رائد الصحوة العلمية في شبه القارة الهندية

تاريخ تحرير الهند مفعم برجالات استماتوا في تحقيق آمال ملايين البشر، الذين وقفوا في وجه الظلم والعدوان بمنهجية اللاعنف والسلام، وأسسوا في قلب آسيا دولة قوية تعيش في أحضان القيم والمبادئ، وفي كل من كلكاتا، ودهلي، ومومباي، ومليبار، وتشناي صفق لهم التاريخ ورافق معهم ليلتقط الأحداث الحصرية ويرسم في جدران الأيام بطولة شعب تفانوا في استعادة الحرية والسلام، فمن تلك الشخصيات البارزة مولانا أبو الكلام آزاد، الرجل الذي جمع ألوانا من الشخصيات، شخصية القائد والمجاهد، شخصية العالم والمجدد، شخصية المفسر والمفكر، شخصية السياسي والثقافي، ويصعب على مطالع التاريخ أن يحيط بهذه الهالة التي مثل في آن واحد بطولات مختلفة الألوان،فتاريخ الهند لا يكتمل إلا إذا نقش في لوحته أسماء أعلام أسهموا في ترقية الوطن تثقيفًا وتعليمًا، فمن تلك الرجالات الأبطال أول وزير شؤون التربية الهندية مولانا أبو الكلام آزاد الذي لقبه الشعب الهندي بأستاذ الهند حبًا واحترامًا، وإنما سمي أبو الكلام لقوة بيانه وتأثير كلامه في السامعين.

حياته ونشأته

ولد مولانا أبو الكلام آزاد في مكة المكرمة عام 1888م، وشب في بيت تغشاه الكرامة وحب الوطن، ويتفحفح بأريحية الدين والوعي والأخلاق، وشكلت هذه العوامل الاجتماعية بطلاً قائدًا يقف له التاريخ بعد إجلال واحترام، حفظ القرآن الكريم، وتعمق في اللغتين العربية والفارسية، وأتقن الإنجليزية، وعكف على دراسة كتب الفلسفة والتاريخ والفقه الإسلامي والآداب الحديثة، وتسلح بلغة أردو لتنطلق منها مؤلفات تدافع عن الإسلام وتفند دعايات المبطلين والمنحرفين، وسافر عدة أسفار ملهمة عبر الشرق الأوسط التابع للخلافة العثمانية آنذاك بما فيها مصر حيث زار الأزهر واتصل بقادة الفكر الإسلامي آنذاك، وقامت هذه الرحلات بعطاءات فكرية بناءة في تشكيل شخصية إسلامية مديد البصر، صلب المواقف، وثبت الخطى لنراه بعد متحديًّا دعايات رابطة المسلمين التي نادت إلى تشكيل دولة مستقلة من الهند تحت ستار اللغة والدين، فكان من أبرز الزعماء المسلمين المقاومين لأحلام رابطة المسلمين التي أصرت على تشكيل دولة مستقلة منشقة من شبه القارة الهندية، ووقفت مع حسرت موهاني وخان عبد الغفار خان، وعبد القيوم خان الذين قلقوا من انشطار شوكة المسلمين وضياع هويتهم الهندية الشامخة، ونادوا إلى استقرار المسلمين في الهند وبقائهم في ديارها رغم الفتن المحاصرة والمؤامرات الطويلة، حتى يلم جنوب الهند بشمالها قوة وعزة، لكن وهيت تلك النداءات وهوت تلك الخطة إذ كانت الفترة تمر بعقبات كؤودة، وكان التيار يتجه عكس الخطة الآزادية، وكان الجو مفتعلاً بضجات خطرة، حتى أنجبت الهند أخيرًا من رحمها باكستان ومن بعدها أنجبت باكستان بنجلاديش، وألقت هذه الأحداث التي نشأت في خضم الصراعات الدموية  الشعب الهندي برمته على مشارف التبعات الدموية، والاشتباكات البئيسة التي راح ضحيتها ملايين النسم، وشهد التاريخ آنذاك لأكبر موجة نزوح فيما بين حدود الدولتين.

