ذكاء الحيوان

تستثمر الحيوانات والطيور مفردات البيئة للوصول إلي ما تريد. وتستعين ثدييات بوسائل متاحة (سلم/ كراسي/ عصي/صناديق متناثرة) لجلب غذاء أو إبعاد مصدر عناء، أو نيل نفع، أو دفع ضر. بينما تكسر صغار القردة ثمار جوز الهند بطرقها بحجر كبير كي تشرب عصارتها وتأكل لبها. ويُحضر “ثعلب الماء” حصي الأعماق لكسر قواقع الرخويات الشهية. وفي عنان السماء.. ترتفع سباع الطير عاليًا في الهواء لتـُلقي/ تكسر بيضاً ذو قشرة صلدة. وعلي اليابسة.. تقطع الفيلة أفرع الأشجار، وتهزها لطرد الذباب عن أجسادها. بينما تُدخلها ـ مُبللةـ قرود الشمبانزي لجحور النمل، لتهيجها فتلتصق بها، أو تخرج، لتلعقها.

وتتجنب القردة الأقل مرتبة تناول الطعام المخبّأ أمام الأعلي رتبة، وإلا سيتم إنتزاعه منها. وتتميز الشمبانزي بالقدرة علي التقليد. وعند قيام أحدها بسلوك (مرغوب)، يتفشي تقليده (وربما استمراره) من الآخرين. كما يتعرفون علي الأشياء (المجردة) في صور فوتوغرافية. وتتذكر ما تعلمته لبضع سنين. وبينما تعرف وتتوقع الأغنام والماعز قدوم راعيها لإطعامها.

وتميز الكلاب زوار المزرعة/ البيت المألوفين. ونشرت مجلة “العمليات السلوكية” بحثاً على 12 كلباً استخدم فيه الرائحة لمعرفة “كيف يتفاعل الكلب عاطفياً؟” عُرضت علي الكلاب (موضع الدراسة) رائحة كلب وشخص مألوفين. بالإضافة لرائحة كلب وشخص غير مألوفين. فأظهرت آلة مسح ضوئي موصولة بأدمغة الكلاب أنها أكثر تفاعلاً مع رائحة الشخص المألوف عن رائحة الكلب المألوف. وخلُص البحث للقول: “إن الكلاب تتذكر/ تتعلق البشر المألوفين أكثر من أقرانهم المألوفين”.

ويظهر سلوك “المواساة” جليًّا عند الكلاب، والغربان، والقردة. واكتُشف قيام الفيلة الآسيوية به أيضاً. فلأكثر من عام، درس باحثون هذا السلوك عند ست وعشرين فيلاً . ومما شوهد قيام إحدى الإناث بـ”مواساة” أحد الذكور جسدياً، وصوتياً عندما “توتر” لرؤية ثعبان. وأشار الباحثون في جامعة “شيكاغو” إلي أن فئران التجارب عملت بشكل متكرر على تحرير أقرانها من صناديق صغيرة بدون أي محفز (تعاطفاً فقط).

كما تعلمت طيور “البرقش” إظهار “السلوك المناسب في الوقت المناسب”. ففي حالة مرض أحدها يحاول إظهار نفسه قوياً عندما يصادف أنثاه المحتملة. ويمارس نفس السلوك أمام عدوه، وأفراخه. بينما في احدى التجارب البحثية، ترك متطوعون (مغمضو الأعين) أطباقاً مملوءة بالطعام أمامهم. فقامت حيوانات الليمور بسرقة الطعام من الصحون. ولم تفعل ذات الأمر مع وجود أشخاص عاديين. فتبين “معرفتها” أن ربط الأعين ستمنع البشر من رؤيتها وهي تقتنص الطعام. بينما نجد الأفاعي وهي تراقب حالة فريستها حتّى النهاية. وتتابع مدى دقة/ مدة عصرها لفريستها اعتمادًا على دقّات قلب الفريسة، ومدى ضعفها. ومن التجارب الشهيرة: تجربة العالم الروسي “بافلوف”، أو “نظرية الإشراط/ الفعل المنعكس الشرطي”، وقد اكتشف أن كلابه يسيل لعابها بمجرد سماعها لصوت أقدامه / أو صوت جرس (وقبل رؤية الطعام).

