مرحبًا عزيزي الإنسان.. أنا الفراشة. أشكرك الشكر الجزيل أن منحتني فرصة التحدث إليك وتقديم عجائب خلقي وبديع صنعي لك. فكما تمرّ أنت من مراحل وتقلبات أثناء خلقك ومجيئك إلى هذه الحياة، فأنا الفراشة أيضًا أمرّ بتقلبات تشبه تقلباتك هذه، ولكن في أبعاد مختلفة؛ إن الكائنات الدقيقة الطويلة ذوات الأرجل العديدة، والتي يظن معظمكم أنها حيوانات مختلفة وتسمونها “يرقة”، ما هي إلا أشكال لنا في محطة من المحطات التي نمر بها.

أعني أن كل المراحل الجنينية التي تمرّ بها -عزيزي الإنسان- في رَحِم أمك، أمرُّ بها أنا  أيضًا في البُويضة التي تضعها أمي. ولا ينتهي تحولي بعد أن أخرج من البيضة على شكل يرقة دقيقة طويلةٍ، بل أدخل من جديدٍ الشرنقةَ التي أنسُجها بنفسي، وكأني أدخل في نفق زمني من جديد. فأمكث في الشرنقة مدةً في حالةٍ تُشْبه النوم ولكنها ليست نومًا، بل أتحوّل في هذه المرحلة -بعملية غريبة وذات أسرار غامضة تسمى “التحوّل” (Metamorphosis)- إلى فراشة، حيث أختلف تمامًا عن شكلي السابق والذي كنت فيه يرقة.

وفي أيام الربيع حين يبدأ الجو بالدفء، ترى أنواعًا منّا متعددةَ الألوان والنقوش، تحلِّق في الهواء متدللة، وتتنقّل من مكان إلى آخر.. كل منّا يطير ويَحطّ من زهرة إلى أخرى بأجنحتها المصبوغة بشتى أنواع الزخارف والألوان والتي رسمتْها فرشاةُ رسام بارع.

نعم، إنه لا بد من أن هناك مهندسًا ذا قدرة لانهائية رَسَم شكل أجنحتي الأربعة وفق حسابات الديناميكا الهوائية، وغطاها بريش ملونة مجهرية الحجم، ونسَّق بينها أكمل تنسيق.

فبالطبع ليس هناك من يستطيع أن يفعل مثل هذا إلا ربي الذي خلق الكائنات بقدرته اللامتناهية.

وبفضل ما على أجنحتي من التصاميم البارعة والألوان الزاهية، أصبحتُ حيوانًا ذا قيمة عالية يجمع الهُواة أصنافَها، ويشكّلون منها مجموعات على غرار الطوابع. فكما تلاحظ، قد يصبح الجمال أيضًا وَبالاً على صاحبه، فلو كنت قبيحة الشكل لمَا جمع الهواةُ مني أشكالاً كما يجمعون الطوابع! والأغرب من ذلك، هو أنه توجد لي بورصة على مستوى العالم، تباع وتُشترى الأنماط الغريبة النادرة مني مقابلَ مبالغ مالية  كبيرة مثل المجوهرات الثمينة. وهذا الوضع أدى إلى ازدياد أعدادِ مَن يبيعوننا، مما سبَّب في تناقص أعداد جيل بعض أنواعنا.

مئات الألوف من الأصناف

إننا مجموعة من الحشرات التي تزيد أصنافها على مئة ألف، ولذلك لم يتم تسجيل كل أنواعنا إلى الآن، ولربما يوجد في أعماق غابات الأمازون بعض الأصناف لم تُكتشَف بعدُ.

وحتى تستمرَّ أجيالنا، تَبِيض الإناث من مختلف أنواعنا بنِسَب مختلفة؛ ففي حين تبيض الأنثى من الصنف الذي له أعداء كُثُر حوالي ألف بيضة، تبيض الأقل أعداءً -أو التي ظروفُ حمايتها أحسنُ- حوالي خمسين بيضة. ولا يمكن تدبير مثل هذه الأمور، إلا بعلمِ وقدرةِ ربنا الذي هو أعلم بأوضاعنا جميعًا. فلا يتكاثر أيُّ نوع منّا بطريقة عشوائية ولا يستولي على البيئة.