في منبر وزارة التعليم الهندية

في الوقت التي يتطلب الشعب الهندي المستقل وزيرًا قويًا بصيرًا تولى هذا المفسر المفكر وزارة التربية الهندية لتشهد الهند في عهده لسلسلة من العمليات النهضوية التي استهدفت الأمية وحركت عجلة العلوم العصرية حتى في القرى النائية من العاصمة الهندية دهلي، وجرب بعدة تجربات ناجحة في السلك التربوي الهندي رغم أن المشهد السياسي كان يضطرم بصراعات وأزمات عدة، من أهمها الفقر الذي كان هو العدو الأكبر للهند المستقلة إلا أنه لم يخضع للضغوطات الهائلة،  وانطلق يطوف القرى والأرياف يقوم بتوعيتهم بأهمية العلم والمعرفة، ويثير فيهم روح العزم والإصرار، ويذكرهم بأن مقاومة الجهل والأمية هي الأفضل والأولى من مقاومة الاحتلال، وعلمهم بأن احتلال الدول والأمصار أبسط من احتلال العقول والأفكار، وفعلا حركت محاولاته الحثيثة ساكن الآلاف، فاستجابوا لتلك النداءات الآزادية التي نبعت من الإخلاص والصفاء، ويعود إليه الفضل في تأسيس هيئة المنح الجامعية “university grants commission”  التي توفر المنح الدراسية للباحثين والأكاديميين وتشجعهم بحوافز أخرى جذابة، ودور هيئة المنح الجامعية في تفعيل ههم الشباب الراكدة وفي نهضتهم لكبير جدا، وحصلت الأقليات المهمشة وفي مقدمتها الأقلية المسلمة على نصيب كبير من هذه المنح لتكون الباعث الحقيقي وراء النهضة العلمية التي يشهدها الشباب المسلمون هنا في الهند، والفضل الآخر الذي يتلألأ في إكليل هذا الرجل الموسوعي هو هيئة الدراسة الثانوية التي استهدف من خلالها محو الأمية من القرى والأرياف، وكان رحمه الله عاشف الفنون الكلاسيكية الهندية، فأسس من أجل ترقيتها مؤسسة فنية باسم مجمع الموسيقي والمسرحيات، فسدت هذه الحملة كثيرا من الثغرات التي أصابت مجال الفن الهندي الذي أوشك على الانهيار في وطأة الفقر التي كسرت العمود الفقري الهندي، وفي مجال التقنية الهندية يلوح اسمه في الآفاق وذلك بتأسيس مؤسسة الهند للتقنية “Indian institute of technology” التي تعد الحجر اللأساسي لتطور التقنية الهندية التي مما سجلت في الأيام الأخيرة أرقاما قياسية على مستوى العالم، وتقديرا لخماته الجليلة في مجال التربية والثقافة أسست في الدول العربية والعالمية مراكز ثقافية باسم الفقيد التي تعمل في تعزيز الثقافات والعلاقات الثنائية بين الدول، وتشرف على عدة برامج ثقافية التي تترجم عن تاريخ الهند المحبوك من الحب والسلام واللاعنف وعدم الاستسسلام للأعمال العدوانية، وتطل تلك المراكز الثقافية من النوافذ التاريخية إلى حياة شخصية عجيبة تماهت في روحه المعنويات الدينية والمبادئ الوطنية.

