حكاية آكل النمل

مرحبًا عزيزي الإنسان.. أرجو أن لا تستغرب من شكل أنفي وفمي كثيرًا. أعرف أنك لم تعتد على رؤية نوع مثلي بين الحيوانات. لكنني لا أشكو من ذلك أبدًا، لا شك أن هناك حِكَمًا كثيرة وفوائد عديدة في هذه الخِلْقة التي أبدعها خالقي العليم الخبير. أعتقد أنك لم تر مخلوقًا غريبًا مثلي عن قربٍ إلا في الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن عالم الحيوانات في الكرة الأرضية. ولكني على يقين أن استغرابك سيزول عندما تعرفني عن قرب، وعندما تعرف كذلك أني مخلوق ترجمان لأسماء الله الحسنى في هذا الكون.

فأنا لم أُبدع شكل رأسي وفمي ولساني ومخالبي على هذا الشكل الذي يساعدني كثيرًا في أكْل النمل. ولكن لو سألتم علماء الوراثة لسمعتموهم يدعون أننا نحن مَن قام بتطوير المخالب القادرة على حفر أعشاش النمل، ونحن مَن نمّى اللسان الطويل الذي يبلغ طوله نصف مترٍ لاستخدامه في التقاط النمل، ونحن مَن طوّل الرأس الأنبوبي، ونحن مَن مدّد الخَطْم الرفيع؛ وذلك من خلال الممارسة الطويلة عبر الأزمنة الطويلة، أو أن هذه الأعضاء تطوّرت من تلقاء نفسها وظهرت فينا، صدفةً من غير حساب(!) فما علينا إلا أن نقول لهؤلاء: لماذا لم تقوموا أنتم بتطوير أعضائكم لتسهيل حياتكم التي تعيشونها؟! المعذرة؛ ولكن يصعب على العقل أن يستوعب ويفهم هذه الادعاءات والآراء من مخلوق إنسان. بيد أن هؤلاء الناس من البشر، لو اعترفوا بقدرة الله تعالى وأبصروا صنعه البديع في خلقه وفقًا للبيئة التي يعيشون فيها، لَانْحلت كل الألغاز واتضحت كل الحِكَم والأسرار.
فالشكل الخاص لرأسي وفَكّي ولساني ومخالبي مصنوع وفقًا لشكل جسمي ووفقًا لتلبية غذائي ومن ثم إدامة نسلي وذريتي في هذه الحياة، لذلك لا يمكن للثدييات الأخرى أن تجد أعشاش النمل والتقاطها مثلي بكل هذه السهولة.
أنا وأشقائي
وكوني أعيش في غابات أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية فقط، لعل معظمكم لم يرني أبدًا، أو رآني في بعض حدائق الحيوانات. يعيش اليوم منا أربعة أنواع. فأنا من أضخم آكلات النمل، يبلغ طولي 130 سم، ووزني 40 كغ. أُعرَف بـ”آكل النمل العملاق”. كما يوجد بيننا نوعان متوسطان من حيث الحجم، هما “آكل النمل المطوق” و”البنغول”. أما “آكل النمل الحريري” فهو أصغرنا حجمًا حيث يبلغ طوله 20 سم ويزن 400 غرام، سمي بـ”آكل النمل الحريري” بسبب شعره الحريري الطويل. والطول الذي أذكره هنا لا يدخل فيه الذيل الذي يوازي طوله جسمه، بل ويتجاوز ذيل “آكل النمل الحريري” طول جسمه.
وإذا كان بعض أنواعنا ينشط في الليل نحو رزقه كآكل النمل الحريري، فإن الآخرين مثلي يسعون وارء رزقهم في النهار. وأنا باعتباري من آكلي النمل الضخام، مهيَّؤٌ من الناحية التشريحية للعيش على الأرض، وقلما أتسلق الأشجار. أما آكل النمل الحريري، فمهيّؤ للعيش على الأشجار بسبب حجمه الصغير ومخالبه التي تشبه الكَلَّابات، ولكنه يعيش مثلي على الأرض في بعض الأحيان. تتمع أرجلنا بالقدرة على الحفر والتسلق والسير على اليابسة، ولكن في نهاية المطاف الكلّ منّا يمارسُ عمله الذي يناسب طبيعته. وكأن الطبيعة تعقد معنا اتفاقيةً سريةً توزع خباياها بيننا؛ ففي الوقت الذي أقتات فيه النمل في أعشاشها على الأرض، فإن الآخرين يقتاتون من بيوت النمل على الأشجار، الأمر الذي يزيل الجدل والتنافس فيما بيننا. فالله سبحانه وتعالى قد قسّم الأرزاق بيننا وأودعها في أماكن مختلفة.
