سلوك الأذواق بين مطالب الشرع وفساد الأخلاق

غدق الخالق عز وجل على الإنسان نعمًا غفيرة؛ حسية ومعنوية، بدونها تنقلب الحياة هولا لا يطاق وضنكا ما له من فواق، ومن أجلها وأنفسها؛ ملكة الذوق الإنساني الرفيع التي تضخ الحياة في العالمين، كما يضخ الدم في الشرايين، وتروي الوجود كما تروى بذور الورود، جعلها البارئ المصور هبة زكية وميزة أبدية، يرشف بها الإنسان الجمال الساري في أرجاء الكون الذي حيث ما نظرت إلى زاوية من زواياه إلا وعاينت عن كثب جماله الدال على جلاله وكماله سبحانه. وجعل سبحانه وتعالى من وحيه المنزل منفذا للإنسان يتطلع من خلاله إلى تحسس وصفات الجمال الحقيقي، يستقي منه مقاييس الأذواق، كي تُعْصَم الأنفس من مجون الأشواق، ومن شريعته المباركة أسْيِجَة حماية لانفلات الأخلاق.

يسود في عالم الناس اليوم سلوكات ذوقية لا يخطئ ذا اللب المشبع بالقيم الإنسانية النبيلة في مَجِّها ومقتها، لما فيها من الضوضاء والتيه المتولد من سيادة المادة على مطالب الروح . وهو ما يستدعي محاولات جادة من أرباب العقول الوازنة لإعادة البعث والإحياء لمقاييس الذوق الجمالي.

الذوق عِطْرُ الأخلاق

غالبًا ما ينصرف الذهن عند سماع كلمة ذوق، إلى الذوق المادي، الذي يرتبط بالحواس وأولها اللسان، فيقال: ذقت الطعام أذوقه ذوقاً ومذاقاً إذا عرفته، غير أن مقصدنا ينصرف إلى أكثر من هذا التخصيص الحسي؛ إلى الذوق المعنوي العام و المشترك، وهو بصفة عامة جزء من ثقافة الإنسان التي تتحكم فيها: خلفيات، وعقــائد، وأعراف…، و إذا كان المعنى الأول محله: الحواس، فإن الثاني محله: العقل و القلب والروح، وهو بهذا المعنى وما يوحي إليه من دلالات؛ فضيلة وقيمة نفيسة تسمو بالإنسان، تجعل لوجوده معنى ولسلوكه طعما.

الذوق كلمة موحية بالجمال واللطف وحسن الخلق وسلامة التصرف، وتحيل دلالاتها على كل معاني النبل الإنساني، والرقي الروحي الذي به فضل الإنسان عن سائر الكائنات، لم تنبذها النفوس أو تمجها العقول، مــــا دامــــت على عهد الفــطرة ودرب الصــفاء، وما دام لم يطلها غبش الانحرافات البشرية غير البريئة.

إن الذوق هو بساط الارتقاء والسمو بالروح عن مدنـساتها الأرضية و البهيمية التي إذا أذعنت لها النفس واشتاقت لها اشتياقا مفرطا، عاشت الشقاء والتعاسة، وآل مصيرها إلى الخراب، إنه ــــ حسب تعبير عباس السيسي ــــ: “الأخلاق حين نرتدي أجمل ثيابها وهو عطر الأخلاق ونفحاتها، هو قمة الأخلاق حين تتألق في إنسان وتتجلي في أحاديثه وتعاملاته التي تنطوي على أجمل المشاعر وأنبل العواطف، هو حركة من لطائف الروح وصفاء القلب، بل هو سلوك الروح المهذبة ذات الأخلاق المرضية”.

وحين يكتسي الذوق لبوس الأخلاق تستقيم الأشواق وتنسجم مع جمال الكون كله، فتبتهج الروح التي عذبها المجون، وحين نجرد نوازعنا الذوقية من ربقة الفضيلة ونسلمها لنوازع الأهواء المنفلتة، يشكل علينا أن نتحسس وصفات الجمال الساري أو أن نرشف من معينه الدافق.

كيف نحكم الأذواق؟

لعل في إثارة فكرة : “انضباط الذوق ” اعتراض فحواه؛ أن الأذواق مبدئيا لا تناقش، وفي تحكيمها أو تصويبها استفزاز لخصوصيتها. لكن عند التأمل في بواعث إثارتها فكرة؛ والذي يجليه حجم الاعوجاج في توجيه هذه الملكة، وأثر ذاك على منظومة القيم، أكيد سوف يغدو الأمر مقبولا ومشروعا.