وعطفًا على كل تلك الخدمات النهضوية امتد الفقيد إلى مجالات أخرى التي تتلمس شغاف الهند، وعاش مع مؤسس الهند الحديثة جوهر لال نهرو كمرابط على ثغور العلمانية والتعايش، فمن هاتين البطلين قامت في الهند أمم تتحدى التطرف والإرهاب مهما تنوعت أشكاله واختلفت عناوينه، وأذاعت للعالم أجمع بأنه” لا دين للإرهاب نعرفه به ، لو دأبه التكبير والتأويل”، ولم تقتصر خدماته على التربية والفنون بل وقف مع كل المنظمات الإنسانية التي تتبنى فكرة العدالة والتنمية، لدرجة أنه عاش في قلوب الملايين قريبا من نداءاتهم فانتخب إلى البرلمان مرتين وذلك في عام 1952 م و1957 م، وفي فترة برلمانيته سجلت الهند تطورا مذهلا في صعيدي الاقتصاد والتربية لتعيش الهند بعده في ظلاله الوارفة التي استطالت من دوحة إلى أخرى، وحصل البطل على جوائز قيمة تقديرا لجهوده المضنية التي بذلها من أجل تشكيل دولة حديثة تواكب مع تيارات الزمن المضطربة، فمن أهمها جائزة “بهارت رتنا” التي منحت له بعد وفاته في عام 1992م، فلو اختصرنا حياة أبي الكلام آزاد نضطر إلى اقتباس عبارة أبو الهندي الروحي مهاتما غاندي سفير اللاعنف والكفاع السلامي إذ عبر عن الفقيد إنه إمراطورية التعليم، بقية أرسطو وأفلاطون، موسوعة الأفكار والمعارف التي تبدد سحب الهند الداكنة“.

مؤلفاته

1- ترجمان القرآن الذي قام فيها بترجمة معاني القرآن إلى اللغة الأردية، واشتمل تفسيره هذا على الخرائط والصور الأثرية والمثالية لتوضيح المراد، وإن لم يكمل عمل التفسير لكنه قام بعدة درسات بحثية واستقصائية في علوم القرآن،

2- شهيد كربلاء، الذي يحلل فيه الأحداث المؤلمة التي حدثت في كربلاء، إلى جانب أنه يوضح بأن الإمام حسين لم يك قط طماحا سياسيا وما كان يرغب في الولاية، وكان يريد العودة إلى المدينة بعد تهدئة الأوضاع وطمأنة المسلمين لولا تقلب الأوضاع حتى استشهد في كربلاء تجسيدا لكل المبادئ الإسلامية النبيلة

3- غبار خاطر، يعد  من أبرز الأعمال الأدبية قام بها الفقيد، وهو عبارة عن مذكراته أيام تقيده في قلعة أحمد نغار بمهاراشتري من الاحتلال البريطاني، وهو مجموعة 24 رسالة تخاطب من خلالها صديقه الحميم مولانا حبيب الرحمن الشيرواني، ونشرت مؤخرا بعد إفراجه من القيد عام 1946م.

4- الهند تظفر بالاستقلال، هذا كتاب يعد من المرجعيات الأولى لتاريخ الهند، وهو انعكاس شامل للأفكار التي تبناها أبو الكلام آزاد نحو القضايا السياسية البارزة، وفي رأسها قضية دولة باكستان التي لم تتفق ولم تخضع فترة حياته مع تأسيس دولة على أسس دينية أو لغوية، وكان الفقيد خط الدفاع الأول عن الهند المتحدة التي تعتز بالوحدة في التنوع.

فمن الشخصيات التي أثرت في منهجه الفكري سر سيد أحمد خان مؤسس فكرة جامعة عليجرة، وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، وكان أبرز ما تأثر به الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال رغم الخلافات الفكرية في قضية تأسيس دولة باكستان

وترك فضيلته بحوثا عدة من أهمها مبادئ الفلسفة ومسألة الخلافة والحرية في الإسلام والتي تدل على عمق نظره في القضايا المختلفة، ورحل عن عالمنا عام 1957م بعد حياة جمعت ألوان الخير ولملمت شتات الهند، فعاش وطنيا ودينيا بكل ما يحمل معنى الكلمة.