في رمال الصحراء يغرس الرحالة بأقدامهم لأمتار وأمتار، وتبقى رؤوسهم في الأعالي كالناظرين من شُرفاتهم. تراهم الأعين حقائب ضائعة تسبح بظلالها ضد تيار الرمال. ورحالتنا خمسة، فتاة “عذراء” عيناها رماديتان وشعرها ينساب على كتفيها، و”عجوز” و”ابنتها العمياء” الصغيرة، و”مجنون” يَستطعِم الرمال بأصابعه ولسانه، و”بومبا” الصبي أحد الهاربين من المجاعات الضارية. الضائعون في الصحراء ذاهلون جامدون في أماكنهم، لا يجرؤون على تحريك أكتافهم وأقدامهم وأعناقهم، ربما للحركة موضع آخر صداه في القلب والعقل.
انتَحبت “لينا” العجوز، ابتلعت دمعاتها المالحات، وأحست بسخونة حلقها الجاف، كيف تضم صغيرتها العمياء؟ وكيف تحيك من ذراعيها بيتًا آمنًا للابنة المسكينة و”أفريقيا” وَريثة الظلام تَخنقها عَبرات المُسِنة، تدفن أذنيها في أحضانِ الصحراء فلا تسمع غير أنات الرحالة وعويلهم؟
وها هو المجنون تشق ابتسامته وجهه نصفين فيبدو وجهًا لشخصين، أحدهما مدفونًا برمال الصحاري لا يَجد قدميه، والآخر طفل في عامه الأول تُعجبه مقالب الطبيعة، ولا يقيم لها وزنًا فيضحك بصوت مَكتوم، ويلحس رملها بلسانه المُرتعش.
“بومبا” والفتاة العذراء، يُجاوران بعضهما، عظام وجه الطفل تكاد أن تخرج من إطار وجهه الأسمر، وعيناه الزيتونيتان بهما بقايا دمع وكأن قلبه المكمود يسأل: هل هرب من الموت ليموت مرةً أخرى؟ تأوهت العذراء كمَن يخدّره الوقت يمشي على أعصابه بعربته الحديدية حتى يستحيل مخدّرًا كليًّا بلا أعصاب.
الرحالة يغوصون في الرمال، ليلهم يُصِر على عناده، يضرب بجناحيه نوافذ الروح، والجميع يبكي ويحتقن إلا المجنون، يأكل الرمل ويبصقه جواره، ويُعيد الكَرّة مرات ومرات. في ثُلث ليلهم الأخير ومض ضوء كاشف، اقترب من الأجساد المتراصة في وضعية تصف كيف يكون المرء منا قبيل الموت.. وجّه الضوء بريقه إلى الوجوه ونوافذ الأعين، وقال في الآذان شيئًا مقدّسًا.
تَمشت أشعة الضوء إلى أجفان الغارقين في الصحراء.. طبع الفجر ملامحه على وجوه الخمسة.. أطلق الراقدون صرخة التصقت بأذن العارف.. خطواته الحكيمة تتجه إلى حيث الرحالة البؤساء ويده شديدة البياض تمسك بقنديل ضخم، إطاره من العاج وأنواره في جلاء الشمس.. اقترب من الغارقين حد التلاصق فانتشر النور في تلك البقعة من الصحراء.. اشرأبت الأعناق بغتة وأرسلوا صيحاتهم إلى سَمع الرجل.. فأشار إلى قلبه وابتسم.. ارتاحت وجوه الخمسة. قبل أن تتجلى الشمس في سماء الصحاري كان الرحالة من الناجين، جالسين القرفصاء في كوخ أحمر يشكون أحوالهم إلى العارف العجوز..
قال “بومبا” مُنتَحبًا مُتحدثًا إلى العارف: “يا أبت.. أنا جائع وإخواني موتى”.. رَقّ قلب الرجل لحال “بومبا” وربت بيديه الحانيتين على كتفه المحدوب.. وضع له الطعام وهمس في أذنيه: “نحن إخوانك”.
ركضت العذراء الجميلة إلى حيث عباءة العارف وقبلتها برقة.. سألها الرجل وعينه دامعة: “وأنتِ يا ابنتي؟”.. أردفت تقول: “يقدمونني قُربانًا يا أبت، وكل رفيقاتي ذُبحِن”.
بكى لأجلها العارف.. سَقطت من مُقلتيه دمعة بلورية ذابت فيها آلام الفتاة.. تمتم بصوت رخيم: “لا ينبغي ذَبح ملاك”.
مشى الرجل بخطاه الوئيدة إلى حيث العجوز وابنتها، سمع أنفاسها المبهورة، وحط جوارهما كعصفور طيب، لَفّ الصغيرة بذراعيه وسألها: “ما اسمك يا حلوة؟” فقالت بصوت عذب: “أفريقيا”. واستطردت تحكي: “أمي طيبة لكنني عمياء”.
انتحبت روح العارف وهطلت من عينيه أمطار الحزن، وأنصت كطفل إلى حديث “أفريقيا” التي انطلق كلامها كالسهم بحصافة لا يعرفها طفل، تغنت الكلمات على شفتيها قائلة:
“نحن فقراء لا نملك غير آنيتين فارغتين.. جدتي تحبني وتريدني ثرية.. طلب منا الرجل الهبوط إلى مقبرة فرعون ليحبنا ونصبح أثرياء.. كانت جدتي في الخارج، وأما أنا فكنت داخل المقبرة بصحبة “عمي الحفار”.. كان يريدني أن أنام في المقبرة، إلا أنها تهدمت ونحن داخلها.. مات عمي الحفار وأصبحت أنا عمياء.. يبدو أن الفرعون لا يحبني يا أبت، صحيح؟”
أطعمها العارف.. احتضن الصغيرة وقال لأفريقيا وأمها: “الأحياء لا يقدمون القرابين للموتى”.. ثم تابع: “والله يعلم ويسمع ويرى”.
تهللت أسارير الرحالة، وسَرت الطمأنينة في أوصالهم، وحمدوا الله وشكروا العارف.. إلا انهم كانوا أربعة.. فأين المجنون؟
لم يلتفت إليه العارف ولم يكن من الناجين.. لم يسأل عنه أحد ولم يأخذ بيده.. ما زال هناك في تلك البقعة الصحراوية يأكل حفنات من الرمل ويبصقها من جديد.. يبدو وجهه باسمًا وهو يحترق من الداخل.