في التعبير عن “الذات الحضارية للأمة” يصرِّف الأستاذ فتح الله كولن المصطلحات والمفاهيم(1)، والمعاني والدلالات حسب السياق مع اعتبار المناسبة، متوخيًّا في ذلك الوضوح والصدق، مخاطِبًا قلب المستمع والقارئ جنبًا إلى جنب مع عقله وحواسِّه ومداركه، ذلك أنَّ “العمل أو الفعل الحضاريَّ” هو الغاية المنشودة، وهو المقصد المرغوب.

ولذا لا نقرأ مقالات تحليلية تخصُّصية مدرسيَّة فيما نقرأ من كتابات الأستاذ فتح الله؛ ذلك أنه يصدر من معنى كليّ، وهو أنَّ الكلام الذي لا يصدر من القلب مع الاحتراق هو مجرَّد لغو، وفي ذلك يقول: “عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروح عذابًا، والذهن همًّا، فلا تتكلَّم… وإلاّ فلن تجد أحدًا يصغي إليك… وعندما تصاب الروح بالفتور، وتنخفض درجة حرارة القلب، ويخبو أوارُ الفكر، فأنت متوعِّك روحيًّا، فعليك أن تصمت؛ لأن الصمت هنا أبلغ من كلّ كلام ميت تقوله”(2).

ومن الألفاظ التي تدل على هذه الذات، نسجِّل للتمثيل ما يلي: أنفسنا، وقيمنا الذاتية، والفلك الذاتي، وعالمنا، وعالمنا الذاتي، وعندنا، وتاريخنا، وحضارتنا، ووجودنا، وذاتيتنا الخاصة، وكينونتنا الذاتية، ونحن… ومن هذه المصطلحات ما ورد عنوانًا لمقال، أو مضمَّنًا ضمن عنوان لكتاب، مثال ذلك: “ونحن نولي وجوهنا شطر أنفسنا”، و”نحو عالمنا الذاتي”، و”نحو عالمنا”، “ونحن نبني حضارتنا”.

والأستاذ فتح الله يتخذ “الذات الحضارية”(3) معيارًا لكل حضارة أو تخلُّف، سواء في ذلك على مستوى الفرد أم المجموع. وهو يرى أن الأسباب الخارجية ما هي إلا “مؤثرات ثانوية” لا تعمل ولا تؤثر إلا إذا وَجدت “الأسبابَ الداخلية الذاتية” ضعيفةً مهزوزة قابلة للتأثر. وهو في ذلك ينحو منحى مالك بن نبي في مفهوم “القابلية للاستعمار”، بل يصرِّح بذلك في كتاب “ونحن نبني حضارتنا” فيقول: “ولكن جموع البشر لم تَعُد تَقبل أن تقع -كرَّة أخرى- في موقع “القابلية للاستعمار” بعدما بدأت تُدرِك ذاتَها بذاتها وبمقوماتها الداخلية الذاتية”(4).

وحين استعراض “أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي” يشترط الأستاذ “أن يكون وجودُنا ذاتنا، وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته، ثم نجد مجرى حركة لنا في عموم الوجود، ونسيل بذاتنا في مجرانا الخاص ضمن مجريات عموم الكائنات، ويعني الحفاظ على خطِّنا الخاصِّ إذ نتكامل مع الكائنات كلِّها”(5).

ومن ثم فالمقرَّر أنَّ “الواجب علينا -نحن المسلمين- أن نَعود إلى أنفسنا وقيمنا، ونعزم على البقاء بذاتنا، ونتغذى من مصادرنا بأقصى قدراتنا”.

ولكن السؤال هو: “ما هي مصادرنا إذن؟”(6)

يأتي الجواب من الأستاذ أنَّ “مصدر الدين الإسلامي ومنبعه هو القرآن والسنة، فهو فائض من صدرهما”، ولا يعني هذا طبعًا، أن نستغني عن الاستفادة ما استطعنا من المصادر الأخرى، ومن ثم “يلزمُ المسلمَ ألاّ يهمل قيمه الذاتية البتَّة، وأن يحاول الاستفادة من المصادر الأجنبية بشرط استئذان النُّظُم والقواعد الأساسية الذاتية، وتنقيتها بالترشيح في تلك المصافي”(7).

وفي سبيل تحقيق هذه الذات، والعودة إليها، والعبِّ من مصادرها، والتقوِّي بمقوِّماتها، والاستظلال تحت كنفها… في سبيل ذلك، تولَد أسئلة ملحَّة، وتقف أمامنا إشكالات أكيدة، ولا نملك إلا البحث عن مثل هذه الأسئلة في فكر الأستاذ فتح الله، سائلين المولى الجليل أن يجعلها فاتحة فهمٍ وعلم، وسبب حركية واجتهاد، ينتهيان بالتمكين للأمة في مختلف مستوياتها، ويكتملان بالنصرة والاستخلاف للإيمان والمؤمنين، حسب وعد الله تعالى الصادق”: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)(النور:55).

وفي كتاب “القدر في ضوء الكتاب والسنَّة” يقول الأستاذ شرحًا لهذه الآي الحكيم، وبيانًا لهذا الوعد المتين: “إن الله سُبْحَانه يعِد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإن هذا وعد الله، ووعده صادق بلا ريب، لأنه محال أن يُخلف وعده، وهو القادر على أن يفي به، فهو الحاكم على كل شيء. ولا شك أنه سيحقق ما وعده من الاستخلاف، وسيستخلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الأرض. وعندها ستكون دفة الحياة الاجتماعية بأيديكم، وتنتظم الحياة الاقتصادية بتنظيمكم أنتم، وستدخل التربية الفردية والأُسرية في نظام جديد”(8).

مَن أنا؟ سؤال عن الذات والآخَر

لا يملك الواصف لواقع المسلمين البارحةَ واليوم، إلا أن يجرِّد عشرات الأسئلة حول “الذات والآخر”، وعن العلاقة فيما بيننا، أي عن “ذاتِ بيننا”(9)، ثم يستتبع هذا السؤال تعيين “الآخَر”(10) مفهومًا ومنهجًا وتطبيقًا بمختلف مستوياته وأشكاله وأنواعه؛ ولذا تعجَّب الأستاذ، وهو يشرِّح جسم الأمة داخلاً وخارجًا، فكرًا وعملاً، فغمرنا بهذا الوابل من الأسئلة العميقة، وقال: “مِن أين نفذ فينا الحقد والبغض والعداء والبرم ما دام تاريخنا بريئًا من هذه الأمراض؟ لماذا يبغض بعضنا بعضًا، وننصب الفخاخ لبعضنا، ونفترس بعضنا افتراس الذئب؟ بل لماذا نحرم الحياة بعضنا على بعض؟ مع أننا منذ قرنين نكنّ إعجابًا وحبًّا عميقًا لفرنسا وألمانيا وإنكلترا وأمريكا، وأخيرًا لليابان؟ أم أننا مصابون بمرض في “الشخصية”؟

وإلا، لماذا نقول بلسان الحال: لا خير فينا! فنلجأ إلى الأرواح الأجنبية! نطرح القيم التاريخية لألف سنة في القِمة كطرح الُقمامة ضحية للأحلام والتخيلات؟”.

ونتيجة لتهويماتنا وأوهامنا كانت الثمرة نتنة، وكان الواقع نكدًا، وكان الجيل على شفا جرف هار من هاوية المعنى والمآل، وإننا للأسف مستمرون “في ابتكار معضلات عبثية من العدم والفراغ… ولكن إبان ذلك، نشأت أجيال عديدة بلا مستند وَفَلك وعرفان وفكر، وبدهي بلا مِقْودٍ ولا ربَّان، في ظل الأهواء والرغبات وخيالات الأحلام… فاقدةً ملاحظاتها الميتافيزيقية، غائبةً عن صورتها وشخصيتها “الذاتية”، هائمةً عُمرًا في وهم أن تجد جوابًا عن سؤال: “من أنا؟” في الأسمال التي استجدتها من سبع عوالم، فبقيت مضطربة في أسر مدِّ المادة وجزرِها، وعاشت بلا لسان ولا قلب، وخلطت أحيانًا الدين بالأساطير، وفدت الأخلاقية في مراسيم الترحيب بالإباحية، وصبغت تلَقِّيات الفنِّ بلون الشهوة، وحوَّلت الشعر والموسيقى إلى رضاب يسيل من فم البذاءة… ثم وجدت نفسها في وسط الساحة القاتلة التي يتصارع فيها خمسون نوعًا من هذه الأغلاط. وبدهي ألا تكون النتيجة إلا كهذه”(11).

والمتمرِّس لفكر فتح الله يتأكَّد أنَّ الوقوف على عتبة التذمُّر والتشاؤم والوصف والحيرة، ليس من طبيعة الأستاذ، ولا يلائم “نماذجه الإدراكية والتفسيرية”(12)؛ فهو في أسوء الأحوال متفائل، واثق في الله، متحفِّز متوفِّز، وهو في أحسنها، حذِر، خائف من الله، سائل عن حقيقة النصر والفوز، هل هو للابتلاء أم هو جائزة من الله سبحانه.

بناء على هذا التوازن في الفكر والفعل، بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المقنط، نقرأ للأستاذ استدراكًا معقولاً، مما جاء فيه: “والواقع أنَّ نفخ الحياة في هذه الجنازة الحية عسير؛ لأنَّ مثل هذا الجيل قد صار غريبًا عن حياة من نوع حياتنا، ومخالفًا لقيمه الذاتية. ومع كل ما فيه، فإنَّ واجب النهوض به ملقىً على عواتقنا. ونحن نؤمن بأنه سينتفض على قدميه كسامع نفخة الصور، ويهتف بِجدٍّ مُعلنًا “إقبالَ وجودِه” كرَّة أخرى، عندما تحيي المشيئة الإلهية إرادتنا”(13).

ومن ثم كان السؤال عن “ذاتنا الحضارية” بذرةً لكل حركية إيجابية على خطِّ الزمن وعلى سفوح المكان. وأمَّا الإغفال عنه فهو الحالقة، وهو مُبتدَأ السقوط والانحسار.. ولقد يُقاس منسوب “الحضارة أو التخلف” في أمةٍ ما بمدى وضوح هذا السؤال، وبمدى الاشتغال به، وبحقيقة الأجوبة التي تحوم حوله، وبمدى استجابة النظام التربوي لمتطلباته الملحَّة، وبالغاية المتوخَّاة من كل سياسة حيال هذا السؤال الديناميكي الفعَّال.

وصدق الله العظيم، وهو يحرِّك فينا هذه الطاقة الكامنة، ويأمرنا أمرًا ملحًّا، واضحًا، صريحًا، بقوله في محكم تنزيله: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(الأنفال:1).

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.

الهوامش

(1) جمعت مادة كبيرة من مصادر الأستاذ، تعالج “المصطلحات والمفاهيم” الحضارية، وطبع بعنوان: “الزمن والوقت: النصوص والمفاهيم المؤسسة للرؤية الكونية لفكر الأستاذ فتح الله كولن”.

(2) طرق الإرشاد في الفكر والحياة؛ ص5. وينبغي في نفس السياق معالجة مفهوم “تأشيرة الوجدان”، دار النيل، القاهرة.

(3) يقول علي شريعتي في كتابه المعنون بـ”العودة إلى الذات”: “على كلٍّ منَّا نحن المفكرين عندما نقول: “فلنعد إلى ذواتنا” وكلنا مشتركون في هذا، على كل واحد منّا أن يطرح أمام نفسه هذا السؤال: أيَّ ذات؟”، نسخة مكتبة الإسكندرية، ص:93.

(4) ونحن نبني حضارتنا، دار النيل، القاهرة 2013، ص:11.

(5) ونحن نقيم صرح الروح؛ دار النيل، القاهرة، ص:58.

(6) ونحن نبني حضارتنا، دار النيل، القاهرة 2013، ص:189.

(7) المصدر نفسه.

(8) المصدر نفسه، ص:65-66.

(9) قال إسماعيل في “تفسير روح البيان” وهو يشرح قوله تعالى -عز وجل-: (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) من أوائل سورة الأنفال: “ذاتُ البين هي الأحوال التي تقع بين الناس، كما أنَّ ذات الصدور هي المضمرات الكائنة فيها… ولما كان ما حل في الشيء ملابسًا له، قيل إنه صاحب محلّه وذوه”.

(10) للمفكر طارق رمضان، كتاب عالج فيه مفهوم الآخَر وعلاقته بالـ”أنا”، وهو باللغة الفرنسية بعنوان “الآخر في النحن: لأجل فلسفة للتعددية” (L’autre en nous. Pour une philosophie du pluralisme).

(11) ونحن نقيم صرح الروح؛ ص139؛ مقال بعنوان: “ونحن نولي وجوهنا شطر أنفسنا”.

(12) انظر المصطلح عند عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية، الجزء الأول.

(13) ونحن نقيم صرح الروح، ص:140.