حركة نماذجها من ذاتها

في هذا المقال أحب أن أتحدث عن موضوع يقتضي خُلُقُ الوفاء تناوله، وهو في الوقت نفسه موضوع يصعب الحديث عنه لأنه يشبه قصص البطولة القريبة من الأساطير. ولا أدري في الحقيقة هل تستطيع مقالة أن تحيط في إطارها حركة البعث والإحياء التي بدأت فسائلها ونبتاتها الصغيرة تورق في أرجاء المعمورة؟.. لا أظن هذا… فمعلوماتي في هذا الموضوع منحصرة فيما شاهدته في أفلام الفيديو، وشهادتي هنا بمسموعاتي، وقلمي أسير لقريحتي، ولا أدري متى تتجلى حقيقة ما تم ومعاني ما جرى.. أيا ليت شعري ماذا يمكن أن نقول في هذه الحال؟! لذا فكل ما يمكنني في هذا الأمر هو القيام بتصوير زهرة أو وردة واحدة تمثل جميع الأزاهير والورود. فكيف يمكن بصورة ميتة لزهرة واحدة تصوير جمال بستان بأكمله… بستان بزهوره ووروده، مع أن لكل زهرة لونها، ولكل وردة جمالها الخاص بها؟.. من الواضح استحالة هذا الأمر. ومع هذا فإنني أعتقد بضرورة إظهار مثل هذه الجرأة لدعوة أرباب القلوب والعلم كي يسجلوا ملحمة العصر هذه ويشرحوها. فإن استطاعت محاولتنا هذه دفع بعض أرباب الهمة إلى البدء في هذه المهمة، فإن محاولتنا تكون قد وصلت إلى هدفها.

لقد أصبحت الكلمة الآن لأصحاب الأرواح النيرة. ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد، وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود.

إذن فمهما كان الأسلوب ومهما كان مستوى التعبير فيجب شرح هذه الملحمة، لإيداعها في ضمير التاريخ أولاً، ثم لأداء حق ودَيْن الوفاء للأبطال الذين نذروا أنفسهم لها وأنجزوها وحققوها. فإن لم يتم شرح هذا النسيم الرقيق الذي هب في أرجاء الأرض في وقت قصير ولم تتم الإشادة بهذا الهواء الدافئ، وبهذا الفكر النضر، وبموجات الحب وقبول الآخر التي تموجت بها أرجاء الأرض… فإن هذا يكون جحوداً وقلة وفاء، وضعفاً في الشهامة، وعدم احترام وتوقير لمثل هذه الخصال السامية.
إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي، فَقَدْ قررت فئة قليلة ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعاً في وقت لم يخطر فيه هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريو الرسل “خضنا دروب الحب فنحن مجانين…” (الشاعر نيكاري)… ذهبوا وهم في ميعة الشباب يحملون آمالاً وأشواقاً دنيوية تشتعل في قلب كل شاب والتي لها جاذبية لا تقاوَم فضلا عن هذه الفترة النضرة من مرحلة الشاب، ذهبوا في عصر طفت فيه المادية والأحاسيس الجسمانية على المشاعر الإنسانية، وهم يكبتون تلك المشاعر والآمال المشتعلة في صدورهم باشتياق إلى وصال آخر أقوى منها وأكثر التهاباً وتوهجاً وهم ينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها ويسيحون حاملين في أفئدتهم تلك الجذوة المشتعلة من نشوة الرعيل الأول.

