زينة الإيمان وتعب الطريق

الدنيا جيفة وطلابها كلاب.. هذا هو الوجه المذموم للدنيا؛ ومن ناحية أخرى، الدنيا مزرعة للآخرة، وكذلك هي مرآةٌ تتجلى فيها أسماء الله الحسنى وتعكس جماله صلى الله عليه وسلم. وإن النظر إلى الدنيا من خلال هذين الوجهين ثواب، وهو نظرٌ يكشف أفق معرفة الإنسان ثم يسوقه إلى الله. أمَّا الأكل والشرب والنوم والتفكير في جمع ثروات مثل قارون، واستغلال كل الفرص لحساب النفس والشيطان دون التفرقة بين الحلال والحرام، فهي أفعال مشوبةٌ بالجانب المذموم من هذه الدنيا. ولقد وصف صاحب الشريعة المتكالبين على الدنيا بـ”الكلاب”، وهذا يؤكد أهمية هذه المسألة؛ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتلفظ بكلام سيء، لكن عندما نظر إلى الجانب السيء من الدنيا (الجيفة)، قال هذا الكلام ليكون مطابقًا للواقع.

تظهر الدنيا أمام الإنسان بزينتها ومتاعها وبكل جاذبيتها، وترغب في ربط ذلكم الإنسان بها، لكن مَن تعلَّقت قلوبهم بحب الله منذ زمن بعيد، يعيشون في هذه الدنيا مشتاقين لرؤيته، ولا يتحدَّثون إلا عنه سبحانه.

إذا لم يوصَف المرء بالجنون، فهذا يعني أنَّ إيمانه ناقص؛ ذلك أنَّ صاحب الإيمان الكامل يُعرِض عن كافة أنواع سلطنات الدنيا ومتاعها والإمكانيات التي تستدرجه حتى أسفل قدميه، ولا يستغل أي شيء لصالح الدنيا، وحتى إن فعل ذلك إنما يفعله في سبيل الله. فهو يردد دومًا: “يا إلهي! إني أريد أن أستغل هذه الإمكانات من أجل إعلاء كلمتك، وإقامة صرح أرواحنا الذي هدمناه”.

إنَّ من كان قبلكم لم يُفسحوا المجال لرسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم يومًا ليضحك. يقول الدارسون في السيرة والذين يحاولون رسم شخصيته المعنوية وصورته الروحية: “رأيناه يضحك في حياته حتى بدت نواجذه ثلاث مرات فقط”. وكلُّها كانت تحمل رسائل وبشائر تتعلق بكم. فإن كان قد ضحك فقد ضحك في مثل هذه الأحوال ومن أجلكم؛ لأن هؤلاء المعاندين لم يعطوه الفرصة لأن ترجع شفتاه إلى الوراء ليضحك، بل حوَّلوا الحياة بالنسبة إليه جحيمًا؛ لكنه -فداه روحي- كان مرتبطًا بدعوته، واعيًا بما يفعل، لدرجة أنه ظل مصممًا على البقاء في هذه الدنيا حتى أتاه اليقين.

أذِن الله أن يعاني سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أقسى أنواع العذاب في هذه الدنيا، كما وهبه أعمق أنواع المعرفة.

أدعو الله أن يرزقكم أنتم كذلك ذلك الاشتياق..! ولتتحرق أرواحكم دائمًا بهذا الاشتياق إلى الله، واسعوا جاهدين دومًا من أجل إقامة صرح أرواحكم، ولتجري أحداث الزمان أحيانًا في صالحكم وأحيانًا أخرى ضدكم.

“الخير فيما اختاره الله”… مهما قدَّر الله لعباده من نتائج، فلا ريب أن ما يقدّره لهم هو الاختيار الأنسب والأكثر فائدة وبركة. نعَم، إن الخير في كل ما خلقه الله واختاره..!

