لفت نظري أن زجاجات الحليب التي تضعها شركة الحليب كل يوم عند باب جاري، بدأت تتكاثر لدرجة لافتة لنظر المارّة. شعرت بحيرة شديدة، لأن بقاء تلك الزجاجات ووجودها دائمًا أمام باب المنزل، يعني دعوة لأي لص من اللصوص لدخول المنزل مستغلاًّ غيبة صاحبه عنه.

مضت الأيام على خير، وستر الله المنزل، ولكن من ذا يضمن أنها لن تكون في عين أحد المجرمين فينتهزها فرصة ويسرق من البيت ما شاء؟! فقد غدت الفرصة سانحة أكثر من أي وقت سابق.

كنت أحاول أن أطرد مسألة التفكير في ما سيحدث لمنزل جاري، وما شأني أنا بالموضوع من أوله إلى آخره؟ والرجل لا يعرفني ولا أعرفه، وحتى لو سُرق منزله فلن يضرني هذا شيئًا أبدًا… ولكن سرعان ما أستبعد ذلك من ذهني، وأرى من واجبي أن أعمل شيئًا، فليكن ذلك الرجل شخصًا لا أعرفه، ولكنه على الأقل جاري. ثم إن أخذت هذه الزجاجات ووضعتُها عندي، لن أخسر شيئًا، فإن جاء وهي جيدة، استفاد منها، وإن جاء وهي منتهية الصلاحية، فلا ذنب لي في الموضوع.

ومضى نحو أسبوعين، وأنا آخذ زجاجات الحليب من أمام منزل جاري وأضعها عندي… ولكن عندما بدأت تتكدس في ثلاجة منزلي الصغيرة، أخذتُ أنتقي التي انتهت مدة صلاحيتها لكي يتسع المكان لغيرها. لقد تضايقت زوجتي وأبنائي بعض الشيء، إلا أنني شعرت أنه لابد من إكمال المشوار، فأخبرتهم الحقيقة التي لا مفر منها، وهي أنني جاد فعلاً في هذا العمل حتى أصل إلى ما أريد.

وحين عاد جاري إلى منزله ذهبت إليه وقصصت عليه ما عملته بالكامل.. وأن زجاجات الحليب قد ملأت ثلاجتي… فضحك ضحكة صافية. ثم قال:

– ولماذا فعلتَ هذا حقيقة؟
– كما قلتُ لك؛ كنت خائفًا على منزلك من السرقة.

– هذا عمل عظيم أشكرك عليه.

كانت حادثة الزجاجات سببًا في كسر الحائط الجليدي بيني وبين جاري، إذ دعاني إلى منزله أكثر من مرة، وعرّفني إلى زوجته ماري قائلاً إنها راهبة في مدرسة القديس يوحنا.

شعرت بانقباض شديد في نفسي، لا أدري لماذا، ولكن هذا ما حدث… فأنا ما تعودت طيلة حياتي أن أكون وجها لوجه مع راهب أو راهبة، لم تكن بي رغبة في ذلك، ولم أضطر حتى جاء هذا اليوم… قالت بعد أن حيَّتْني ورحّبت بي:

– لقد فعلتَ خيرًا أيها الأخ العزيز.

– هذا واجبي… إن الجار له حق عندنا، لأن ديننا يأمرنا بذلك… يأمرنا أن نحترم الجار، ونتعاون معه، ونكف الأذى عنه، ونساعده بقدر ما نستطيع… لقد خشيت حقيقة من أن يدخل لص من اللصوص بيتكم ويسرق ما فيه. التفتت زوجته الراهبة إليه قائلة:

– إنها غلطتك يا سميث.

– دعينا من اللوم في مسألة انتهت دون مشكلة، لقد نسيت أن أطلب من الشركة أن تقف الاشتراك طيلة غيابنا، هذا كل ما في الأمر.

وحين توقف سيل الاتهامات المتبادلة بينهما، رحتُ أذكر ما أحفظه عن حب الجار والعناية به وإكرامه، مما حدث في عهد الرسول -صلّى الله عليه وسلم- والقرون الفاضلة الأولى، وطوال حديثي كنت أحس منهما إصغاء غير عادي شجعني على الاستمرار، فوجدتها فرصة أن أشرح لهما قول الرسول -صلّى الله عليه وسلم-: “واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن، واللهِ لا يؤمن”، قيل من يا رسول الله؟ قال: “من لا يأمن جاره بوائقه”.

وختمت حديثي بقولي: وبعد هذا فما تصورتماهُ شيئًا مدهشًا، فإنه أمر عادي نمارسه بتلقائية وعفوية. أثار ذلك دهشة الزوجين وبخاصة ماري الراهبة التي صرختْ قائلة: أوه… هذا رائع… هذا غير عادي… لقد كنت أعتقد أن المسيحية وحدها هي دين المحبة.

قال سميث معقبًا: هذا جيد…

ثم نظر إلى ماري وإليّ وهو يقول:

-هل ستغضب ماري إذا طلبتُ من جارنا معلومات أكثر عن دينه الذي حدّثَنا عنه؟ يبدو لي أن في تصوّرنا عن الإسلام خطأً.

قالت: بكل سرور، هذا يرجع إليك.

نظرتُ إلى تغير وجهها، وصعوبة هذا الأمر عليها، فحمدت الله تعالى على نعمة الإسلام، لأن تقبل عقيدة أخرى ليست أمرًا سهلاً على النفس. ووعدت بإحضار ما طلبه سميث وماري.

في اليوم التالي وفي طريق عودتي من الكلية إلى المنزل، مررت على مركز إسلامي وأحضرت عددًا من الكتب المبسطة للإسلام. كنت أعتقد أن لدى المركز مكتبة غنية بكتب التعريف بالإسلام والدعوة إليه، لكني حينما ذهبت وجدت أن أكثر الكتب قد نفد، بل إن نسخ ترجمات القرآن الكريم قد نفدت من المراكز الإسلامية والمساجد لكثرة الطلب عليها، فاستعرت من الكتب الخاصة بالمكتبة ووعدت بإعادتها على مسؤوليتي… قدّمتها لجاري وزوجته، وأعطيتهما رقم المركز إذا رغبا في معلومات أكثر.

بعد فترة، كان أحد الأصدقاء في المركز يتصل بي ويقول إن لدينا حفلةَ إسلامِ كلٍّ من سميث وماري جارَيْك اللذين حدثتَنا عنهما، ونريدك أن تساعدنا في إعداد الحفلة وتوفير ما نحتاج إليه، فأنت تعرف ظروف المركز. دمعت عيناي من الفرحة، شعرت بأطياف السعادة تحوم حولي، اعتقدت أنني محظوظ أن أكون سببًا في الدعوة إلى الله، رغم أني لم أبذل في ذلك شيئًا يُذكر، لقد قمت بأمر بسيط، بسيط جدًّا، انتهى بتوفيق الله إلى هذه الغاية النبيلة.

قلت له: سوف أتكفل أنا بكل شيء في هذه الحفلة، سوف أستأذن من الكلية ذلك اليوم، وسوف أعدّ لهما بنفسي حفلة مناسبة.

(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية / المملكة العربية السعودية