لعب ومهارات

تقضي صغار الثدييات شهورًا تتعلم ما تحتاجه عند بلوغها. كما أن معظم صغار الحيوانات/ الطير تقضي وقتاً طويلا في اللعب والتدرب. ويحتفظ ثعلب الماء، وخنزير البحر طوال حياتهما بهذا الميل للعب. أما القطط والفئران فيظهران فضولاً كبيراً في التعرف/ استكشاف مكان جديد أو ما يستجد في بيئتهما. وعندما تجد صغار القندس ثغرة في سد من السدود التي صنعتها، فتحاول جاهدة إصلاحها. وعند فشلها تسارع بإحضار كبارها الذين يحضرون جذوع أشجار وأحجار، وتنجح المهمة. بينما تهرول الصغار في إحكام السد بملاط من الطين. لذا اعتبر القندس “أروع مهندس في المملكة الحيوانية”.

وفي دراسة بجامعة كولومبيا البريطانية تبين أنّ الكلاب العادية تعلّم وفهم 165 كلمةٍ تقريبًا. أمّا الكلاب الخارقة فيمكنها تعلم 250 كلمة وإشارة. ولسلالة الكلب تأثيرٌ كبير على ذكائه. وتبؤت سلالة “كوليه Collies” أعلى نسبة ذكاءٍ في الدّراسة. وفي عام 2006.. تصدّر Koshik أحد الفيلة الهندية المولود ـ عام 1990ـ في حديقة حيوانٍ في كوريا الجنوبية عناوين الأخبار. فهو يقلد/ يفهم معني كلماتٍ كوريّةٍ مثل (نعم)، و(لا)، و(اجلس)، و(تمدّد)، وكلماتٍ أُخرى. ولا ننسى أن في بعض منازلنا لا يزال “الببغاء الزنجبارى” “مَـلك التقليد” لما يتم تلقينه من مفردات لغتنا البشرية. وعلى قدر حيازته منها وإجادته لها يرتفع سعره صعوداً وهبوطاَ.

وليست طيور الزينة، فقط، التي تشدو بغناء شجي، طلباً للتزاوج، وتنشيطاً لجهازها التناسلي. لكن ذكور الفئران (المنزلية) تغني أيضاً حين تشم رائحة الإناث. وتُصدر ألحاناً غزلية (بترددات فوق صوتية) لتجذبها. ولكل فأر “بصمته الغنائية” الخاصة.

وتستفيد الحيوانات من مهاراتها الطبيعية في مواقف جديدة. فيلعب الدلوفين بالبالونة. وله  قدرة كبيرة  على إصدار أصواتٍ ذات معانٍ مختلفةٍ تمّ تعليمه إيّاها مسبقًا. ويصعد الدب فوق دراجة، وتتخلص الذئاب والقنادس من فخاخ بالغة التعقيد. إمكانات تدريبية منوعة تـُذهل المهتمين بالسيرك، ومشاهديه.

حذر وبراعة

في قطعان الحيوانات.. يتولي الحراسة بعض أفرادها. فتطلق أصواتاً تحذيرية إذا رأت حيواناً مفترساً. بينما تصنع الأبقار من نفسها دائرة تضع فيها صغارها إذا هاجمتها الأسود. وتتردد قطعان الحيوانات في دخول مكان ضيق لم تعتده. وفي القطيع الواحد يتباين خوف أفراده وفق تجاربه السابقة. وصغار الحيوانات لا تحتاط مثل كبارها. أما صرخات الخُلد الذي يقطن كاليفورنيا فتتفاوت حدتها تبعاً لنوع الخطر المُحدق. ويمارس كثير من الحيوان والطير “طقوساً” مختلفة للتنويه بحالات الإستسلام والخضوع, وبالتالي تتجنب أو تنهي معارك / مواجهات عند حدود معينة، وبأقل خسائر مُمكنة.

