قراءة في رواية الديوان الإسبرطي

تعود الجزائر لتتصدر المشهد الروائي العربي بفوز الروائي/ عبدالوهاب عيساوي بجائزة البوكر 2020م وذلك عن روايته : “الديوان الإسبرطى”، حيث يغوص بنا الكاتب في أعماق التاريخ، عبر أثينا وإسبرطة، وما كان بينهما من حروب، وما نتج عنهما من حضارة عسكرية وثقافية وسياسية واجتماعية، والرواية من أدب الرسائل، أو أدب السيرة الذاتية، حيث تدور أحداث الرواية في الجزائر العاصمة، وتحديداً في بلدة اسمها المحروسة، هناك وقد حدد الكاتب الفترة الزمنية لأحداث الرواية ما بين1815م و1833م، والرواية تركز الضوء على فترة التواجد العثماني في الجزائر، في ظل وجود الدولة العلّيّة التركية (العثمانية) حيث الاستعمار الفرنسي للجزائر، كما تنقل لنا عدة أحداث مرت بها الجزائر، ومعارك كانت لها أثراً في التاريخ الجزائري مثل معركة واترلو، وحادثة المروحة، وهجمات القراصنة على الجزائر، كما تبرز مدينة طولون التاريخية  كشاهد على عصر مضى – كما يقول المؤلف: تعود طولون إلى الذاكرة كمهرجان من الهُتاف، ووجوه مألوفة وأخرى غريبة تجوب الشوارع. جنودٌ في صفوف لا نهائية، خطواتها رتيبة تهدف إلى الميناء، الكل يود أن يكون جزءا من الحرب المقدسة، التي تبعث المجد لأمة خدش شرفها وأهين، الكل يريد القضاء على ربوة القراصنة التي تستعبد المسيحيين، الكل يحلم بالقضاء على أسطورة الأتراك المتوحشين في المتوسط، ولكن كيف هي طولون اليوم؟”.

إنها رواية الذاكرة الجزائرية إذن، تعيد استلهام التاريخ، تستعيد الأمجاد الجزائرية، وتحكي ما خبأته كتب التاريخ وأديباته عن الجزائر، كما تكشف الكثير من الحقائق التاريخية، الممزوجة بالتخييل، عبر المخيال السردي الباذخ الذي يقدمه الكاتب.

ويحتل البحر مكانًا أثيرًا لدى السارد، فهو مرتبط بالغائيات الكبرى: اليقين، البحث عن الإله الخالق، في ظل وجود معتقدات بالية عن الآلهة، حيث الشيطان يعتبر الإله الرامز للجهل، وللغطرسة والسلطوية كذلك، لكنه البحر بهديره يحيله إلى الوعي، اليقظة التي تأخذه إلى القيم الكبرى: الإيمان بكل معانيه، وفى كل الديانات، يقول عن البحر: “البحر يجعلك تؤمن أن هناك يقينًا وإن كان غامضًا لكنه ينتابك حين تشتاق إلى اليابسة، أما السياسة فهي شيء آخر حيث اللايقين هو اليقين الوحيد الذي عليك اعتناقه”.

وما يميز الرواية هو تعددية الشخوص، والمواقف والأحداث، مما بين ديبون، كافيار، ابن ميار، حمّة السلاوي، دوج، وهى شخصيات خمس، تستحوذ كل منها على فصل كامل، وتحكى وقائع طولون والمحروسة، وذكريات القراصنة الذين يغيرون عليهما، على الجزائر، والتى انتهت بإغارة الفرنسيين المحتلين عقب الحرب العالمية الثانية، كما يأتي السرد يحمل واقعًا سحريًا عبر معادلات موضوعية وفنية يصغوها بعبارات رشيقة، رامزة مستخدماً تقنيات التناص الإحالي، ومستدعيًا خلف ظاهر التخييل، والوقائع التاريخية، ليحيلنا إلى مشهدية الحدث، والمعارك الكثيرة، الحرب اللاإنسانية لمسيرة الغطرسة والظلم أثناء التواجد العثماني، وما أعقبه من احتلال فرنسي، لبلد المليون شهيد، يقول في روايته : “ينحدر أمامي السهل، تملأه مقابر المحمديين، أراه من على صهوة الحصان، أضربه بكفي فينطلق مسرعا، لم أكن أدرك أن الخيول العربية بكل هذه الرشاقة. الآن أضحى على الفرنسيين أن يفكروا بجدية في هذا النوع من الخيول، إنها أفضل حتى من الخيول الأوروبية، رأسها صغير، وعيونها واسعة، وأجسامها منسجمة، ولا تتعب من المسافات الطويلة”.

ويعتبرها بعض النقاد أول رواية تاريخية جزائرية بالمفهوم البنائي والتوثيقي والفكري معًا، وقد صدرت الرواية لأوّل مرة في العام 2019 عن دار ميم للنشر في الجزائر، وتتحدث الرواية عن خمس شخصيات تتشابك في فضاء زمني ما بين 1815 إلى 1833، في مدينة المحروسة، الجزائر. أولها الصحفي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحفي، وكافيار الذي كان جنديا في جيش نابليون ليجد نفسه أسيرا في الجزائر، ثم مخططا للحملة. ثلاث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر، وكما تختلف في طريقة التعامل مع الفرنسيين، يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى الفرنسيين، بينما لحمّة السلّاوي وجهة نظر أخرى، الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير. أما الشخصية الخامسة فهي دوجة، المعلقة بين كل هؤلاء، تنظر إلى تحولات المحروسة ولكنها لا تستطيع إلا أن تكون جزءا منها، مرغمة لأنه من يعيش في المحروسة ليس عليه إلا أن يسير وفق شروطها أو عليه الرحيل. كما تحفل شخوص الرواية بزخم تاريخي وسيميولوجي من خلال السرد، الذي يعتمد الإزاحة والتراكم، والتماثل، والترميز أيضًا كموجه لمسيرة السرد المكتنز الدافق والمنساب بروعة مغايرة، تضفي مزيدًا من البهاء على العمل الأدبي الذى استطاع أن يماهينا به ” ما بين الشعرى والسردي “الديوان الإسبرطى” وكأننا أمام سارد معاصر، يجمع بين الحسّ السردي الشاعري، والسرد البديع الحقيق الناجز، التاريخي، والاجتماعي والذاتي أيضاً. إنها رسائل التاريخ، أوراق متناثرة من سيرة ذاتية، فضفضة، مسرودات، يرويها لنا عبر سردية تاريخية واقعية وتخييلية، واستشرافية للواقع المعيش كذلك، وإشارية إلى معاناة الشعب الجزائري عبر عصوره التاريخية الممتدة.

تظل رواية: “الديوان الإسبرطى” شاهدة على ابداع كتّاب الجزائر، وتفوقهم المستمر في الحفاظ على صدارة المشهد الروائي في مجال الجوائز، إلى جانب مصر، لتندغم الحداثة بالأصالة والمعاصرة ولنؤكد بأننا أمام كاتب متميز جاد، سامق وباذخ، اسمه (عبد الوهاب عيساوي).