إن منظومة القيم الموجهة للفعل الإنساني و المستوحاة من شريعة السماء، أقوى محتكم لانضباط الذوق وسموه؛ فلكي يكون سليما، لابد أن يتأسس على قواعد إنسانية مشتركة، وينأى عن كل تصور تعود نتائجه بالتعاسة على وجود الإنسان، والشريعة الإسلامية الغراء التي يعتبر الوحي أول مصدر لها، راعية لهذه المعايير، فهي المحتكم الأقوى، ومدار أحكامها التفصيلية يقوم على قاعدة مركزية ملحوظة في جميع تلك الأحكام، فحواها: جلب المصالح ودرأ المفاسد، وهي تصلح ضابطا من أقوى الضوابط في توجيه الأذواق، وترشيد الأشواق.

إن مقاصد الشريعة المباركة التي اجتهد فيها علماء الإسلام وصاغوها صياغة محبكة حتى صارت موجها للفكر الإسلامي في مختلف ميادينه؛ لوظائفها البيانية والاجتهادية و التشريعية والحقوقية، تحتضن عوامل منهج حكيم رصين في صياغة ضوابط الذوق الإنساني القويم، بها نقيس الأفعال والتصرفات ونميز بين منافعها ومضارها، وكل تصرف يعود بالضـــرر على إحدى الضروريات أو ما اصطلح عليه بالكليات الخمس، لا ينهض أن يكون ذوقا رفيعا، والعكس بالعكس.

وقد رتبت المصالح التي دار عليها التشريع ترتيبا تنازليا من الضروريات إلى الكماليات احترازا من أي انفلات في توجيه التصرفات ومنه طيش الأذواق، ملحوظ ذلك خاصة في عنصر التحسينيات التي قامت على ” الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق … ففي العبادات كإزالة النجاسة ـ وبالجملة الطهارات كلها ـ وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات… وفي العبادات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل والنجسات، والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات”.

بناء على ما سبق فإن من بين المعايير الكفيلة لانضباط الذوق حتى يكون ذوقا سليما، أن يكون مستحسنا لدى العقول السليمة، ومتوافقا مع دواعي الفطرة، فكل تصرف حاد عن نهج الفطرة، ومجته العقول، اعتبر فاسدا لا ينهض أن يكون ذوقا، وإن كان مستحسنا لدى البعض ممن انحرفت عندهم هذه المعايير أو انحرفوا هم عنها، واختلط عليهم المليح بالذميم، والصحيح بالسقيم . كما ينبغي للأذواق أن توجه نحو إسعاد الإنسان دنيا وآخرة، وأن تسهم في الرقي بوجوده الثقافي والعمراني…، أما الممارسات التي يكون مآلها التعاسة والضنك، على الرغم من احتضانها لعوامل المتـــــعة الزائفة، تبقى أذواقا فاسدة.

ومن أقوى معايير تصنيف الأذواق وتحكيمها أن لا تتعارض مع المفاهيم الكونية والشرعية للجمال، المتعارف عليها والمستحسنة لدى الناس، فكل تصرف ليس له بعد وظيفي أو رمزي أو جمالي، فليس من الذوق الرفيع في شيء، وإن اعتلى مسارح الجمال، فمن ألف المجون المستقبح لن يرى في صفحات الكون إلا الظلام، بيد أن من استقام على الطريقة تلألأت لناظره النجوم الغراء، وشتانا بين ما يرمز إليه الظلام من قبح وفزع، وبين ما ينضح به الضياء من بهاء ووقار.

ملامح من عناية الإسلام بالذوق الإنساني

أعلى الإسلام بالذوق الإنساني في أدق تفاصيله، ملحوظ ذلك في جميع الأحكام التفصيلية التي حيث ما قلبتها تجدها تتصل بقريب أو ببعيد بالمسألة، كيف لا تهتم شريعة الإسلام الخاتمة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق بالذوق؟ مادام الجمال هو التجلي الحقيقي لنبل الأخلاق ودماثة الصفات.

