زمن الأنصاري من الأنس إلى العمران

لصلة بالشيخ الدكتور فريد الأنصاري (1960-2009م) فرادة، فهي لا يمكن أن تظل باهتة أو حتى فكرية صرفة، وهو الذي لم يرى في النظر سوى معبرًا للإبصار، وإنما الإبصار إبصار القلب والوجدان، ولذلك تجد نفسك وأنت تقرأ له أو تستمع إلى أحاديثه أمام نهر من المعاني يتسرب أذواقًا ومواجيد على قلبك فيحييه بفريد خريره.

والأنصاري في شغفه بالقرآن وانغماسه في بلاغات رسالاته، لم يكن يصدر إلا عن تجربة كابد خلالها آي الكتاب حتى قبل تأسيسه لما سماه بـ”تداولية قرآنية”، ضمن تناوله للرؤية الدعوية لبعثة التجديد المقبلة، تلك التجربة التي كان يعبر عنها بين الفينة والأخرى في ثنايا المنشور من دروسه وعظاته فضلا عن كتاباته حتى دونما إضافتها المباشرة إلى نفسه.

غير أن اللافت للانتباه في هذه التجربة القرآنية إحساس الأنصاري الخاص بالزمن، فلا تكاد تجد له عملاً لا ينضح به حتى أوشك الزمن أن يصبح بطل أعماله تلك، إلى الحد الذي يشي بالزلزال العنيف الذي أثاره فيه، والذي لم يفتأ ينبه إليه كمدخل كونيّ هام من مداخل تجربة الإبصار القرآني في مسلك التعرف إلى الله، وهو الذي عرف القرآن في ما عرفه به أنه: “كتاب التعريف بالله”.

لقد كثف الأنصاري في دروسه ومحاضراته إشارات إحساسه بالزمن خاصة منها تلك التي جاءت ضمن سلسلة “منازل الإيمان” المستوحاة من “مدارج السالكين” لابن القيم، وأخرى منفصلة ألقاها بمكناسة الزيتون العامرة بالمغرب الأقصى، والتي يبدو أنها شكلت خلاصة ما انتهى إليه في بعض استشكالاته الوجودية وبالتالي مساره الدعوي.

ولضيق العبارة عن فيض الحال فقد وظف الأنصاري في دروسه تلك طاقة توليدية عجيبة اشتق لها من ذاته، متوسلاً العبارة التي لا تخلو من إشارة؛ الفصيح منها وحتى الدارج، ومستعينًا أيضًا بتجربته الروائية والشعرية، وبثروته المنهجية والمصطلحية التي أمدته بها أصوليته الشاطبية الفذة. ضمن سعيه الحثيث في اختراق مواجيد مستمعيه وأسر مريدي “التنمذج” منهم،ذلك أن حديثه عن الزمن كان عن وعي حي، أو قل هو حديث عن تجربة أكثر منه حديثًا عن موضوع، وإن كان الموضوع مدرجه إلى تلك الحال، والزمن يظل أحد أهم المفاهيم المعضلة والعصية على النظر بمعزل عن العمل من حيث هو في النهاية تمثل إنساني، ولذلك نجد الأنصاري يعرف الإنسان به إذ يراه “وقتا”. يقول: “ما الإنسان إن لم يكن هو هذا العمر المحدود بداية ونهاية، وبينهما يوجد شيء اسمه الإنسان، فتأمل!”.

والأنصاري في شغفه بالقرآن وانغماسه في بلاغات رسالاته، لم يكن يصدر إلا عن تجربة كابد خلالها آي الكتاب حتى قبل تأسيسه لما سماه بـ”تداولية قرآنية”، ضمن تناوله للرؤية الدعوية لبعثة التجديد المقبلة.

وهو إذ يؤكد أن الإنسان هو الزمن فإنه يرى أن هويته تلك (إنسانيته) تتحدد بموقفه منه، وهذا معنى يتجلى في حديثه عن الصبغة الإيمانية للزمن التي تتحدد في وعي المؤمن بالله من حيث هو وعي حساس به -أي بالزمن- إذ يصله بربه، وكأنه يردد شدو إقبال: “حيرة العبد مسير الزمن، حيرة الأزمان قلب المؤمن”، ولإبراز أهمية هذه الصبغة التي يصبح بها الوقت وقتا يستعير وصف المتصوفة للسالك المنقطع بأن له “أوقاتا”، أو هو صاحب وقته إذا قام بحقه، ونحو قولهم: “فلان يصلي الأوقات” في إشارة إلى معنى أخص من المحافظة على الصلاة وهو أداؤها في وقتها الذي هو تعبير عن القيمة التشريعية للوقت، ويزيد ذلك تخصيصا بأنه الاستفادة من سر ذلك التوقيت في إشارة إلى قيمة الوقت الغيبية…، وهي عنده استفادة حال ابتداءً، ذلك أنها تحرره نسبيًّا من رق الزمان المتحيز النسبي إذ يستيقظ البعد الغيبي الأبدي في صميم ذاته فيأنس فيه بالله على نحو يتسرمد به وقته، فيدخل في “الزمن الخالد” الذي فيه كتب: “كان الوقت فكانت الصلاة.. وإنما الوقت هو الصلاة”.

