حقوق الناس في حجة الوداع

ركن الإسلام الخامس (الحج): قصد البيت الحرام، في أشهر معلومات لأداء مناسك بعينها.. هو حق خالص لله تعالي. ومع ذلك.. فمن “مقاصد” هذه الشعيرة الكبري: إكساب الحجيج فضائل التقوي، والإخلاص، والإتباع، وتعظيم شعائر الله تعالي، والإحسان في كل الأمور. وفي هذا وغيره ما يوجب على المسلمين الوفاء بحقوق الآخرين. وكل ما هو حق لأفراد، على اختلاف تنوعاتهم ومواقعهم، هو واجب على آخرين. وضمن “أسس الاستخلاف في الأرض، والكرامة الإنسانية، ومقاصد الشريعة الغراء” تتنزل جملة هذه الحقوق، وتلك الواجبات.

ولقد جاءت خطبة الوداع بمثابة “إعلان عالمي لحقوق الإنسان”. تؤكد القيمة المركزية – في الرسالة الخاتمة- للناس وحقوقهم.

قال “ابن إسحاق”: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “أما بعد، أيها الناس: اسمعوا مني أبيّن لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. أيها الناس:إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. إن ربا الجاهلية موضوع, وإن أوّل ربا أبدأ به ربا عمّي العباس بن عبد المطّلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السّدانة والسّقاية، والعمد قود. وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير. فمن زاد؛ فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنّه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقّرون من أعمالكم. أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلّونه عامًا، ويحرّمونه عامًا ليواطئوا عدّة ما حرّم الله.
وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد . أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقا، ولكن عليهنّ حق ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيتكم الا باذنكم، لا يأتين بفاحشة؛ فإن فعلن، إن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن, وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عندكم عوان، ولا يملكنّ لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة. ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منهز ألا هل بلّغت؟ اللهم اشهد. أيّها الناس إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد. فليبلّغ الشاهد منكم الغائب. أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارث وصيّة، ولا تجوز وصيّة في أكثر من الثلث. والولد للفراش وللعاهر الحجز. من ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل”.

لا فَرْقَ في التشريع بينهم ولا امتياز ولا تمييز على أساس من أصل أو عنصر أو جنس أو لون أو لغة أو سلطة إلخ.

ولقد جاءت خطبة الوداع بمثابة “إعلان عالمي لحقوق الإنسان”. تؤكد القيمة المركزية – في الرسالة الخاتمة- للناس وحقوقهم. حقوق شرعها الخالق سبحانه، وبلغها رسوله صلي الله عليه وسلم. وفي تحقيقها وتحققها كاملة شاملة أساس صحيح لإقامة مجتمع إسلامي وإنساني حقيقي: مجتمع يحفظ أعظم حقوق الإنسان وهو حق الحياة. وفي ذلك تُعَظِّيم من شأن النفس الإنسانيَّة عامَّة. كما تحُرم فيه الدماء والأموال إلا بحقها. ويقر المساواة بين الناس جميعًا؛ بين الأفراد والجماعات، وبين الأجناس والشعوب، وبين الحُكَّام والمحكومين.
لا فَرْقَ في التشريع بينهم ولا امتياز ولا تمييز على أساس من أصل أو عنصر أو جنس أو لون أو لغة أو سلطة إلخ. ويرتبط بحقِّ المساواة حقوق آخر وهي العدل والعدالة والكفاية والكرامة والحرية التي يولد بها المرء، ويحقق ذاته من خلالها.. بعيدًا عن كل صور التخويف والإهانة والاستعباد والقهر والظلم والعدوان. إنه المجتمع الحريص على الأسرة (الصغيرة والكبيرة)، نواة المجتمع/ الإنسانية المتماسك، ويكرمها ويحميها ويضمن لها سبل استقرارها. ويدعو إلى احترام النساء وإعطائهن حقوقهن، ودعوتهن للقيام بما عليهن من واجبات.
ومجتمع يؤدي فيه الجميع الإمانات التي في عنقه: أمانة العبودية لله وحده، وأمانة حقوق النفس البشرية، وأمانة التكليفات الشرعية، وأمانة المعاملات اليومية والمهنية، وأمانة السلطة، وأمانة المسئولية، وأمانة الكلمة الخ. وفيه حُرمة الربا وخطورة التعامل به، نظراً لآثاره السلبية على الفرد والمجتمع. ويتزين بعدم تحقير صغائر الأعمال وبخاصة ما يتعلق بحقوق الآخرين. ويُبطل ما فيه من عادات قبيحة لا تتماشي وشريعة الإسلام. فالمظالم التي يوقعها جنس بجنس، أو لون بلون، لا يمكن أن تستند إلى أساس من شرع أو دين، فالله يأمر بالعدل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النحل:90).
ومجتمع “الوازع الإيماني”(الضمير)، الحق/ الواجب، والقدوة والأسوة الحسنة الذي يقتدي به الآخرون.. قيمًا ومعاملات، برا وتقوى. وهو “أنموذج” يوفق بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة. فكل حق للفرد حقا لله، أي للجماعة، مع أولوية حق الجماعة كلما حدث تصادم. مجتمع يتمسك، في كل زمان ومكان، بكتاب الله وسنته نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ويدعم أخوة المسلمين ووحدتهم.. بعيداً عن أسباب الاختلاف والتناحر.
ولقد قرر المعصوم صلي الله عليه وسلم في خطبته الجامعة: مبدأ المساواه بين الأمم انطلاقاً تكريم جنس الإنسان: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” (الإسراء: 70). وأهاب بالمسلمين تقدير قيمة “التعارف”، و”التفاضل بالتقوي”: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(الحجرات:13). وإن حقوق الآخرين لتَصِلُ إلى أوج عظمتها حين تتعلَّق بحقوق المدنيين والأسرى أثناء الحروب. فشأن الحروب التغلب والانتقام والتنكيل الخ. لكن شريعة الإسلام السمحة كان لها ـ في هذا الشأن ـ منهجٌ إنسانيٌّ تحكمه الرحمة، يقول صلي الله عليه وسلم: “لا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلا امْرَأَةً وَلا شَيْخًا” [صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير (1731)، والطبراني عن عبد الله بن عباس: المعجم الأوسط (4313) واللفظ له].
ومن اللافت أن القوى المهيمنة تستغل حقوق الإنسان لخدمة مصالحها، وتقصرها على الإنسان الغربي دون العربي، والأقوى دون الأضعف، والأبيض دون الأسود، والغنى دون الفقير، كما أن المواثيق الدولية ـ كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948م ـ نصت فقط على ضرورة صيانتها، دون وضع الوسائل الكفيلة بضمانها، ومع ذلك ضج ـ مؤخراًـ الإنسان الغربي بتحول مجتمعاته إلى “دول بوليسية” تهدر حقوقه، التي ناضل من أجلها طغيان الدولة والإقطاع والكهنوت، كما سأهم الجرائم البشعة ضد حقوق الإنسان، وانتهاك الاتفاقيات الدولية، بخاصة تلك المتعلقة بحقوق الأسرى في جوانتنمو وأبي غريب وغيرهما. لكن إنسانية الشريعة الإسلامية تُحق الحقوق للناس كافة (مسلمين وغير مسلمين، مدنيين ومُحاربين وأسرى) (راجع د. محمد مفتى، ود. سامي الوكيل:النظرية السياسية الإسلامية في حقوق الإنسان الشرعية: دراسة مقارنة، كتاب الأمة:25، ذو القعدة، 1410هـ ، قطر)، فمقاصدها هي حفظ ضرورات الناس الخمس: العقل والنفس والنسل والدين والمال، التي لا يصلح الأمر إلا بهم وبما يلزمها من حقوق وواجبات، وإذا ما أنتقص حق فرد فللعدالة دورها: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(النساء: 58).

