رجال “القلوب الضارعة”

سألتني -أيها العزيز- أن أعرِّفك برجال “القلوب الضارعة”، مَنْ هم؟ وما أحوالهم وشمائلهم وأوصافهم؟ فأقول وبالله التوفيق:
إنهم رجال ليل، ذوو لوعاتٍ وزفرات، وأنّاتٍ وعَبَرات، ودموع سافحات، وأشواقٍ حارقات، وآلامٍ صارخات، وأحزانٍ كاويات، وألسنةٍ ضارعات، وأَكُفٍّ مرفوعات، للرحماتِ مُستنـزلات، وللألطاف الإلهية راجيات.
بأنفاسهم يتعطَّر الليل، وبوجودهم تحت جناحيه يأنس ويطرب، وبركعاتهم بين جنبيه إلى ربّه يتقرَّب.. جنان الخلد إليهم شَوَّاقات، وعيون الحور العين إليهم رانيات، ولهم منتظرات، أبصارهم نافذات، وبصائرهم كشَّافات لَمَّاحات، تلمح البعيد، وترى “ما وراء” الآفاق، وتستشرف مستقبل الأقدار ما يأتي به الليل والنهار.. إنهم أوتاد الأرض ورواسيها الشامخات، من دونهم تترنح الأرض ويصيبها الدوار ويعمّها الاضطراب.
إذا ما غابوا؛ غاب الأمان، ونصب الخوف راياته في كل مكان، وعلى الأرض تُصَبُّ البلاءات صبًّا، إنْ لم يأتوا الكعبة أتتهم، وفي صلواتهم وافتهم، وأمامهم انتصبت، وقُدَّامهم وقفت، تزيدهم أشواقًا، وخشوعًا وإخباتًا.. بهم تندى الأسحار، وبدموع أرواحهم تتساقى الأرض كؤوس الوجد والاشتياق.. إذا ما استمعنا إليهم شعرنا بأن عالمًا جديدًا يُخلَق فجأةً في أرواحنا، فهم يودعون في أرواحنا من الأسرار ما لا نجسر على الإسرار بها حتى لأنفسنا، نتشرب دموعهم قبل أن تجفَّ عن أجفانهم.

إنهم رجال ليل، ذوو لوعاتٍ وزفرات، وأنّاتٍ وعَبَرات، ودموع سافحات، وأشواقٍ حارقات، وآلامٍ صارخات، وأحزانٍ كاويات، وألسنةٍ ضارعات، وأَكُفٍّ مرفوعات، للرحماتِ مُستنـزلات، وللألطاف الإلهية راجيات.

إن أوتار حياتنا تظل ساكنة إلا إذا حركتها كلماتهم، ولامستها أنامل أذهانهم، إننا إذْ ننحني أمام سمُوِّ أرواحهم وعلوّ أفكارهم؛ ينحني معنا الذكاء البشري المتواثب إلى الأعالي، والتوّاق إلى استرداد الروح من أعاليها الماورائيات، وسماواتها الصافيات، وآفاقها النقيّات.
إذا قلوبَنَا أعطيناهم؛ استودعوها أرواحهم، وملَّكوها بصائرهم، لنرى برؤاهم، ونبصر ببصائرهم، وننهل من معين معارفهم ومن ينابيع علومهم.
إنهم إذا لحظوك غيّروك، وبالآخرة ذكَّروك، وإنْ كنتَ في هبوط انتشلوك، أو كان قلبك بغير الله مشغولاً أفرغوه ثم بذكره أترعوه.. عقولهم بأجنحة الروح تجوب الزمان، وتستقرئ الأكوان، وتحمل الإنسان بعيدًا في الزمان؛ لتلقيه في غوالب لُجّهِ، وغوامر موجه، ثم لتذيقه بعد ذلك من شراب الخلود، وتسقيه من كأس السرمدية رشفات.
وإن كانت عيناك بضباب الأرضيات محجبتين أزاحوا ضبابهما، وحَدُّوا نظراتهما، فبصرتَ واستبصرتَ، ورأيتَ الملْك والملَكوت قائمين بقوامة الله وقدرته.
إذا نطقوا انثال نطقهم فكرًا جليلاً، وحكمةً مُصَفَّاة، يفسرون لك لُغْزَ الكون، ويعلّمون طريقك في الدنيا والآخرة.. الأنوار في أرواحهم ينابيع دَفَّاقة، تغسل الإنسان من الأدران، وتطهّره من الأرجاس، إنْ بَرُدَ وجْدَانُك أَوقدوه، وإنْ أظلم أناروه، ماء الجمال والبهاء يتقطّر من أردانهم ويفيض من وجوههم.. باعث حزن وشجن في أصواتهم إذا تكلّموا، تسابيحهم في الليالي وَجْدٌ وأشواق، وصلواتهم ضراعات باكيات، يخافون أن يكونوا من أهل الغِرَّة بالله ويشفقون أن تُرَدَّ عليهم أعمالهم، ولا تقبل تضرعاتهم، حشاهم في نيران الوجد مذاب، وأفئدتهم مسيل دفَّاق، تشرب منه الأكباد الحرَّى، والأرواح العطشى، إنهم قوى مشعّة تنفذ في الإنسان فتحرك سواكنه وتحيي مواته.
إنهم الغيث المغيث لمجدبات الأرواح، وقاحلات العقول، وعيون غيوثهم لا تنضب أبدًا، وعطاؤهم لا يتوقف عند حد.. صلاتهم فناء بالله وبقاء به، فهم بين فناء وبقاء في غدو ورواح، على منابع أرواحهم يرِد العطاش ومنها ينهلون، ووقدات نيران عشقهم جذوات لبُرَداء النفوس وشواتي الأرواح، يضربون في فيافي الإنسان، وفي قفاره يتسمعون إلى أسى ترانيمه المنبعثة من ضنى القلب ووجع الروح، فتمتدّ أيديهم لتمسح القلوب، وتُطبَّ الجروح.. إنهم للأرض ربيع دائم، وللإنسان غمام هاطل، وإنهم في المكان الأعلى من سلّم البشرية، يكفِّرون بأحوالهم عن خطايا جنس الإنسان، وإنْ كنا عاجزين عن بلوغ قممهم فلا أقلَّ من أن نحبهم وندين لهم بالولاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وأديب عراقي.