لكن وجد الباحثون بجامعة “ويك فورست” أن أسراب طيور “البوبي”، تضرب صغار المجموعات المجاورة التي تتحول بدورها عندما تكبر إلى طيور مسيئة وعنيفة للمجموعات الأخرى. وللغربان، والجرذان “ذاكرة قصيرة الأمد”. فتبين من إختبار جرذان أنها تستجيب للمعلومات بواسطة إهتزازات شاربها. وظهر كيفية استجابتها لمحفزات معينة.  وأظهر الغربان قدرة على حلّ لغز يعتمد على أنابيب بعضها مملوءٌ بالماء والآخر بالحصى. ويجب عليه وضع بعض الحصى في الأنابيب المملوءة بالماء ليحصل على الطّعام. فتمكّن من اختيار الحصى ووضعها في الأنابيب المملوءة بالماء بدلًا من الأنابيب المملوءة بالرّمال، كما أنّه اجتاز العديد من التّحديات الأخرى. ومعلوم أن غراب “الغداف” يدفن تموينه صيفاً، ويخرجه شتاءأ.

ولدي “الببغاء ذو العُرف” قدرة على فتح الأقفال. وفي دراسةٌ نشرتها جامعة “فيينا” أنّ ببغاء من هذا النوع كي يحصل على حبّة مكسراتٍ تمكن من فتح قفل عبر إزاله دبّوسٍ ثمّ برغيٍّ (مسمار حلزوني) ثمّ مسمارٍ آخر صغيرٍ ثمّ إدارة عجلةٍ 90 درجةً ثمّ تحريك مزلاج القفل الرئيسي جانبًا. مهمّةٌ فعلها دون مساعدةٍ خلال ساعتين. لكن القطط (التي سُمح لها بالخروج من المنزل) تتعلم فتح الأبواب والنوافذ. واستكشاف طرقاً أخري للخروج والدخول. كما قد تتعلم فتح الدواليب للحصول علي طعامها.

وتصنع أحدي أنواع العناكب المائية لنفسها عشاً كمنطاد (بالون) من خيوط العنكبوت. وتعلقه بشيء ما تحت الماء، ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر تحت جسمها، وتحملها إلى الماء ثم تطلقها تحت العش. ثم تكرر العملية حتى ينتفخ، وعندئذ تلد صغارها، آمنة عليها. وتعيش ذبابة الفاكهة نحو 60 يوماً. تم تدريبها على تجنب (تركيز) رائحة معينة. وعند وضعها داخل حاوية تحتوي على تركيزين مختلفين لهذه الرائحة، ابتعدت (فوراً) عن الجانب ذو التركيز المحظور. وعندما اختلطت الروائح، استغرقت (وقتاً أطول) قبل إتخاذ القرار لأي جانب ستتجه.

تواصل وهجرة بلا خرائط

تتواصل الحشرات فائقة التنظيم كالنمل والنحل عبر قرون استشعارها، وبحركات وإشارات راقصة. كما للنمل غدد موزعة على جسمها تفرز روائح كيمائية. ولكل رائحة طيارة تجويفها الخاص، ومعناها: جاذبة للجنس أم تحديداً لإتجاه الغذاء/ العش أم لـلإنذار والدفاع. فهذا نمل النار (Fire ants) يمتلك غدة متصلة بإبرة اللدغ في مؤخرته. وعندما تلمس الأرض في صورة متقطعة تضع خطوطاً مرورية يتم تتبعها إلى حيث الهدف. وهذه الرسائل تبقى لدقائق، كي لا تؤدي لتشويش/ إختناق مروري.