ومما يسهّل عملية التكاثر والتقاء الذكر بالأنثى، أنه يوجد لكل صنف منا لون خاص وتصميم خاص ورائحة تميزه عن الأصناف الأخرى، وهذا يمنع التباس الذكر والأنثى من بين الأصناف المختلفة.

لا إسراف في الطبيعة على الإطلاق، ولذلك نلاحظ أن أول غذاء للدودة (اليرقة) هو قشرةُ البيض الذي تخرج هي منها، فلها قيمة غذائية عالية، بل إن هناك من اليرقات ما إذا لم تأكل من هذه القشرة، لن تستطيع مواصلة نموها في المراحل المقبلة. فالقشرة مهما بدت وكأنها صغيرة تافهة جامدة، لكنها تحتوي على عناصر خاصة ذات أهمية بالنسبة للنمو إلى هذا الحد.

ويرقاتي التي تخرج من البيض، ليس لديها أيَّة معلومات عن هذا العالَم، لكنها بسَوْقٍ وتوجيهٍ إلهيّ، تَعرف أوراق النبات التي تكون لها غذاء فتبدأ بتناولها، علمًا بأني أضع بيضي قريبًا من مصادر الغذاء حتى لا تتعب يرقاتي كثيرًا.

شفاه يرقاتي من الأعضاء التي لها حاسةُ لمسٍ شديدة؛ فبمجرد ملامستها لأية مادة، تُدرِك هل هي سامة ومضرة أو مفيدة. فإذا أكلت السامةَ، فإنها لا تتضرر بسمومها، بل تجمعها في جسمها بحيث تضفي هذه السمومُ عليها طعمًا يجعل من المستحيل لأي حيوان آخر أن يصيدها أو يأكلها. أفليس من البديع أن تتصرف اليرقة التي ليس لديها خبرة بالكيمياء الحيوية، وكأنها خبيرة كيمياء.

ومن جانب آخر أُعطي ليرقاتِ كثيرٍ من أنواعنا، لباسُ تمويه يُناسِب البيئاتِ والظروفَ المحيطة بها. فكيف تسطيع اليرقة العاجزة الضعيفة التي ليس لها عقل ولا علم ولا قدرة، أن تفصّل لأنفسها لباسًا تُناسب المكان الذي تعيش فيه، من حيث اللون والنقش، وكأنها التقطت له صورة مسبقة؟! وكيف تنهض بهذه المهمة؟! هل فكرتم في ذلك؟

وحينما تنسج يرقتي حولها شرنقة وتنزوي فيها لتدخل مرحلة التحول، لا تدرك أنها سترجع إلى الدنيا وهي على غير حالتها السابقة، وهذا يُشْبِه حال الجنين الذي لا يتذكر المراحل التي مر بها وهو في بطن أمه. فتبدأ يرقاتي بالتحول شيئًا فشيئًا أثناء عزلتها في الشرنقة في حالة تشْبه النوم -ولكن ليس نومًا بتاتًا- وفي نهايةِ مرحلةٍ خارقة تُبهِر كل أحد، تتحول الدودة -التي كانت تدبُّ على الأوراق- إلى فراشة تحلق في الهواء. فلا يمكن تفسير مثل هذه الظاهرة بالتطور، ولا بالطفرة الإحيائية، ولا بالمصادفة.. فتحوُّل اليرقة بعد مرورها بمراحل معينة إلى فراشة طائرة، واستمرارُ هذه العملية منذ آلاف السنين على مر الأجيال، يشير إلى صاحب القدرة اللامتناهية.

التمويه في مرحلة الخادرة

إنكم تسمونني في الفترة الانتقالية التي أمرّ بها -وأنا بلا حراك وفي حالة تشْبه النوم بالخادرة (Pupa)- وأنا في هذه الحالة، لا أستطيع الهروب، ولذلك يكتسب التمويهُ بالنسبة لي مزيدًا من الأهمية. وبالفعل، فربي الذي يعلم هذا، يمنحنا في هذه المرحلة قدرة مثالية على التمويه. وكما تلاحظ -عزيزي الإنسان- في بعض الصور أيضًا، فإني حينما أكون على الغصن أو الورق الجافَّين، يراني الرائي وكأني قطعة عود جاف، بحيث إن كثيرًا منكم إذا لم يمعن النظر -أو لم  تكن لديه معرفة مسبقة بي- فلن يتنبه إليّ ولن يراني.

وتكتمل عملية الميتامورفوز (التحوّل) قبل خروجي من مرحلة الخادرة بساعات، وهكذا يكون قد مضى على خروجي من البيضة حوالي ثلاثة أشهر، وأكون قد اكتسبتُ هوية جديدة تمامًا. وفي هذه المرحلة يُفرَز إلى منطقة رأسي وصدري مادةٌ سائلة، وبهذه المادة يتمزق الغطاء الموجود على جسمي من شتى مواضعه فأُخرِج أرجلي منها. وأول عمل أقوم به، هو أني أُفرز المواد العادمة المتراكمة في جسمي منذ زمن بعيد، ثم يُضَخّ الدم إلى أجنحتي التي لا زالت زابلة، فأنتظرُ مدة قليلة حتى تجف أجنحتي وتتصلب، وبعد 10-20  دقيقة أطير صَوْب الزهور في طلب رزقي.

ها أنا ذا فراشة

إن عينيَّ اللتين هما على شكل خلية العسل، خُلقتا بحيث تريان ألوان الزهور والفراشات الأخرى على أتم وجه وأكمله. وإلى جانب ملاءمة عيوننا للضوء، فإن بعض الفروق في أجسامنا والاختلافَ في شكل الجسم من نوع لآخر، أدى إلى انقسامنا إلى مجموعتين رئيستين: ليليّ، ونهاري؛ ولكي تعرف تلك الفروق بسهولة وتُميز بين النوعين، إليك بعض الخصائص المهمة الرئيسة:

إن ألوان أصنافنا النهارية حية وفاتحة وجميلة، والهوائيات التي على رؤوسها، على شكل رأس دبوس، وهي ترفع أجنحتها في أوقات الاستراحة. وأما الليلية فتتميز بأنها -في الغالب- ذات أجسام ضخمة ومنتفخة، وأجنحتُها أصغرُ مقارنةً بالنهارية، وألوانها باهتة وغير جذابة، كما أن رؤوس هوائياتها، على شكل فرشاة أو مهفةٍ، وأفرادها تطير بالليل وتقضي نهارها في أمكنة هادئة ومظلمة، وتُرخي أجنحتها بشكل أفقي أو تضمها بحيث تغطي أجسامها.

أكثر ما تعرفه -عزيزي الإنسان- من الفراشات الليلية المألوفة لك هي “دودة القز”؛ فالواحد من هذا الصنف ينتِج لكل شرنقة يصنعها حوالي 800 متر من الحرير. ومما يبهر مهندسي النسيج، هو البراعة التي تتمتع به هذه الخيوط التي تصنعها من مركَّب كيميائي خاص جدًّا.

وأما سائر أنواع الفراشات الليلية فأكثرها لا تضر الإنسان، بل تقوم بأعمال كبيرة ومفيدة في مجال تلقيح الزهور، وقليلٌ منها -والتي تسمونها “عثة”- قد تأكل من لباسك -أنت الإنسان- فتضرّك. كما أن من أنواعها المضرة ما تأكل النبات من أمثال الطماطم والذرة والقطن. وبطبيعة الحال، إن ما نسميه “ضررًا” إنما هو بحسب مقاييسك أنت يا إنسان. وأما إذا نظرت إلى الأمور من منظور التوازن الطبيعي، فليس لك أن تُعادي كل أنواع الفراشات لمجردِ أن عُثَّةً أكلتْ من لباسك، أو أن بعضًا آخر منها أكلتْ شيئًا آخر من محاصيلك الزراعية. ولو أنك -أيها الإنسان- لم تفسد البيئة وخلَّيت بينها وبين صيَّادِيها الطبيعيةِ، لم يكن بالإمكان أن يتكاثر أعدادها ويزيدَ على الحد الطبيعي، وبالتالي ما كان لها أن تضر بك ضررًا فادحًا.

إن العروق التي في أجنحتنا، هي بمثابة هياكل عظمية تؤدي إلى صلابة الجناح، كما أنها تؤمِّن لنا المناورة المثالية أثناء التحليق في الهواء. وبفضل انتشارها في سطح الجناح الواسع، يتم التحكم في تدفئة سوائل الجسم وتبريدها.