لعل من الحكمة من الحج والعمرة، تطهير النفوس من آثار الذنوب، والتقصير في آداء الحقوق، والقعود عن الواجبات.

وللتقاضى والمساواة الكاملة للكافة أمام القضاء تاريخها الساطع في حضارة المسلمين: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)(المائدة: 8). وهذا التوجه ينبني على أن طبائع البشر وسنة الوجود التي أرادها الله تعالى اقتضت التنوع والتعدد: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، ألا من رحم ربك ولذلك خلقهم..)(هود: 118- 119)، لذا فكل محاولة إجبارية لفرض دين معين أو رأى خاص:”ولكل وجهه هو موليها”(البقرة: 148)، هي على النقيض من سنة الوجود،”ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه، فحكمك على شئ هو عقلك أنت فيه، والقرآن نفسه قد أثبت الله تعالى فيه أقوال من عابوه، وحاورهم حوارا موضوعياً ومنطقيا، ليدل بذلك على أن الحقيقة تحتاج إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يُقر بها ويقبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار”(بتصرف من كلام “الرافعى”: من وحي القلم،ط 2003م، ص:163ـ 165).

ومع ذلك فوسطية الإسلام ـ غير المسبوقةـ لا تجعله منطوياً على نفسه فاتراً في دعوته، بل يدعو الإنسانية لجادة الصواب بالرفق والحكمة بلا إكراه أو وصاية أو إجبار(د. عبد الله دراز: الدين .. بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان،د.ت.،ص:190)(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(يونس:99).
بهذا تكسب الإنسانية التجربة الحضارية الأعدل من كل ما اهتدى إليه العقل البشرى، حيث التحرر الحقيقي وحقوق الإنسان المنشودة:”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”( قالها الفاروق “عمر بن الخطاب” في الحادثة المشهورة عندما ضرب ابن وإلى مصر”عمرو بن العاص” أحد أقباطها). ولما كانت شريعة الإسلام، خاتم البلاغ السماوي.. كان لحقوق الآخرين خصائص ومميزات خاصَّة. مِن أهمِّها شموليَّة هذه الحقوق؛ فهي سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية. كما أنها عامَّة لكل الأفراد، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة. وهي كذلك ثابتة راسخة مقررة، غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأن مرجعيتها إلهية لا وضعية(انظر: أ.د. ناصر أحمد سنه: “ماذا تكسب الإنسانية بنهوض المسلمين؟”، مجلة الرابطة، العدد: 472، رمضان 1426هـ ـ أكتوبر 2005م، السعودية).
الخلاصة: لعل من الحكمة من الحج والعمرة، تطهير النفوس من آثار الذنوب، والتقصير في آداء الحقوق، والقعود عن الواجبات. فغذا تطهرت النفوس من ذلك أمست أهلاً لكرامة الله تعالي: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)(متفق عليه). ففي شمول وعمق وضمانات كافية لإحقاقها وحمايتها وتنفذيها.. شرع الإسلام حقوق الناس. وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ تمكن لهذه الحقوق وتدعمها. كما حضهم على الوفاء بحق الإنسانية جمعاء.. إسهاما في استنقاذ العالم مما تردي فيه من أخطاء، بل وخطايا، وتخليصا للشعوب مما تئن تحته من صنوف المعاناة.