ربما يبتلينا الله بنا لنتقرَّب إلى بعضنا البعض ونتَّحد. إذن، فعلينا أن نتَّحد كالبنيان المرصوص كما نقف في الصلاة جنبًا إلى جنبٍ، ويجب أن نفكِّر أنَّ الله هو الذي قد فعل هذا راضين مطمئنين؛ ونقول “الحمد لله على كلِّ حال، سوى أحوال أهل الكفر والضلال”.

كما تكونوا يولَّى عليكم

ومن ناحية أخرى، علينا أن لا ننسى ما روي في الأثر؛  “كما تكونوا يولَّى عليكم”، كان هناك شخص يدعى طاهر أفندي وهو من أوائل أعضاء البرلمان في تركيا. ومن العلماء والفضلاء. وفي الوقت الذي كان سائر أعضاء البرلمان الآخرين يلقون كلماتهم أمام الجماهير، كان طاهر أفندي يلتزم الصمت قابعًا في ركن من الأركان. سأله أنصاره يومًا: “متى تتكلم أنت أيضًا يا سيدي، كل نائب بالبرلمان يتكلم فيفخر به أنصاره، فماذا لو تكلمتَ فنفتخر بك!”. وكان طاهر أفندي شخصًا يتكلم قليلاً، ولا يخوض إلا في المفيد، فخاطبهم قائلًا: “اعلموا أنكم منتخِبون، وأنا منتخَب. وأمَّا المكان الذي سنذهب إليه فهو منتخَب إليه (أي البرلمان). وما تفعلونه يسمى الانتخاب. وهذه الكلمة تشتق من النخبة التي تعني الزَّبد. ولا تنسوا أنَّ الزَّبد يكون من جنس الشيء الذي يوجد تحته: فزبد الزبادي يكون من الزبادي، وزبد الحليب يكون من الحليب، وزبد الشَّبِّ يكون من الشَّبِّ”.

عندما سمعت هذا الكلام، قلت: إنَّ هذه هي كرامتك يا أستاذ طاهر! فأنا لم أرَ أحدًا ضرب مثلاً على هذا الأثر “كما تكونوا يولَّى عليكم” بهذه الطريقة حتى اليوم.

يقول الله في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(المائدة:105).

إذا كنتم تعرفون ذلك حقًّا، وتؤمنون بصحَّة الطريق الذي تسلكونه؛ فاستمروا في هذا الطريق وذلك بمضاعفة أعمالكم وحركاتكم. وإن الطريق الذي تسيرون فيه هو طريق إقامة صرح أرواحكم؛ وهو طريق المضي قدمًا نحو “المدينة الفاضلة” من وجهٍ، والتخلص من الآثام من وجه آخر، وهو طريق التوجه إلى الكمال الذي يهدينا إلى إرضاء الله عز وجل، من وجه ثالث.

(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران:139). ثقوا أنَّ الله تعالى سيحوِّل هذا التفوق إلى مخطط واقعي يومًا ما، ولسوف تجدون أنفسكم في موقع لم تتخيلوه من ذي قبل لدرجة تدهشكم.

إنَّ مَن لا يزين إيمانه بالمعرفة لا ينجو بنفسه من تعب الطريق. ومن لا يستطيعون تعميق معرفتهم بالعشق والمحبة لا ينجون من التضوّر في شبكة الشكليات.

وبدلاً من أن تشغلوا أنفسكم بأسئلةٍ من قبيل “ماذا سيحدث بعد ذلك؟”، علينا أن نستغل طاقتنا الفكرية في طريق إيصال فعالياتنا وإرادتنا والأمانة التي نتحمَّلها على عاتقنا إلى الأجيال القادمة، دون تبديل أو تغيير؛ لكأنه ليس لدينا أية علاقة بهذه الدنيا.

ويجب أن نكون شجعانا وعلاقتنا بالله قوية لنستطيع ردّ الدنيا بكل ملذاتها وزخارفها.

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.