

في هذا المدثر يقوم العقل كله، وينهض الرشد كله. وفي سماء روحه الصافية يتألق روح العالم، وعلى إيقاع أنباض قلبه يشدو قلب الكون، وينشد ويترنم. وعذابات الإنسان تجد في يده الآسية حنانًا فوق كل حنان، وبلسمًا من كل العذابات. والزمن نفسه شرع يتجرع أنفاسًا مترعة بالهواء وهو في هيئة ترقّب حادّ لما ستأتي به الأيام من استنهاض للعالم، وتجديد للدنيا، وبناء للإنسان، وتصحيح لعقائده، وإرهاف لمشاعره، وتهذيب لخلقه، وتثقيف لعقله، وتوسيع لمداركه.

هذا نبي الزمن وكل الأزمان، ورسول العالم وكل العوالم، أعاد للنبوات شبابها ويفاعتها، وللربوبية قدسيتها ونزاهتها.. قلبه مستودع أسرار الله، وعلى لسانه يدور كلامه، قدّم لغوامض كتاب الوجود، وأدار مفاتيح الفهم في مغاليق الأكوان.

البشرية التي فقدتْ اتجاهها، وانحرفت عن مساراتها، وزاغت عن ربّها، وجدتْ في تعاليمه، وفي كتاب ربه سبل الهداية وطرائق السلامة.. والسماء المجدبة اهتزتْ ورَبَتْ، وأبرقتْ وأرعدتْ؛ فأمطرتْ وردًا، وسقتْ جدبًا، وروتْ ظمَأً، وأضاءتْ نورًا، وهتكتْ ديجورًا، وأزاحتْ ظلامًا مركومًا، وشفتْ قلوبًا معلولة، وضمائر مطموسة.. وحركت عقولاً موقوفة، وأرواحًا مغلولة.. ووجد الإنسان موقعه من الأرض، ومكانه من الكون، ومحلَّه من الوجود، ومكانته من الله.

لقد أخذ الزمنَ معه، وطواه في روحه العظيم، وارتفع به فوق كل الأزمان، حتى غدا قرنه أعظم قرون البشرية، علوَّ روح، وسموَّ نفْس، ويقظة ضمير، وجمالَ خُلُق، وتوحيدًا للإله، وتنزيهًا للربوبية، وتحطيمًا للصنميات..ومطامحُ الوجدان البشري الرفيعة وجدتْ نفسها في وجدانه الطاهر الشريف. والحكمةُ العالية، والعقل الحصيف وجدا مكانهما في حكمة عقله، وعبقرية ذهنه. إنه أطلق القيم المطلقة من حبوسها، وحثّ الإنسان على الارتفاع نحوها.. والأخذ بها، والتخلق بأخلاقها، والخلاص من المحدودات والنسبيات، والانطلاق من محابس الأرض إلى فضاء العوالم والأكوان.

وهتف بأولئك الخالدين إلى الأرض، واللاصقين بالتراب، أنْ يرفعوا رؤوسهم، ويحرروا أنفسهم، ويعلوا بمطامحهم، ويستجيبوا لأشواق فطرهم، ويصغوا لحنين أعماقهم إلى الخلود والبقاء.. وأنْ يتفقهوا في حقيقة ذاتهم، ويستعدّوا لمآلاتهم ومصائرهم. إن روحه العظيم مفعم بقوى التجديد والاقتحام، والتصميم على توطيد أركان الحقيقة على ظهر الأرض، مهما كابد من آلام، ووقفت بالضدّ منه جموع الجاهليات والعنجهيات والهمجيات.

إنه الحق الدامغ الذي يَدْمَغُ به الحق تبارك وتعالى الباطلَ، فإذا هو زاهق، وهو اليقين الحق الذي يسعى إلى إنقاذ عالم الإنسان من التخبط في مهامه الشك والاضطراب، وهو الطهر السماوي الذي يمحو ما تدنسه أيدي الماسكين بخناق الأرض من الجبابرة والطغاة.

والإنسان المعتِم خابي الضوء بدأ يتوهج من جديد بتعاليمه وأفكاره، فلم تعرف العبقرية في أي قوم من الكثرة كما عرفتها في أصحابه الناهلين من منهله والشاربين من كوثره، حتى قال يزكيهم: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم”. إنهم فخر الجنس البشري بلا جدال، أصحاب العبقريات الروحية التي أغنت العالم وأثرته، وقادت مساراته الروحية ما يقرب من ألف عام.. فقد كانوا القوة المتحركة في روح الفرد وفي روح الأقوام والشعوب.

وللأزمنة أرواح تستمدها من عظماء الروح والفكر فيها، ولها إرادات تستمدها من أصحاب الإرادات العالية والقوية. وهذه الإرادات في صراع أبدي يصارع بعضها بعضًا، ويهيمن بعضها على بعض، وقد يستقوي بعضها ببعض.

والإنسان هو المحور الذي تدور عليه هذه الأزمنة في صراعاتها، ومن خلال هذه الصراعات تورق شجرة الأفكار، وتزهر براعم الخواطر والإلهامات، ولا زالت الأزمنة الروحية للأنبياء والرسل عليهم السلام تدور مع الإنسان حيثما دار.. ولا زالت تمد أزمنة الإنسان مهما غالت في ماديتها بنفحات روحية تعمل على تلطيف غلظتها وقساوتها.

وسيد الأزمان قاطبة، وأعظمها هيمنة، وأشدها امتدادًا، وأكثرها إثارة واستنهاضًا، إنما هو زمان محمد صلى الله عليه وسلم. فهو زمان حضوري دائم الحضور على مدار الزمان، كما أنه سرمدي الامتداد، يستمد سرمديته من أزلية القرآن وأبديته، لذا تبوأ محمد عليه الصلاة والسلام عرش الأزمان. هذا النبي الذي ختمت به النبوات، ولكن لم يُختَم زمانُه ولا أثرُه وتأثيره في كل الأزمان وإلى قيام الأزمان بقيام الساعة.

(*) كاتب وأديب / العراق.