في القرآن الكريم أجمل توصيف لمفاهيم الجمال، وأدق تقعيد له، فيه من الصور البلاغية الجمالية؛ نظما وتركيبا وإيحاء وتصويرا..، ما لا يكاد ينحصر، ولا يتسع المقال لعرضها، بل إن القرآن هو المنفذ الحقيقي للجمال المطلق. وفي السنة الشريفة نماذج أخرى بالعشرات.

وإذا ذهبنا بعيدا نجد بعض ملامح العناية الإسلامية بالذوق في جانب العمران الذي يجلي معتقد الإنسان وثقافته وقيمه، خذ على سبيل المثال المساجد، فإن العناصر الفنية التي أضيفت إلى عمارتها، جعلت من هذا المبنى مرتعا للجمال الروحاني، وفي عمارتها التي تتضمن بين جوانبها روح الإسلام، وقيمه وتوجيهاته، لوحة فنية من لوحات الجمال الإلهي في الكون.

وملحوظ عناية الإسلام بالذوق في الأركان التي قامت عليها الشريعة، فالصلاة ــ مثلا ــ أعظم وسيلة للارتقاء بالذوق والسمو بالروح، في حركاتها؛ من قيام و ركوع وسجود وجلوس… لوحات فنية من أروع اللوحات الجمالية التي تزيد هذا الكون رونقا وبهاء، وكم تــــكون الصـــورة أجمل وأبهى حين يجتمع المسلمون في صـفوف مرصوصة، وحركـات دقيقة ومتوازنة، وأصـوات التكـبير والتهليل و التسبيح رنات موسيقية زينت المشهد، وحسبك في صوت المؤذن وهو ينادي للصلاة، ما يكفي على إحاطة هذه العبادة بالذوق الإنساني في جميع فرائضها وسننها ومستحباتها.

وفي فلسفة الزي الإسلامي وصفات راقية للذوق الجمالي، مثاله؛ مواصفات لباس المرأة، بغض الطرف عن أبعاده الرمزية والدينية، وعن أبعاده الوظيفية، نقف عند جانب المعايير الجمالية و الذوقية التي لا ينكرها أي متفطن في الحجاب الشرعي، وإذا كان حجاب المرأة عنوانا على الحياء، فإن للحياء جمالية أيضا كما يقول د فريد الأنصاري هي : ” من المقتضيات الفطرية للأنوثة، والحياء بطبيعته يميل إلى التخفي؛ لأنه به يحفظ وجوده في النفس وفي المجتمع، إن الحياء كالزئبق، بمجرد ما ترفع عنه الغطاء يطير في الهواء ويتلاشى ومن هنا كان لا حياء مع العري، وكان لا حياء مع البروز الفاضح، التخفي سر بقاء الحياء، و الحياء سر بقاء الجمال! وإنما جمال الوردة ما لم تقطف فإذا قطفت فركتها الأيدي ففقدت بهاءها، فلا جمال بعد! ومن هنا كانت الوردة الأجمل هي تلك المحصنة بين خضرة الأوراق وتيجان الأشواك، إن للستر جمال آخاد يسلب القلوب الطاهرة لا تتذوقه التي طبعت على الذعر، وصفحات الكون برهان على تطابق الكساء مع البهاء.

وفي آداب المعاملات الإنسانية؛ من استئذان وغض للبصر وحسن للجوار وإفشاء للسلام ورفق في المعاشرة..، شواهد أخرى على احترام الإسلام للذوق سبق فيها أمم الأرض.

ولا تقف عناية الإسلام بالأذواق بما يحقق المعاش بل تتجاوز ذلك إلى مطالب المعاد، ففي دفن المسلم و حث التراب على قبره بعد غسله وكفنه وتطييبه والصلاة عليه والدعاء له وتشييع جنازته … وغيرها من مراسيم الدفن وتكريم الميت التي حث عليها الإسلام، لشواهد أخرى صارخة بالعناية الإسلامية الفائقة بهذه الملكة الفضيلة التي تلازم الإنسان حتى وهو يـفارق الحياة، وهو الأمر المفقود في بعض والأعراف القديمة والحديثة، من حرق للجثث، أو رميها في النهر والبحر …

انحراف الذوق الإنساني بين الأمس واليوم

انحراف الذوق ظاهرة قديمة حديثة، سببها التغيرات الحضارية التي يتبعها تبدل القيم التي فطر عليها الإنسان نتيجة الزيغ عن المنهاج الإلهي في توجيه السلوكات الإنسانية.