ويفرز النمل الأبيض مفردات كيمائية تمنع التحول / الترقي إلى “صور إجتماعية” أعلي. وذلك حفاظاً على “التوازن الاجتماعي، والتراتبية الهرمية”. بينما ترسل ملكة النحل أوامر كيمائية لتنظيم التكاثر “طيران العرس” مما يساعد علي سيطرتها علي الخلية. حيث الحجرات المحددة الأحجام للشغالات، والأكبر منها لليعاسيب (ذكر النحل)، وغرفة خاصة للملكات الحوامل. وتضع النحلة (الملكة) بيضاً غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضاً مخصباً في حجرات العاملات، والملكات المنتظرات. وثمة غذاء مناسب لكل صنف من أصناف خلية النحل. وللتواصل فيما بينها أو لجذب الإناث.. تقوم بعض الحيوانات البحرية التي تعيش في أعماق المحيط  بتوليد أضواء بألوان مختلفة (إضاءة حيوية ذاتية).

حتي بعد أعوام، وبلا خرائط.. تتذكر الطيور، والأسماك، والحيوانات المهاجرة طريق هجرتها، ونفس أماكن أعشاشها، وأوكارها. والمسافات الطويلة التي سلكتها ـ ليلا، ونهاراًـ للتزواج أو لطلب الغذاء.  ومن ثم يعود كلٌ إلي موطنه الأصلي، كما تعود الأجيال الجديدة ـ بعد خروجهاـ إلي مواطن أبائها، دون خطأ أو ضلال. وإذا ترك الحصان (العجوز) وحده، فإنه يلزم الطرق مهما اشتدت ظلمة الليل. وهو يرى ولو في غير وضوح، ويلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تتأثر قليلاً بالأشعة تحت الحمراء. وتستطيع البومة تحديد موضع الفأر الدافئ الجاري على العشب البارد مهما كانت ظلمة الليل. بينما تنتقل الأوزة القطبية (من عادتها التثبت فوق الصخور) لأمتار ثم تعود لنفس النقطة التي بدأت منها. والنحلة تجد خليتها مهما طَمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار.

وثمة “هجرة” من نوع آخر. فقد تم تفكيك وخلط خلايا الإسفنج الأبيض والأحمر، ثم لوحظت مجهرياً. فوُجد أن كل خلية قد تعرفت علي “هوية” أختها “وماركتها المسجلة”. و”هاجرت”، والتحمت معها لتكوين قطعة كاملة من الإسفنج. أما عند قطع دودة طمي قائمة بنشاط ما وبعد أن قامت القطعتان بإستعادة الأعضاء المبتورة كاملة، وتكوين دودة جديدة. قامتا كل منهما بنفس النشاط السابق قبل القطع.

“الذكاء” عند الحيوان خاصية تمكنه من حسن التكيف، والتاقلم مع بيئته. وله مؤشرات هامة منها: حُسن استعمال الأدوات المتاحة، والإستعداد للتعلم، وإدراك الأشكال، والإستدلال، التوجيه، واللغة ، واللعب، والفضول، والتذكر. وهذه العملية الأخيرة (أي التذكر، والذاكرة) جزء من الإدراك الحسي، وآلية لمعالجة التجارب الزمنية السابقة. وهي قدرة الحيوان على تذكر الوجوه، والأشكال، والمعلومات بعد مضي مدة من الزمن. ولعل كلا الأمرين (الذكاء والذاكرة) مرتبطان بما يتعلق بمعيشته، ونسق حياته. ويبقي أن هذه الكائنات الحية “مدفوعة” لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت والمكان الصواب، وبالطريقة/ التواصل/ النسق الصواب. وذلك في دلالة ـ ليس كما يذهب البعض بدافع ألي ميكانيكي ـ بل بسنن كونية، وهداية ربانية: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(سورة طه: 50).