نحن البشر مكبَّلون بالوجود، ومشدودون إليه، ومقيَّدون بأحكامه، لا نستطيع أَنْ نَفُكَّ أنفسنا عنه، أو أنْ نتحرَّر منه، وحتى لو أردنا أنْ نعود -كما كُنَّا- عدما محضا فما من وليجة في جدار الوجود نلج منها إليه. ومنذُ قُدِّرَ لنا أنْ نرتدي الوجود، أو أنْ يرتدينا الوجود ونحن سجناؤهُ أردنا أم لم نرد، وحبيسو إرادته وفعله فينا أردنا أم لم نرد. فنحن في علم الله تعالى موجودون قبل أنْ نوجد، وما دمنا موجودين في علمه تعالى فنحن إذن مسكونون بالوجود من قبل وجودنا ومن بعده، غير أنَّ هذه “الموجودية” تتشكل بأشكال مختلفة، وتتظاهر بصور متعددة، فنحن موجودون قبل الحياة وبعد الحياة، وفي الموت وبعد الموت، ومهما ارتقت صور “وجودنا” من أدنى درجاته الترابية إلى ذروته الأخروية، فهو واحد لا يتغير ولا يزول ولا يعتريه العدم، لأنه مرصود بالأساس للبقاء والخلود.
هذه القضية من توكيدات النورسي رحمه الله، تناولها بقلمه من زوايا فكرية متعددة في أكثر من مكان من رسائله “رسائل النور” وهي تشكل –بالقطع- واحدا من أعمدة فكره العملاق، حيث استطاع من خلالها أن يحلَّ إشكالات الوجود عامةً ووجود الإنسان خاصةً ويجيب على سِرِّ الخلق والإيجاد.
فسرُّ الخلق -عند النورسي- الحبُّ والجمال؛ ففي الحب قوة الخلق، فهو تعالى فياض بالحب والخلق معا. ولأنه تعالى أحبَّ الإنسان خَلَقه، واصطفاه لنفسه ليكون مرآة صافية تتشرب جماله الأقدس في أسمائه الحسنى وتعكسه إلى الآخرين من المشاهدين، وهذه المدركات العميقة للجمال الإلهي الأقدس تمنح الإنسان السيادة على نفسه، ثم السيادة على العالم.

السقوط في المحدودية

إنَّ أشدَّ ما يخافه “النورسي” على الإنسان السقوط في المحدودية في الوقت الذي أهَّلَهُ خالقه لكي يحوم فوق آفاق المطلق الإلهي. فالإنسان البطولي لا يذهلنا ويثير إعجابنا ومحبَّتنا إلاَّ إذا رأيناه مَعْكسَا لجلال الخالق وجماله، وهذا هو الإنسان الذي ينبغي أن نحرص على رؤيته والتقرّب منه، لأنَّ النظر إلى وجهه عبادة كما يقول علماؤنا.
إنَّ حرصنا على كشف الجوهر الجمالي في تكوينة الإنسان يقودنا إلى عوالم الجمال الماورائية، والتعرُّفِ على أمداء عمقها في النفس والكون. وهذا الجوهر الجمالي لا يكشف عن نفسه إلاَّ من خلال ما يخوضه الإنسان من تجارب إيمانية مركزة تصهر طبيعته الطينية في أتونها لتخرج بعد ذلك مبرأةً من شوائبها.
فإنسان من هذا النوع هو قوة للحياة يزيد في عمقها وغناها، أو قل هو الحياة بقوتها واتساعها. فأي حياة إذا خَلتْ من خطوة جديدة في سلّم الإيمان فهي حياة خاوية غير جديرة بأنْ يحياها الإنسان.
إنَّ النضال الروحي الممتدّ امتداد حياته هو شكل من أشكال الوجود المركز ينتج عنه حبٌّ فهيم لكونية الإنسان ولعظمة قواه الوجودية المتجذرة في أعماق الوجود، ويظلُّ الإنسان محرابا يتعبَّدُ فيه الوجود خالِقَهُ ما لم ينكص على عقبيه فَيُعْمِل مِعْوَلَهُ هدما في المعبد والمحراب في ساعة من ساعات جنونه ليتحول هو نفسه إلى أنقاضِ إنسان، وشظايا مخلوق لا معنى له ولا هدف.
فالإنسان فكرة سامية في ذهن الوجود قبل أن يكون أيَّ شيءٍ آخر. فلا يستطيع داهمُ الفناء أنْ يدهمه، ولا عناصر العدم أن تطاله. فإذا ما أدرك الإنسان حقيقة وجوده، وعرف أنه مصون الوجود، محفوظ للخلود شعر بأهمية وجوده، وأحسَّ بأنه راسية من رواسي الأرض الشامخات، تنهار الأرض إذا انهار وتتهاوى الدنيا إذا تهاوى.
فالوجود بقدر ما هو ثوب إلهي أُلبسَهُ الإنسان، وإكرام له، وإنعام عليه، فهو كذلك مسؤولية عظمى توجب على الإنسان صيانة “موجوديته” والحفاظ على طهارتها وقدسيتها. فلا يأتي من السلوكيات والمعتقدات ما يتنافى وشرفَ هذه “الموجودية” حتى يَلقى بها بارئها كما كانت في أولِ تلبُّسها به، وهذا هو ما تسعى إلى تحقيقه كافة الأديان. ويُحذِّرُ “النورسي” الإنسان من أن يعيش محصور الذهن بـ “هنا، والآن”، ويأبى أن يعرف شيئا عن “هناك” وعمَّا بعد “الآن” تاركا “ما ورائيات” هذا العالم وراء ظهره، مستهينا بكونه حبيس الوجود، ومرصودا للخلود ومأمورا بالخلاص من إسار الزمن لينطلق حُرًّا نحو الآماد الموغلة في بعدها الأخروي فيحظى بالقرب والمشاهدة.
فالجمالية السرمدية تأبى أنْ تُشاهَد بعينٍ زمنية محدودة الرؤية، وقاصرةٍ عن الإحاطة والإدراك، فتنشئُ في الإنسان نوعا من السرمدية لكي يكون قادرا على استشعار هذه الجمالية وتشرُّبها كِفاءَ أشواقه الملتهبة إليها كما يشير “النورسي”.

الانتحار الوجودي

مرة وعلى حين غِرَّة صرخ مفكر غربي في حومة من اليأس البئيس: “لو كنتُ موجودا فأخبرني مَنْ أنا؟ ولماذا أنا موجود؟”.
إنَّ هذه الصرخة المفزعة تكاد تكون لسان حال جمهرة لا يستهان بهم من مفكري الغرب المعنيين بشؤون الإنسان الفكرية والروحية. إنها إشارة غير مقصودة إلى تدهور حضاري بدأ يأخذ أبعادا مختلفة في شتى مناحي الحياة. وهو شعور غامض بالانفصال عن دورة الحياة وعجلة الفاعلية الوجودية، وانحدار سريع للعقل نحو ظلمات “اللاجدوى” وانتحار عقلي مخيف. وكلُّ ذلك بسبب المحدودية الزمانية والمكانية التي وضع فيها نفسه والانكفاء على “هنا، والآن” وغياب الأخروية عن الحضور لدى عامَّة البشر. وهذه هي مأساة العالم اليوم.

المرعوبون

إنَّ مثالية الإنسان وألمعيته وعنصره الكريم يوجب على كلِّ مُحِبٍّ له أن يسارع ليحجز بينه وبين السقوط في مهاوي محدوديات فكرية ونفسية تمنعه من الاندياح الروحي والفكري نحو آفاق المطلق الإلهي على الرغم من أنَّ الاستشراف الفطري في دواخله يهيب به في كلِّ مَرَّةٍ أن ينهض من تحت قهر محدودياته ليلامس قِمم المعاني العظيمة التي يعلي الدينُ من شأنها في النفس والكون.
أمَّا المرعوبون من وجودهم، والمنسحقون تحت ثقله وتبعاته أولئك السوداويون المكتئبون المساطون على الدوام بشواظ من جحيم كيانهم الداخلي، كيف ننتظر منهم فكرا جادا يثري الإنسان ويغني حياته، وأنَّى لهم القدرة على الإتيان بجديد روحي قادر على التأثير بمسارات العالم المادية…؟ بينما يبقى إيمان الإنسان بخلود وجوده يعزز قوى روحه، ويشحذ طاقات فكره، ويفجر ينبوعا دائم التدفق من الغبطة الجذلى بالحياة.
إنَّ الترابيين الذين لا يجدون في المصير الترابي الذي سيؤولون إليه -في زعمهم- ما يوجب الرعب، ولا يرون في ضياع أفكارهم وأحلامهم وآمالهم بالحق والعدل والخير والجمال ما يبعث على الاحتراق أسفا، ولا تهمهم أشواق أرواحهم ولا أفكار أفئدتهم… أولئك المبشرون بالفناء، والمترنمون بالعدم… كم جلبوا على البشرية من خطايا، وأتوا على الإنسان من عذابات، وجرَّعوا العالم من ويلات… فكم من مظهر من مظاهر قوة الله وعظمته مَرّوا عليها بعيونٍ عُمي، وكم من ينبوع من الجمال الأقدس لم يرشفوا منه -على شدة ظمأهم- ولو رشفة واحدة، وكم من سطور على صحيفة الكون خطَّها القلم العلوي لكنهم لا يحسنون القراءة.