وكذلك امتد الأنس في نهر زمن الأنصاري- في خواتيم روايته (كشف المحجوب) عندما عاف برك النهايات الراكدة…، فعبر عنه قاصًا: (امتد الأنس مقامًا راقصًا يغمر كل كياني.. أقبض ذراعي وأبسطهما؛ فينقبض الماء من ضفتيه وينبسط لهما! وكأن جسم النهر من جسمي!، بل ذلك ما أدركت من حقيقة أمري! فما بال (كأن) تلبس الحقائق على لساني؟.

وزمن الصبغة الإيمانية عند الدكتور فريد هو أثر علاقة لا تنفك بين زمن الشريعة وزمن الحقيقة من حيث كون الأول إمكانًا كونيًّا يوهب للإنسان من أجل التوغل الحقيقي في الآن الهشة الفانية واقتناصها في شباك البقاء، ولذلك تجده شديد التعظيم للأزمنة التعبدية لما فيها من نفحات الغيب.

إنه لا يرى في صرامة المواقيت الشرعية مجرد القهر، وإنما يشاهد فيها تمام الانسجام مع مدارات الكون الآمنة لاستدرار ألطاف الغيب وجميل نفحاته، وكذلك هي عنده مواقيت التعبد كلها، ولذلك ميز بحدة في التزام الشعائر بين “الأداء” و”القضاء”. ذلك أن لأوقاتها تلك من الأسرار ما ينأى بها أن تبدو مجرد محطات زمنية باهتة لا معنى لها. إنها تعبير عن امتدادات ملكوتية عميقة لحركة التعبد الأرضي البسيطة امتدادَ القبلة البيت العتيق إلى البيت المعمور في غيب السماء السابعة، حيث الملائكة لا تنفك تطوف حوله لله رب العالمين، ولا مطلوب هنا إلا الحضور للتناغم معها، وبذلك تتجاوز بركة سجدة المؤمن السماء السابعة، على أن الأنصاري لا يفصل في ذلك بين المقيد والمطلق من مواقيت التعبد، فهو وإن رأى في المقيد منها مداخل كونية إلى مقامات التعرف على الله والأنس به، فإن تلك المعرفة لا تلبث عنده أن تتلبس مطلق أوقات العارف، فتصبح كل لحظة منها لحظة اقتراب لا ينتهي، وبذلك يجد العلاقة بين الزمن وذاته، فيسعى إلى تخليصها من آفة الفناء إذ يهبها للبقاء. وكذلك هو حديث الأنصاري عن ما يسميه بالعمر العريض أو المبارك الذي تعد فيه اللحظة بعشر أمثالها، وذلك هو زمن المعنى المنقذ لزمن الطول من الانخرام واللامعنى…

زمن المعنى الذي له ما بعده من التجلي التاريخي في مدده النفسي وامتداده الثقافي،وإذا جاز اعتبار أوقات التعبد لحظات فناء فهي ليست في النهاية عند الأنصاري إلا طريق إزهار وبقاء، وزمان الوصل على قوة معناه الغيبي لديه لا ينفك عنه هذا المآل من حيث هو في النهاية عمران، فالعلاقة بين العمر والعمران بمقتضى اللغة علاقة امتلاء وفيض، والمؤمن بفيض عمره العامر بالله يملأ المكان ويمتلئ عليه المكان، المكان الذي لا يكتسب صفة العمران إلا عبر زمن الإيمان، وإلا فهو خراب مهما علا فيه البنيان.

لقد كثف الأنصاري في دروسه ومحاضراته إشارات إحساسه بالزمن خاصة منها تلك التي جاءت ضمن سلسلة “منازل الإيمان” المستوحاة من “مدارج السالكين” لابن القيم.

وبهذا المعنى يزن الأنصاري لحظة العولمة فيصفها بأنها يهودية بامتياز، وقد تساوقت مع “تضايق وتقارب للوقت حتى لم يبق منه –لفوات الواجب- إلا وقت الضرورة”.

زمن تضافرت فيه أزمنة المسخ الإنساني على زمن الفطرة تكفره برمادها. “ولها في كل العالم أدخنة وحرائق! في كل يوم تحرق ألف عصفور وحمامة!”، ولأن الأنصاري أبصر، فقد جنى الورد من جوف الشجر، وعانق طلائع الفرسان القادمين من وراء الغيب، فلم تشكل لديه هذه اللحظة الاستثنائية مرثية بقدر ما ألفى فيها فرصة خصبة للاستثنائيين من حملة النور الذين يقتبسون من مشكاة الليل الأخضر زادا للسير، ولذلك أعلن: “هذا نهاية زمان نهاية الجغرافية واختفاء الحدود! نعم، ولكنه زمان انبعاث حركة التاريخ، واستشرافها لدورة حضارية أخرى”، دورة سيشكل فيها زمن الأنصاري لحظة فارقة، لحظة النور الممتد من (آخر الفرسان) إلى (عودة الفرسان) فقد كان بحق من أولئك الذين أبصروا فـ “قدَّروا أن لا وقت لديهم ينفقونه في غير ما يحقق معنى الكمال الإنساني الذي به تتحقق الاستخلافية، استخلافية الإنسان في الأرض”.