في التاريخ البشري مظاهر عدة لانحراف الذوق عند الإنسان، أول من أيقظ شرارتها: الخطيئة التي قام بها بني آدم قابيل في قتله لأخيه، أعجزته حتى على أن يواري سوءة أخيه، ولا تزال البشرية تعرف انحرافات رغم تنوعها إلا أنها تصدر من معين واحد. و في قصة لوط مع قومه أنموذج أبين يصور بجلاء مسألة الانحراف عن الذوق الفطري الراشد، فحسبك في الرغبة المعوجة والشوق المجنون الذي آثر شهوة الرجال على النساء واستحسان ذلك، ما يكفي في تأمل حجم الانحراف الذوقي عند أولئك القوم، لينتقل هذا الانحراف من مرحلته الجنينية إلى واقع متطور اليوم، حتى صار الأمر مشروعًا عند بعض الأمم التي احتسبته جزء من حقوق الإنسان.

تمر البشرية اليوم بمرحلة انتقالية غريبة لا نغالي إذا وصفناها بالجنونية، حيث صار فساد الذوق مستساغا، بل سمة حضارية مألوفة، و المستقرئ لمظاهر الانحرافات الذوقية المعاصرة يطلع على حياة غريبة، تملأها رغبات زائفة تتشابك لتشكل عالم من الفقاعات تنضح بمعالم تيه الإنسان المعاصر، انحرافات مادية في المأكل و المشرب والملبس..، وأخرى معنوية إحصاؤها يغدو صعبا لتولدها يوما بعد يوم، وما كان منها صالحا اليوم لا يغدو مقبولا في غد، ما دامت تخضع لطاغوت يحكمها يدعى الموضة؛ التي تعتبر من أقوى المداخل لانحراف الذوق الإنساني، لما تملكه من سحر في توجيه الرغبات والأذواق في منأى عن المعايير الأخلاقية، والمعايير التي تفرضها لا تتجاوز دائرة الربح، والإثارة بكل أشكالها وأنواعها، هذه المعايير الجديدة هي التي تحكم قبضتها على الرغبات وتوجه الأذواق.

والسلوك الاستهلاكي الذي تؤطره الموضة لا يخضع لأي منطق أو معنى أو هدف، والنتيجة أنه يتحول إلى غاية في حد ذاته. يقول د: المقرئ أبو زيد : “عندما يتحول الاستهلاك إلى غاية يتحول إلى عقيدة، واليوم تعيش البشرية مع طاغوت الموضة وآلتها الجهنمية الإشهار بمختلف طرقه، تعيش حالة من الصنمية وحالة من الاستصنام إزاء الاستهلاك، تحولت كوسيلة للإغواء والإغراء للاستهلاك إلى قيمة مطلقة، إلى إله يعبد من دون الله”، ولعل ما في عالم اللباس من وصفات غريبة يجليه سلوك الشباب الفارغ من أي بعد قيمي ما يكف في  رصد حجم الانحراف الذوقي.

وفي الفن الذي يعكس ملامح التشكل الثقافي ويجسد الفكر الإنساني، نجد الفن الحديث عكس بشكله ومضمونه ورؤاه كل المعاني الآلية والضوضاء والقلق والذهول وضياع الإنسان..، إلى آخر تلك المعاني التي تشكل الروح العامة لهذا لعصر، واتجه بثورته الجامحة ومفاهيمه الجديدة إلى الخصوصية والفردية المتطرفة التي قادت الفنان إلى مآل العبث والعدم والفوضى والفراغ، وأدت هذه الحرية إلى تلك العشوائية والمجانية والخواء الذي اجتاح الإنتاج الفني، والذي تفرغ معظمه من كل فكر ومضمون، وخلا كثير منه من أي قيمة جمالية، وهكذا حمل الفن الحديث أزمة الإنسان الحديث، وهكذا أصبح الفن صورة مجسدة من أزمة العصر الحديث.