يلقّبنا علماء الأحياء بـ”اللاَّسِنِّيَّات” (Edentata)، فجميع أنواعنا بلا أسنان. يتكوّن فَمُنا من فتحة بيضوية في نهاية أنفنا الطويل الرفيع. ومن السهل أن تستوعبوا الحكمة من خَلْق رؤوسنا أنبوبيّةً -والتي يبلغ طولها 30 سم- إذا ما عرفتم طريقة التغذية لدينا نحن آكلي النمل. هذا وقد يشّكل اللسان الرفيع المكور والطويل أهم أداة لفمي الخالي من الأسنان. ولعل لساني هذا يشّكل الرقم القياسي في الطول إذ يبلغ 61 سم، بينما يبلغ 40 سم عند الأنواع الأخرى. يتميز اللسان عندنا بميزتين هامتين: فالأولى أنه مغطى بأشواك صغيرة مدبَّبَة كأنها مباردُ مائلة نحو الداخل تكسوها طبقة سميكة لزِجَة لاصقة من اللعاب، والثانية أنه على شكل سَوط ويمكنني أن أخرجه وأدخله إلى فمي بسرعة تبلغ أكثر من 150 مرة في الدقيقة.
وفي هذه الأثناء، أولاً أقلص عضلات المضغ باتجاه الوسط في نصفَي فكي الأسفل، ثم أُكوِّر فمي جيدًا. وبينما تُقلّص عضلاتُ الحنك في فمي أطرافَ مؤخرة عظم الفك السفلي، ترتفع في الأمام لسدّ فمي، وبحركة لساني هذه ترتفع طاقة الهضم لديّ. أما العضلة التي تتحكم في حركة لساني فهي عضلة “Sternoglossus” المرتبطة بقاعدة صدري. وإني أستطيع بلساني التقاط جميع النمل من داخل العش حتى وإن لم أرها بعيني. فكما أنكم أنتم البشر تستطيعون التمييز بألسنتكم بين الضارّ والنافع، فكذلك نستطيع نحن التمييز بين النمل وحبات الرمال وغيرها من الأشياء التي لا تؤكل، فأطرحها إلى الخارج ثم أمضغ النملات بعظام فكي الصلبة وأبتلعها.

تصميم عجيب لمعدتي:


سأحدثكم هنا عن خاصِّيَّة أخرى لا يمكن إحداثها بالتطور. تعلمون أن المعدة تحتاج إلى حموض عالية لكي تهضم البروتينات، ولذلك تشترك جميع الثدييات بوجود غدد خاصة في المعدة تقوم بإفراز حمض كلوريد الهيدروجين (HCl)، أي حمض كلور الماء، ولولا هذا الحمض في المعدة لما تم هضم البروتينات. إلا أن معدتي لا تحظى بهذه الغدد ولا يحدث فيها أيَّ إفراز حمضي. هذا دفعكم إلى التفكير أني أعاني من مشكلة هضم البروتينات، أليس كذلك؟ ولكن ربي، بعلمه الواسع، زوّد معشر النمل بحمض الفورميك للدفاع عن نفسها، الأمر الذي يغنيني عن الحاجة إلى إفراز الأحماض في معدتي، وأسدّ حاجتي إلى الحمض من حمض الفورميك الموجود في النمل هذه. فكيف يعقل أن نفسر هذه الآلية الفسيولوجية العجيبة المتمتعة بغذاء خاص، بنظرية التطور أو التكيّف أو الاختيار؟

لقد منحني ربي قدرة التمييز بين أنواع النمل، فأبتعد عن كبارها ذات الأفواه العريضة، لأن قشرتها صلبة وفي رؤوسها أسلحة كيماوية مختلفة. لذلك ألفظ هذا النوع من النمل ذات الروائح الكريهة لكي لا تفسد طعم فمي، وأبقى آكل عاملات النمل واليرقانات. ولكن عندما أقوم بجمع الطعام لا أنسى أبدًا مراعاة التوازن البيئي الحياتي، فلا أقضي على عش النمل الذي أعثر عليه كاملاً، بل أنتقل من عش إلى آخر بعد وجبة لا تتجاوز 140 نملة. وهذه الكمية تشكل 0,5% من حاجتي اليومية إلى الغذاء. وبذلك أكون قد حافظت على العش من جانب، ومن جانب آخر لبّيتُ حاجتي من الغذاء قبل أن تنتبه عليّ عساكر النمل. أحتاج إلى ما يزيد عن 250 عشًّا من أجل تناول 35.000 نملة كبيرة (بطول 8 مم) يوميًّا.
كما ترون، أتناول كميات محدودة من النمل، فمن جانب أكون قد أشبعت بطني، ومن جانب آخر أكون قد أديتُ وظيفتي في منع النمو المفرط للنمل. كان بإمكاني أن آكل كل النمل الموجودة في الأعشاش مرة واحدة، ولكن أعرف أن هذا سيؤدي إلى انقراض إمبراطوريات النمل خلال فترة قصيرة في كل منطقة أَنْزل فيها، فأقعد حيندئذ مذمومًا مدحورًا، أتلوى وأتضوّر من الجوع. فلكي لا أقع في حرجٍ كهذا، أكتفي كل يوم بالقليل من النمل من كل عش، وأمنح فرصة النمو والتكاثر لهذه النمل لتعويض ما أكلتُه منها، عندئذ تظل الأعشاش قائمة، وأتمكن أنا كذلك من تأمين الطعام في اليوم التالي فالتالي بنفس المنطقة… ولكن أخشى أن تظنوا أن اقْتياتي على هذه الطريقة مع مراعاة التوازن البيئي، وجدتُه أنا من تلقاء نفسي وبعلمي غير الموجود أساسًا؟!
نعرف جيدًا نوع النمل التي تحمل في رؤوسها أسلحة كيماوية قوية ونتجنّبها. وأَفْضَل ما نفعله عند فقداننا النمل، أننا نقوم بزيارة خلايا النحل فنتذوق بعض عسلها ونتناول بضع نحلات منها.
من الطبيعي أن يكون لي أعداء. فالنمر الأمريكي وأسد الجبال من فصيلة السنوريات بأمريكا اللاتينية، تأتي في طليعة هؤلاء الأعداء. وليس لي ما أدافع به سوى قدميّ الخلفيتين وذيلي، إذ أعتمد عليهما لرفع جسمي والانقضاض على عدوّي بفكَّي ومخالبي. ورغم قوة مخالبي الخارقة في الحفر، إلا أنها تظل ضعيفة في مقاومةِ ورَدْع هذه الحيوانات المفترسة. وبما أني لا أملك أسنانًا ولا أستطيع العضّ، فإن خيرَ وسيلة عند مواجهتي الخطر هو الهروب، أو الاختفاء دائمًا. أما أخطر أعداء أشقّائي الذين يعيشون على الأشجار، هي البوم والنسر والشاهين.
تتمتع يدي بخمسة أصابع، وأرجلي بأربعة أو خمسة أصابع. كما أني أملك أصابع صغيرة جدًّا مخفية تحت جلد اليد أيضًا. ويختلف عدد الأظافر الطويلة في الأصابع التي أستخدمها في حفر التربة أو في إزالة القشور من جذوع الأشجار. فَلِي ثلاثة أظافر طويلة، ولآكل النمل الحريري اثنان، وللتَّامانْدُو (Tamandua) أربع أظافر، هذه الأظافر أقوى وأسْمَك من الأظافر الأخرى لدينا. فتقوم أيدينا بذلك بدور آلة الحفر التي تنحني وتدور في كل الاتجاهات. حتى إن طول مخالب أنواعنا التي تتسلق الأشجار يصل إلى 40 سم، حيث تستطيع من خلالها ومن خلال أذيالها الطويلة أن تتعلق بالأغصان وتتحرك بكل سهولة.
أعتمد على حاسة الشم القوية في البحث عن أعشاش النمل، وذلك لضعف بصري. فبمجرد التقاط رائحة نملة، أشرع على الفور بحفر الثقب الذي دخلت فيه، ألتقط أولاً عاملات النمل الخارجات منه ثم أحشر لساني في العش.
لباسنا يناسب المحيط الذي نعيش فيه، لا سيما وأن آكل النمل الحريري، بارعٌ جدًّا في اختيار الأشجار ذات الأوراق الفضية التي تتفق مع لونه، الأمر الذي يمكّنه من التمويه والاختفاء فلا تستطيع الجوارح رؤيته بسهولة.
لا نملك أية قابلية في إصدار الأصوات، وليست لنا أصواتٌ عدا بعض الأنين الذي تصدره الأمهات عند الولادة، فنحن حيوانات صامتة. كما أننا لا نحتاج الماء؛ حيث تتميز أجسامنا باستخراج الماء من القوت المتناوَل، ويتم بذلك سدّ الحاجة للماء بشكل أيضي. فهذه العملية تغنينا عن الجاجة إلى الماء دائمًا. تنتشر أعشاش النمل التي نمرّ عليها في اليوم الواحد على نصف كيلومتر مربع، وربما ترتفع هذه المساحة إلى 6.800 هكتار إذا كانت الأعشاش قليلة.
استمرارية نَسْلنا
تجتمع الذكور والإناث للتكاثر في فصل الخريف. إنها مرحلة تتم بتقدير إلهي. وبعد فترة الحمْل التي تمتد إلى 190 يومًا، تلد الإناث مولودًا واحدًا في فصل الربيع، كما تندر التوائم بيننا. تستند الأنثى أثناء الولادة على ذيلها الطري الناعم فتضع مولودها عليه، ويولد المولود مزودًا بالمخالب، ثم تقوم بإرضاعه ستة أشهر. هذا وقد تمتد صحبة الصغير لأمه -في بعض الأحيان- عامين، يكون عندها قد بلغ، ثم يبدأ البحث عن الأنثى رفيقة عمره. تقوم الأم بحمل صغيرها على الظهر في غالب الأحيان، ولا تضعه إلا عندما تغدو باحثة عن رزقها. لا تتحمل إناثنا أعباء رعاية الصغار وحدها، بل نحن الذكور أيضًا نشاركها في هذه المهمة الهامة. أما آكلات النمل الحريرية فتقوم بتلقيم صغارها بعض الطعام (نصف المهضوم) من النمل في فترة الرضاع.
إذا كانت صغارنا نحن آكلي النمل العملاقة تشبهنا، فإن صغار التّامَانْدو (Tamandua) لا تشبه أبويها بادئ الأمر إنما تدريجيًّا، حيث يتغير لونها من البياض إلى السواد حتى يتحقق الشبه بينها وبين أبويها. ليس لنا مأوى خاصًا نركن إليه، بل نلجأ إلى ظلال الأشجار فنلتحف أذيالنا وننام. ويلجأ التّامَانْدو إلى نُقْرَة في جذع شجرة ليستريح فيه، كما يستريح آكل النمل الحريري على أغصان الأشجار، إلا أنه لا يمكث في الشجرة الواحدة أكثر من يوم، وهو أيضًا يرعى -مثلنا- التوازن البيئي حينما يتناول النمل. نتمتع نحن وفصيلة التّامَانْدو، بمهارة التعرّف على إناثنا وصغارنا بفضل الرائحة القوية التي تصدرها غددها الشرجية. وقد تقوم غدد إفرازية في وجه آكل النمل الحريري، بمثل هذه الوظيفة أيضًا. كما أننا نستخدم رائحة لعابنا في التواصل فيما بيننا وفي تمييز الذين ينتمون إلى فصيلتنا كذلك.
إن معدّل الأيض في أجسامنا منخفض جدًّا، هذا ما يجعلنا نملك أقلّ معدل حراري جسميٍّ (32,7 درجة) بين الثدييات المشيمية. نحتاج إلى 4-8 ساعاتِ نشاطٍ يوميٍّ لتأمين احتياجاتنا. تتمتع أنواعنا التي تعيش في المناطق الشمالية من القارة الأمريكية بلون واحدٍ كاشف بعض الشيء، بينما يغمق هذا اللون كلما اتجهنا صوب المناطق الجنوبية. هذا ويتفرّع كلٌّ من الأنواع الأربعة إلى فروع عديدة تبعًا لألوانها. فالنوع الذي أنتسب إليه يتفرّع إلى ثلاثة فروع، والتّامّانْدو المكسيكي إلى خمسة فروع، وآكل النمل الحريري إلى سبعة فروع تبعًا للأشجار والمناطق التي تعيش عليها.
إن خطر الانقراض يسري علينا نحن أيضًا… فعلى الرغم من أن لحمي لا يصلح للأكل، وجلدي ليس مرغوبًا وليست له تجارة شائعة، فإن بعض الناس يهوى مطاردتي وصيدي عبر الكلاب كنوع من الرياضة. ففي “فنزويلا” يسرق الناسُ صغارنا للتَّدْجين. ولكن أخطر تهديد نواجهه في الحقيقة هو تخريب البيئة والمحيط الذي نعيش في كنفه؛ فالنفايات الكيماوية، والسمادات الزراعية تلوِّث الأتربة والمياه، فتتخرب أعشاش النمل وتنحسر مناطقها وتقل أعدادها، فيتهدد قوتنا ويتهدد وجودنا.
أيها الإنسان.. حاولتُ أن أعرض لك جماليات وبديعيات صانعي الذي أوجدني من العدم وجهّزني بأجهزة يعجز العقل عن استيعابها وإدراكها. فأعتذر إن بدَر مني خطأ أو إن جاوزتُ حدّي في كلمة أو تفسير. فطلبي منكم أنا المسكين؛ أن ترحمونا وترحموا المخلوقات الضعيفة العاجزة الأخرى، وأن تحافظوا على الطبيعة ولا تفسدوا توازنها وجمالها المتكامل المتناغم، فإن الحياة تكفينا وتكفيكم… عفوًا… رأيتُ نملة تدخل الثقب، فعليّ الإسراع لأعثر عليها، إني أشعر بالجوع قليلاً، ثم لديّ أعمال كثيرة وزيارات عديدة لأعشاش النمل هذا اليوم. هيا إلى اللقاء.

(*) جامعة 9 أيلول / تركيا. الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.