حوار بين معلمة وتلميذة

قالت التلميذة لمعلّمتها وهي تحاورها: هلاَّ حدثتني يا معلمتي عن مبعث هذه الحمرة الخفيفة التي تتسلّل إلى وَجَنَاتنا -نحن العذارى- على عجل إذا ما التقينا الرجال الغرباء حيثما تفرض علينا مشاغل الحياة هذا اللقاء؟!
قالت المعلمة: اعلمي يا ابنتي أنّ هذه “الحمرة” التي تتساءلين عنها، دليل على الصحة الفطرية والنفسية عندكنّ، ودليل على سلامة جنسكنّ الأُنثوي من أوضار العصر، وآية على الطهر والنقاء عندكنّ.
فـ”الحياء” هو مبعث هذه “الحمرة”، وهو نازع فطري يولد مع الأنثى حين تولد وينمو مع نموها، ولكن “التقوى” تزيده وتنميه، بينما السفاهة والرعونة تضعفه وتُقْمِيْه.
وهو -بعد ذلك- إكليل عِفّة يَزينُ الفتاة ويكسوها هالة من الجلالة والمهابة، لا يسع الرجل إزاءها إلا إكبارها وتقديرها، كما أنه -أي الحياء- حصانة ذاتية تحصن الفتاة وتحول بينها والانسياق دون تحفظ نحو كثير من السفاهة والطيش.
قالت التلميذة: ولكن -يا معلمتي العزيزة- أليست “حمرة الحياء” هذه أو “الخجل” كما يحلو للآخرين أن يسموها بِمَنقَصَةٍ ينبغي –نحن الفتيات- أن نخلص منها وندعها جانبًا، لأنها دليل ضعف نفسي وبقايا شعور بالدونية إزاء الرجل وقوته وعنجهيته. فالمرأة اليوم، أكثر اعتزازًا بوجودها، وأكثر ثقة بشخصيتها، وعليها أن تقتحم عالَم الرجل دون خوف كما يريد أنصارها من الرجال والنساء أن تكون؟
قالت المعلمة: اعلمي -يا ابنتي- أنّ المرأة لا تكون سوية الكيان، حتى يتناغم ويتكامل فيها العقل والشعور والفطرة، وإغفال أي جانبٍ من هذه الجوانب، ينجم عنه خلل معيب في شخصية المرأة.
فالحياء فطري في المرأة، وهو ذو جذور تمتدّ في كل وجودها الأنثوي، وقد يتوارى أحيانًا ويغيب، ولكنه يظل موجودًا. وهو غلاّبٌ لا يغلب، وركين لا يستأصل، وهو “روحانية المرأة” التي تسمو بها فوق نوازع الاسفاف حتى حين تنعدم عندها كل الروحانيات، وهو دينها الذي يمنعها من السقوط في جهنم الرذيلة حتى ولو كانت من غير دين، وهو -بعد ذلك- شعور مُرهفٌ يرقى بالمرأة إلى قدسية أنثوية يتردّد الرجل كثيرًا قبل أن يمَسّها أو يخدشها. والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بأجمل بيان في قصة الفتاتَين اللتين سقى لهما موسى عليه السلام حيث يقول: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾(القصص:25).
غير أن الأزمنة الحديثة، استنبتت في رأس المرأة أفكارًا جديدة على النقيض من نوازعها الفطرية، فملأ الكتّاب خيالها ووجدانها بأفكار متوقحة سرعان ما سرت من الفكر والخيال إلى كيان المرأة كله، فتَوقّح الجسد تبعًا لتوَقّح الفكر والخيال، واختفى “الحياء” أو كاد، واختفت تلك الحمرة المحبّبة أو كادت عند كثير من شرائح المجتمع النسوي، وهذا ما كان يسعى أنصار المرأة من الرجال والنساء إلى جرّ المرأة إليه… ومع ذلك، فالحياء باقٍ في طوايا المرأة مهما حاولت أن تتظاهر بعكس ذلك، ويمكن أن يغشى مظهرها في لحظة من لحظات صحوتها الأنثوية الفطرية.
قالت التلميذة: على رِسْلكِ يا سيدتي، إن فينا نحن البشر -رجالاً ونساءً- نازعًا تمرديًّا ينـزع بنا إلى كسر قيودنا وأغلالنا، والتحرر من كل قيد يقيد حركتنا، ويمنعنا من الاستمتاع بلذات التحرر والانطلاق… وهنا أريد أن أسألك: ألا تعتقدين -يا معلمتي ومربيتي- أنّ “الحياء” قيد يقيدنا -نحن النساء- ويضع بيننا وبين الرجل حواجز نفسية تمنعنا من اقتحام عالَم الرجولية فنظل في معزل عنه، لا هو يفهمنا ولا نحن نفهمه؟
قالت المعلمة: لقد خُلق الإنسان متمردًا مسألةٌ لا أخالفك فيها، ومن أجل ذلك احتاج إلى الحكمة والدين ليحدّ من انفلاتاته وتمرداته وشططه والذهاب بعيدًا في انطلاقاته إلى حد التيه في عالم “اللاّجدوى”. إن ما علينا أن نعالجه هنا، ليس الذكاء البشري الذي يحتال للانطلاق من قيوده، بل علينا أن نعالج قضية أجلّ وأعظم، وهي قضية “الإنسان” عمومًا والمرأة بشكل أخصّ، ضمن فكر شمولي، له امتداداته “الماورائية” التي نشعر بومضاتها في خفايا الروح والوجدان. فعلى المرأة أن تدرك أن “الحياء” ليس بأرضي النشأة، بل هو لمسة إلهية لِطينة المرأة في حين تشكلها الأول، وما من أحد يستطيع أن يمحو هذه اللمسة المباركة مهما بذل من جهد. فالمرأة -هذا المخلوق الحي بفطرته- لن تستطيع التمرّد على فطرتها مهما اصطنعت من مبررات. انظري إلى ما يقوله “عباس محمود العقاد”، هذا المفكر الخبير بطبيعة المرأة في هذا الصدد، إنه يقول: “كذلك نمقتُ الحرية التي تجني على “حياء” المرأة، لأننا لا نفهم معنى الأنوثة بغير معنى “الحياء”، فكل أنثى مستعصمة به حتى في النبات وحتى في الحشرات وحتى في الحيوان، وكل أنثى تقوم في حرم من الأنوثة، لا تعوضها منه الحرية ولا السرور، فالرجل لا تقتل رجولته الحرية التي يسعى بها إلى المرأة، ولكن المرأة تقتل أُنوثتها وجمالها كل حرية تجني بها على طبيعة الخفر والحياء”.
قالت التلميذة: معلمتي العزيزة… أفدتُ منك أيّما فائدة، وأنَرتِ كثيرًا من غوامض فكري… فالشكر لك… ومع ذلك فلا زال شيء ما من هذا الأمر، يلح على نفسي ويتلجلج في خاطري… وآمل أن ألتقيكِ -معلمتي- في حوارات أخرى للمزيد من الإيضاح.