لقد عبر عدد من النقاد بأقوال لاذعة ونعوت قاسية عن صدمتهم من هذه الأعمال الفنية المفجعة، فهذا لويس فوسيل يقول : “إنها وحوش نبشت أظفارها في الفن ” وهذا مارسيل نيوكول يصرح بأن هذه اللوحات أشبه بشطحات بربرية ساذجة لطفل يعبث بعلبة ألوان جاءته هدية يوم عيد ميلاده الأول”، و لم يهذي كاميل موكلير في نعته الفـنانين بقوله ” لقد قذف هؤلاء الفـنانون الجمهور بسطل من الألــوان.

حين تختلط مفاهيم الجمال يضطرب ميزان الأذواق فترى المَنَاتين تعتلي مسارح المحاسن، وتشم النسائم من رحيق العوسج لا الأزهار، ويرشف من المستنقع أخبث ما فيه من مرسبات. وهذا بعض من توصيف منتهى الانحراف الذوقي، وكأن النفوس قد أتخمتها الطهارة، ولكن كيف للروح الماجدة أن تتخم من عبير الحُسْنِ الزُلال، وما بال أنفس انصرفت عنه إلى المُذَمَّم!؟.

على خطى الرقي بالذوق الإنساني

لا يركب آفاق الجمال الطاهر إلا من ذاق من عبير الفرقان، و من ألف السقاء من أخبث القيعان، وتجرع من عصير القبائح، كيف يبهج الوجدان، ويتخطى المعابر الموصلة للجواهر؟ وكيف يتبصر محاسن المناظر؟

لقد رسم الوحي الإلهي معالم الرشد الإنساني؛ حيث أرسى قواعدا تحترم المفاهيم الكونية للجمال والخير الذين بهما يهنئ الإنسان، وبذلك استقامت الأشواق ولم تضطرب الأذواق يوم كان الوحي قائد للرغبات، فسما بالأرواح إلى عالم السعادة التي عجزت الفلسفات المادية أن تسافر بها إليها، ولما حادت البشرية اليوم عن تلك القواعد عاشت الفوضى والتيه في توجيه الذوق.

إن فساد الذوق معضلة أخلاقية تستوجب انتباهة ويقظة قوية، من أجل إعادة الاعتبار إلى إنسانية الإنسان التي عبث بها الماديون والإباحيون، الذين بأراجيفهم المتهافتة جعلوا الإنسان مفعولا به وليس فاعلا، وهم يظنون أنهم على سبيل الرشد سالكون، وبالأذواق الإنسانية مرتفعون.

إن إنسان اليوم في أمس الحاجة من أي وقت مضى إلى هاتف الفطرة، وخطاب العقل، ومفتاح البصيرة الذي يخلخل كيانه من جديد، ويجعله ينتفض ويستفيق من سباته العميق الذي أرقده ردحا من الزمان، حتى انطفأت جذوة إيمانه، فصار يرى الدنيا وزينتها أكبر همه ومبلغ علمه، يحتاج إلى من يعيد صياغة تصرفاته من جديد، إلى التوجيه الصحيح السليم الذي به تستقيم أذواقه ورغباته، عساه ينتشل من براثين التيه.

وخطاب الوحي هو المورد الصافي، و المحتكم في اقتراح الوصفات العلاجية التي بها ترتقي الأذاوق، فهو باق بقاء الزمان يعبر بالأرواح إلى أمالها البعيدة. ونحسب أن محاولتنا في تحديد بعض المعايير التي بها تنضبط الأذواق، من مراعاة للمعايير الجمالية والأخلاقية، والرمزية، والوظيفية… ومن توافق مع الفطرة والعقل… و غيرها من المفاهيم الشرعية والكونية، كافية في تحديد معالم الارتقاء الذوقي الجمالي من جديد .

إنها دعوة إلى تصحيح المسار، من أجل ولادة إنسانية جديدة، تقوم على أنقاض الانحرافات الذوقية المعاصرة، فإذا عجزت التجارب المغايرة على إعادة صياغة الإنسان، وتقويم تصرفاته التي بلغت بطيشها مقام العدمية التي حكم بها على الإنسان، حتى أعلن عقلاء الغرب من فلاسفتها ومفكريها ومنظريها، على موت الإنسان بعد إعلانهم عن موت الإله، فإن التجربة الإسلامية تنضح بالأمل، وتبقى عنوانا لارتفاع الإنسان من جديد، لا تسلمه لليأس، ولا تخضعه للفشل، مادام في الإمكان سبلا كفيلة لإعــــادة الارتقاء بالذوق الإنساني، يقول ربــنا سبــحانه : ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ “.