دائرة المعارف العثمانية مطابع حققت تراث الأمة

مدينة حيدر آباد (عاصمة ولاية آندرا برديش) التي تقع جنوب الهند تمتاز من بين الولايات الآخرى تاريخيًّا وثقافيًّا، وهي المعروفة بمدينة الجواهر والدرر لما كانت تجارة الجواهر والدرر رائجة في فترة من التاريخ، وهي مدينة القباب الشامخة، والآثار الإسلامية التي تعبر عن مجد وشموخ عاشته زمنا طويلاً، وهي مركز النظاميين العائلة المالكة التي تولت سيادة حيدرآباد لفترة طويلة إلى جانب ما تضمه من آثار علماء وأتقياء عاشوا في ترابها، وعاشقين للغة العربية الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الضاد تحقيقًا وتعليقًا، وطباعة ونشرًا، وفيها جامعات عريقة من أهمها الجامعة النظامية والجامعة العثمانية وعدة جامعات تهتم بالتقنية واللغات والعلوم الحديثة حتى تلقب بقطب التقنية الهندية.

لكن الفضل الأكبر لحيدرآباد يعود إلى مؤسسة علمية بنيت لتحقيق الكتب العربية وتوفيرها في العالم الإسلامي بأسلوب شيق جذاب، وهي جمعية دائرة المعارف الإسلامية التي أسسها سادس ملوك الدولة الآصفية (حيدر آباد) نظام محبوب علي خان ( 1866-1911)، وكان من القليل الذين اطلعوا على العلوم الغربية وحصل على نصيب وافر منها، وقد أسسها محبوب علي خان في زمن كانت المطابع نادرة في العالم العربي، وإنما تحققت هذه المؤسسة بتوجيهات من كوكب علماء العصر أمثال عماد الملك حسين البلغرامي وملا محمد عبد القيوم والعلامة أنوار الله خان الحيدرآبادي.

واستهدفت دائرة المعارف العثمانية التنقيب عن المخطوطات العربية النادرة والمؤلفات العربية والإسلامية التي لم تخرج إلى النور تحقيقًا وتعليقًا وطباعة في أوراق عالية الجودة وتوزيعها وتوفيرها في أرجاء العالم الإسلامي، والحفاظ على التراث الإسلامي الأصيل، وتنوعت خدمات الجمعية من طباعة الكتب ونشرها إلى كتابة الحواشي والهوامش وشرحها وتعليقها، واهتمت اهتمامًا بالغًا بالمخطوطات الدنيية التي انطوت في تلافيف النسيان.

وتلقت هذه الفكرة منذ خطوتها الأولى قبولاً واسعًا في أوساط العلماء، وأقبل الكثير داعمين لهذه الفكرة معنويًّا وماديًّا، منهم المفتي سعيد المدراسي، والعلامة شبلي النعماني صاحب السيرة النبوية، ونواب وقار الملك، ونواب محسن الملك، وانضم إليهم كبار المستشرقين من أبرزهم فريتش كرنكاوي الذي حقق “جمهرة الأمثال” ابن دريد، و”الدرر الكامنة من أعيان المئة الثامنة” لابن حجر العسقلاني.

ومن أبرز الشخصيات التي حصلت على العضوية في هذه الجمعية الشاعر الأردوي ألطفان حسين حالي، والمفكر سر سيد أحمد خان والمؤرخ شبلي النعماني، وفضل الحق الخيرابادي وشمس الحق العظيم آبادي وغيرهم من عباقرة العصر.

وطبعت من هنا أكثر من مائتي كتاب، ومعظمها مرجعيات كبرى لها مجلدات عدة، كما طبع من هنا مصحف من النوع النادر، وخصوصيته أن كل سطر من هذه النسخة يبدأ بالواو، وفيها أيضا كتاب (المقفى الكبير) للمقريزي، وتوجد نسخة فقط منه في باريس، هي الوحيدة الموجودة في العالم وقد أحضرت الدائرة نسخة فيلمية منها إلى حيدر أباد وقامت بتحقيقها وطباعة نسخ عدة منها.

ولما استقلت الهند وتحررت من الاحتلال البريطاني وانضمت الدولة الآصفية إلى الجمهورية الجديدة نقلت هذه المؤسسة أيضا إلى إشراف الحكومة، واستمرت في خدمتها بدعم من الحكومة المركزية الهندية، وإبان تلك الفترة طبع كتاب ابن سينا المشهور “الحاوي في الطب”، وكذلك تم ترجمة غيتا الذي يعد سفرًا مقدسا لدى الهندوس إلى اللغة العربية، قام بها الأستاذ ماكان راي شودهري بالتعاون مع أستاذ جامعة الأزهر محمب حبيب.

ولما أسست الجامعة العثمانية عام 1938م نقلت المؤسسة إلى إدارة الجامعة، ومنذ ذلك اشتهرت المؤسسة بدائرة المعارف العثمانية لتكون أقدم من الجامعة نفسها.

ولا غرو لو قلنا بأن المكتبات العربية لا تخلو من الكتب المحققة من دائرة المعارف العثمانية، وحسب كاتلوغ أعدها كل من د. عمر الهاشمي وعصمة الله الندوي وأحمد زكريا الندوي يؤكد بأن مجموعة الكتب المحققة من طرف الدائرة تصل إلى مائتين وأكثر، وكان معظم الكتب المنشورة من الدائرة في العلوم الدينية من الحديث ومتعلقاته، من كنز العمال ولسان الميزان ومستدرك الحاكم إلى جانب الفقه الأكبر للإمام أبو حنيفة وكتاب الأصل لمحمد الشيباني وطبقات الشافعية للإمام السبكي وغيرها من المخطوطات النادرة.

ولا يخفى دور النظاميين في رعاية الكتب والعلوم، ولهم دور قيادي في هذه المهمة الصعبة، وكانت شيمتهم دعم كل المشروعات التي تهتم بالعلم والعلماء، وتوجد هناك عدة آثار تدل على سخاءهم وجودهم ووفاءهم للعلم من الجامعة النظامية المعروفة بأزهر الهند والجامعة العثمانية ومستشفى العثمانية إلى غير ذلك من المبادرات الرائعة.

والأكثر غرابة وجمالا أن الذين يعملون وراء هذه الجهود المكثفة مثلا من تصفيف الحروف المندثرة هم هنود عاديون لا يتقنون اللغة العربية إلا أن خبرتهم الطويلة مكنتهم من حفظ أشكال الحروف واختيارها ورصها ببراعة.

ولا تكتمل قصة دائرة المعارف إلا بذكر متحف سالار جنك الذي أسسه عاشق المخطوطات والتحف النادرة وزير نظام الملك، وكان فيه جناح للمخطوطات هو أكثر الأقسام إثارة وإعجابًّا، وهي غنية من مخطوطات نادرة من كتب الحديث والمواعظ والسوانح والخطب والتفسير باللغتين العربية والفارسية.