الجدب الروحي

إنَّ خطورة “الجدب الروحي” أنه لا يتوقف عند حد، بل يمتدُّ في تصحره حتى يأتي على منابع الفكر والإدراك، ويجتاح بِسمُومه حديقة الوجدان. وعند ذلك لا يأتي من الإنسان شيء ذو بال، بل لا يمكننا أنْ نتصور إلى أيِّ دَرَك يمكن أن يتردَّى إليه مثل هذا الإنسان المجدب من كل مكان.
بل ما جدوى ما أنجزه الإنسان من عظائم الأمور، وحققه من جلائل الأعمال، إذا كان مصير ذلك الزوالَ والعدم؟! ومن ثمَّة فما جدوى وجوده هو بالذات؟ وما جدوى الوجود بأسره الذي يبدو -من غير الحياة الآخرة- فارغا من المعنى والمغزى؟!
فالموت عندنا نحن المسلمين، هو تلك النقطة من الحياة التي يصل إليها الإنسان لسبب ما وينعدم عندها وزن الزمن الدنيوي عليه، فينفلت من جاذبيته، وينفك من قيده، ليلج فضاء الزمان الأخروي الأبدي والسرمدي، مثَلُهُ مثل الفضائي الذي لا بُدَّ له من المرور في نقطة “انعدام الوزن” قبل أن يتيسر له الانطلاق منفلتا نحو الأعماق من أمداء الكون المهول.
لقد كان هذا المفهوم عن “الموت” حاضرا دائم الحضور في أذهان المسلمين الأوائل، وكانوا في أوْج حسهم الأخروي يوم خرجوا على الدنيا بحضارتهم الزاهية التي أثْرَتْ الروح الإنساني، وأمدَّتْ شجرة الحضارة بالحياة والرواء قرونا عِدَّة، ولم يجدوا أنفسهم أبدا في حاجة إلى خنق هذا الحِسّ، وإيقاف نبضه من أجل أنْ يحسنوا التفكير، ويجيدوا الإبداع، ويزيحوا الأستار عن أسرار الأشياء، بل كان الأمر على العكس من ذلك تماما، حيث غدا هذا الحسُّ دافعا ومحفزا لرغبات المسلمين في الخلود عَبْرَ أعمالهم وأفكارهم ومعارفهم، ما دامتْ ستكتسب شرف رضا الله وقبوله والثواب عليها في حياتهم الأخروية.

الانعتاق من أسر المحدود

وقد استطاع “النورسي” رحمه الله تعالى أنْ يشخص أزمة المسلمين منذ البدايات الأولى للقرن العشرين وعزاها إلى فقدان القابلية الحضارية فيهم على التواصل ومواكبة الزمن، بسبب تعطل المحرك لهذه القابلية بخمود لهب التوق للانعتاق من أسر “المحدود” والامتداد بأفكارهم وأعمالهم في “اللامحدود” وبهمود حماسهم في كسر قيد الزمن الدنيوي عن أفكارهم وأعمالهم، بحيث تكتسب شرف الامتداد في الزمان الأخروي الذي تَصُبُّ في حافظته جميع الأعمال والأزمان، ولم يعد “الخلود” هاجسهم الأول ومحركهم الدائم في العمل والفكر، فلم يبدعوا مثلما كان يبدع أوائلهم، ولم يستطيعوا أن يضيفوا في الفكر أو العمل شيئا مهما يمكن أن يسجل باسمهم خلال ذلك القرن.
“والنورسي” يرى أنَّ خلق الإنسان وإلباسه لباس الوجود كرم إلهي، وعطاء رحماني، لا يمكن عقلا وحدسا أن يَستردَّ الكريم هباته، أو يسترجع عطاياه، فطالما أعطانا الوجود -جَلَّ شأنه- فلن يسلبه مِنَّا.
والنورسي لا يني يؤكد على طهر الحياة وقدسيتها، وأنها أصل الخلق والوجود، بينما “الموت” خَلْقٌ عارض ليس له قوة إلغاء الحياة، أو إيقاف مَدِّها الزخَّار إلى بحر الأبدية والخلود، فالموجود له صورة معنوية في علم الله تُمثل مُقَدَّراته الحياتية، وهي تُلازم صورته المادية وتنتقل معها في مراحل نموها، ثم تتبدل تلك الصورة والمقادير مع مسيرة حياته تبدلا يلائم الحكمة في خلقه، وينسجم كليا مع المصالح المركبة عليه.
فبقدر ما في نفوسنا من توق وحنين فطري إلى مشاهدة الجمال والأنس به والانجذاب إليه، فإنَّ الجمال نفسه يبادلنا هذا التوق والشوق، ويطلب لنفسه صفوة من المشاهدين الذواقين الذين يحسنون المشاهدة، ويتأنقون في حضرته، ويطهرون أحاسيسهم ويهذبونها بين يديه. وإنه ليفرح بانشداه أرواحهم ورعشة أفئدتهم بإزاء ما يلمسونه من فخامة جماله وعظمة معناه، ويدعوهم لكي يصغوا إلى نغم ألوانه وأضوائه، ونبل لغته.
وفي تعمقه في سِرِّ الجمال والجميل يكتشف “النورسي” سِرِّ الخلود الموعودين به في عالم الغيب، فيلخص هذا السِرِّ بهذه العبارة الوجيزة: “أبدية الجمال تستلزم أبدية المحبِّ المشتاق”.