اسمنا العلمي (Lepidoptera)، أي “حرشفيات الأجنحة”. وأُطلقَ هذا الاسم علينا، لأن أجسامنا وأجنحتنا مغطاة بحراشف رقيقة وصغيرة جدًّا. وكل واحد من هذه الحراشف عملٌ فني رائع بلونه الخاص وترتيبه الفريد من نوعه، مما يجعلنا بهذا المظهر الخلاب ترجمانًا لألف اسم واسم من أسماء ربنا.

لا تكاد تخلو أرض منّا سوى المنطقة القطبية. وقد أُخذت التدابير اللازمة لمواصلة نسلنا؛ فبعض أنواعنا تحتمي من البرد بفضل ما توجد في دمائها من مادة الكحول وما يُشْبهها من المواد المقاوِمة للتجمد، فتنجو من الموت بسبب البرد، وتتخطى أيام الشتاء على الرغم من عدم تحركها. ونحن نتحكّم في حرارة أجسامنا عبر أجنحتنا، حيث نستقبل بها الشمس من زاوية معينة كأنها ألواح الطاقة الشمسية.

أعضاؤنا وأجهزتنا

إن أفواهنا -نحن الفراشات- من أهم أعضائنا الحياتية. فربُّنا صاحب العلم اللانهائي، قد منح كلَّ حيوان فَمًا يناسب ما يتناوله من الغذاء، وهو الذي جعلَنا نقوم بأعمال حكيمة وبدون أخطاء.

فمثلاً، إن جهازي الهضمي قد خُلق بحيث يَشرب الرحيقَ الموجود في النبات، ولذلك لا بد من أن يكون فمي مثل خرطوم رقيق وقابل للالتواء. وهو بالفعل أعطاني فمًا كهذا، وإلا لكان من الجور عليّ تركيبُ فم على غير هذا الشكل. في حين أنني حينما كنت يرقة عاجزة، كنت أحتاج إلى فم مختلف عن فمي هذا، لأنني كنت أحتاج إلى ما أقضم به الأوراق والفواكه. فشكرًا له تعالى آلاف المرات على أن منحني ذلك الفمَ في تلك الحالة.

ونحن معاشر الفراشات النهارية، نعتمد في معظم أنشطتنا على الضوء وعلى حاسة البصر، ولكن حاسة الشم فينا جيدة أيضًا. وأما إخواننا الليليّون، فما في هوائياتها من خلايا الإحساس، قويةٌ جدًّا، كما أنها تتمتع بحساسية بالغة في العثور على الرائحة وعلى مصدرها بشكل سريع وصائب.

ولا أريد أن أشوّش ذهنك -عزيزي الإنسان- بالخوض في تفاصيل الصناعات الدقيقة لأعضائي الأخرى. فالحراشف الدقيقة في أجنحتي، والشُعيراتُ الحساسة في أرجلي، وعضوُ التوازن المُودَع في جسمي، وأجهزتي الداخلية، كل منها ترجمان وتفسير لاسم من الأسماء الحسنى لخالقي.

فأنت تراني وأنا أحلّق في البراري والأرياف على رؤوس الأزهار بفضل أجهزتي التي كل منها عمل فني رائع، وتعمل من دون أي خلل. فإذا رأيتني نازلة بالقرب منك، فأمعِن فيَّ النظرَ، ولكن –أرجوك- من دون أن تُلحق بي الأذى أو تحاول التقاطي.

والحقيقةُ أنك -عزيزي الإنسان- إذا عوَّدت نفسك على النظر إلى الطبيعة من منظور الحكمة والعبرة أثناء تنزهك في الأرياف، فإنك ستبدأ بتلمُّس تصرفات ربي الجميلة، وستندهش في أمواج الحيرة والعشق والشوق.. غاية ما في الأمر، هي أن تتقن فن النظر إلى الأشياء.

عزيزي الإنسان! إنني أشكرك على حسن إصغائك لي. فرائحة رحيق الياسمين التي تَفتَّحت للتو في تلك الروضة جلبت شهيتي.. إذا سمحت لي، أودّ المغادرة إلى هنالك لأسدَّ جوعتي، ثم أشكرَ ربي الذي أرسَل لي تلك النعم، وجعلني أحس بها وأعثر عليها وأتناولها. اعتني بنفسك وصحتك جيدًا، أستودعك الله.