سفينة فضائية خارقة السرعة

أمعن النظر في الموجودات كلِّها، ابتداءً من خلايا الجسم إلى الكريات الحمر والبيض في الدم، ومن تحولات الذرات إلى التناسب والانسجام بين أجهزة الجسم..

ومن واردات البحار ومصاريفها إلى موارد المياه الجوفية وصرفياتها، ومن تولدات الحيوانات والنباتات وَوَفَياتها إلى تخريبات الخريف وتعميرات الربيع..

كل شيء في هذا الكون يوزَن بميزان غاية في الدقة بحيث يعجز عقلُ الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان ما أو عبثاً.

ومن وظائف العناصر وحركات النجوم إلى تبدل الموت والحياة، ومن تصادم النور والظلام إلى تعارض الحرارة والبرودة.. وما شابهها من أمور، كي ترى؛

أن الكل يوزَن ويُقدَّر بميزانٍ خارقِ الحساسيةِ، وأن الجميع يُكتال بمكيال غاية في الدقة، بحيث يعجز عقلُ الإنسان أن يرى إسرافاً حقيقياً في مكان وعبثاً في جزء..

بل يلمس علمُ الإنسان ويشاهِد أكملَ نظامٍ وأتقنَه في كل شيء، ويرى أروَع توازنٍ وأبدعَه في كل موجود. فما العلوم التي توصَّل إليها الإنسان إلاّ ترجمة لذلك النظام البديع وتعبير عن ذلك التوازن الرائع.

فتأمل في الموازنة الرائعة بين الشمس والكواكب السيارة الاثني عشرة التي كل منها مختلفة عن الأخرى، ألا تدل هذه الموازنة دلالة واضحة وضوح الشمس على الله “العدل القدير”؟

ثم تأمل في الأرض -وهي إحدى الكواكب السيارة- هذه السفينة الجارية السابحة في الفضاء التي تجول في سنة واحدة مسافة يقدَّر طولُها بأربع وعشرين ألف سنة. ومع هذه السرعة المذهلة لا تبعثر الموادَّ المنسقةَ على سطحها ولا تضطرِب بها ولا ترميها في الفضاء..

فلو زيد شيءٌ قليل في سرعتها أو أُنقص منها لكانت تقذف بقاطنيها إلى الفضاء، ولو أخلّت بموازنتها لدقيقة -بل لثانية واحدة- لتعثرت في سيرها واضطربت، ولربما اصطدمت بغيرها من السيارات ولقامت القيامة.

ثم تأمل في تولدات ووفيات النباتات والحيوانات وإعاشتهما وحياتهما على الأرض والتي يزيد عدد أنواعها على أربعمائة ألف نوع، تَرَ موازنةً رائعة ذات رحمة، تدلك دلالة قاطعة على الخالق العادل الرحيم دلالة الضياء على الشمس.

تأمل في أعضاءِ أي كائنٍ حي، ودقِّقْ في أجهزته وفي حواسه تجد فيها من الانسجام والتناغم التوازن ما يدلّك على الصانع “العدل الحكيم”.

ثم تأمل في أعضاءِ كائنٍ حي من الأحياء التي لا تعد ولا تحصى، ودقِّقْ في أجهزته وفي حواسه.. تَرَ فيها من الانسجام والتناسق والموازنة ما يدلّك بداهة على الصانع الذي هو “العدل الحكيم”.

ثم تأمل في حجيرات جسم كائن حي وفي أوعية الدم، وفي الكريات السابحة في الدم، وفي ذرات تلك الكريات، تجدْ من الموازنة الخارقة البديعة ما يُثبت لك إثباتاً قاطعاً أنه لا تحصل هذه الموازنةُ الرائعة ولا إدارتُها الشاملة، ولا تربيتُها الحكيمة إلاّ بميزان حساسٍ وبقانونٍ نافذ وبنظام صارم للخالق الواحد الأحد “العدل الحكيم” الذي بيده ناصية كل شيء، وعنده مفاتيح كل شيء، لا يحجب عنه شيء ولا يعزب، ويدير كل شيء بسهولةِ إدارةِ شيء واحد.

إنَّ الذي لا يعتقد أن أعمال الجن والإنس يوم الحشر الأكبر توزن بميزان العدل الإلهي، ويستغرب منها ويستبعدها ولا يؤمن بها، أقول لو تمكّن أن يتأمل فيما هو ظاهر مشاهدَ من أنواع الموازنة الكبرى أمامه في هذه الدنيا لزال استبعادُه واستنكاره حتماً.

أيها الإنسان المسرف الظالم الوسخ..!

اعلم أن “الاقتصاد والطهر والعدالة” سنن إلهية جارية في الكون، ودساتيرُ إلهية شاملة تدور رحى الموجودات عليها لا يفلت منها شيء إلاّ أنت أيها الشقي، وأنت بمخالفتك الموجودات كلها في سيرها وفق هذه السنن الشاملة تلقى النفرة منها والغضب عليك وأنت تستحقها..

فعلامَ تستند وتثير غضبَ الموجودات كلها عليك فتقترف الظلم والإسراف ولا تكترث للموازنة والنظافة؟

المصدر: اللمعات، بديع الزمان سعيد النورسي، دار النيل للطباعة والنشر