وجوههم المتلألئة كالمشاعل تُذكر بالله أينما حلوا وأينما وجدوا وأينما أقاموا

لم تكن هذه السياحة من ذلك النوع الذي يهيم به الشاب في مرحلة مراهقته خلف حلم ملكة جمال مزيفة ويعيش طوال عمره بسذاجة في أوهام وخيالات آلام الفراق، مبتعداً عن ذاتيته ولا يستطيع الوصول أبداً إلى مبتغاه. أما سياحة هؤلاء الأفذاذ فسياحة واعية ملؤها المشاعر الصادقة والإرادة الحازمة والإخلاص الصادق العميق… ويمكنكم أن تعبروا عن هذا، بأنهم المستعلون على كل حب سواه تعالى، المجاهدون في سبيل دعوتهم، ديناميكيتهم الإيمان دوماً، وأحوالهم الطبيعية العشق، ومبتغاهم نذر أنفسهم لله تعالى، وأسوتهم النور الخالد صلى الله عليه وسلم. أجل!.. لم يتعثر هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق، فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربانيون، وشقي بهم الشياطين.. ساروا دون خيل ولا عربة، لا سلاح لهم ولا ذخيرة… الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم… وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى… حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة… وصلوا في عفتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى.
وأسالوا في كل مكان وصلوا إليه نورا دفّاقا من الأزل.. أشعلوا المواقد في كل جانب في لهيبها وجمرتها ودخانها الأمنَ والطمأنينة.. تهاوى سحر الظلم والظلام.. طار نوم خفافيش الإلحاد.. تعالت شكايات واحتجاجات الظلام كله.. تصاعدت موجات الكذب والافتراء والزور.. وارتفع ضجيج الفكر الفج والتعصب.. توجهت السهام نحو الفكر الحر، ووضعت المصائد المميتة للإيمان. ولكن جميع هذه المحاولات اليائسة كانت سدًى، فقد انتشر النور في كل الأرجاء، ولف النور الآتي من الأزل بأكملها. لقد أصبح العهد عهد الأرواح النيرة وصار الزمان زمانهم.. صحيح أنه بقي بعض آثار الغبار والدخان، وكان الأفق مضبباً، ولكن كان سحر الظلام والفكر الفج قد زال وانقضى.
لقد أصبحت الكلمة الآن لأصحاب الأرواح النيرة. ستكتشف الإنسانية بهم نفسها من جديد، وستأخذ مكانها الصحيح في كيان الوجود. لذا كان هؤلاء هم الجيل المرتقب. هم المنتظرون من قبل الإنسانية في كل مكان.. أما هم كانوا بخلقهم الرفيع وبتواضعهم الجم وبعبوديتهم لله وتعظيمهم له، وبتوقيرهم للناس واحترامهم لهم، ينتظرون من خلال فرجة باب رحمة الرحمن الرحيم واللحظة التي سينهمر فيها النور الإلهي عليهم. إنهم جيل المستقبل وأَبناءَهُ أيا كان تقييم الناس إياهم، فالمستقبل المنوّر حامل بأسرارهم. كل فرد من هؤلاء السعداء حواري الإحياء والإنقاذ ضمن طاقته، حاملين بأيديهم باقات من ورود الصداقة، وعلى شفاههم أناشيد الأخوة. أقوالهم الفاصلة -كالفيصل المهنَّد- تغذَّى من شلاّل القرآن، أحاديثهم ذات أبعاد أخروية. كلماتهم وأحاديثهم كانت تبيد الظلام وتزيله دون أن تجرح أحداً. إنها كانت تطبع صوت خرير ماء الكوثر في الآذان، دون أن تترك أثر حسرةٍ عند أحد.

من يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى.

والحقيقة أن هؤلاء لا يحتاجون لا إلى يد ولا إلى لسان، لأن وجوههم المتلألئة كالمشاعل تُذكر بالله أينما حلوا وأينما وجدوا وأينما أقاموا، وأن السحر المترشح من سيماهم الطاهرة والمعاني الناضحة من أحوالهم كان من القوة بحيث تخرس كل بيان أمامه، وتدفع الألسن إلى مراقبة صامتة. لم يكن ضياؤهم، بل حتى ظلالهم تحرق الفراشات الحوامة حولهم، أو نورهم يبهر عيون من يقترب من منازلهم ويعشيها. وكما في المثل: “لسان الحال أبين من لسان القال”. كان هؤلاء هم الممثلين لصحة هذا القول. لقد وجد في هذه الدنيا في كل عهد أناس خيّرون وأبرار، إلا أن أداء هؤلاء وأسلوبهم كان شيئاً مختلفاً تماماً. ولا أستطيع أن أقول أن ليس لهم مثيل أو نظير. ولكن إن قيل لي: “إذن فهات” لم أستطع الرد حالاً، بل ربما قلت: “إن هؤلاء يشبهون الملائكة الأطهار”.
لا يهم بمن نشبه أصحاب هذه الأرواح النيرة، فقد قامت الأنوار التي نشروها بتحويل الصحارى القاحلة إلى جَنَّاتِ عدن، وتحول كثير من أصحاب الأرواح المظلمة كالفحم إلى أرواح شفافة ومضيئة كالألماس، والجبلات والأمزجة والطبائع الخشنة والغليظة والهابطة ارتفعت وسمت. لذا فقد كان من الطبيعي أن يتحدث الجميع عنهم الآن، وينتظروا ويترقبوا تحقق الأخوة والمسامحة التي وعدوا بها وسعوا من أجلها. ولا يوجد من يعاديهم ويثيروا الأقاويل والشبهات حولهم سوى الذين لا يميزون بين الظلام والنور، الذين قضوا كل حياتهم في سجن الجسد ومطالبه. الخفافيش منـزعجة منهم. الذئاب والوحوش تكشر لهم عن أنيابها. الذين فقدوا رشدهم وصوابهم في ضيق وانزعاج منهم. وأنا أرى -من جهة- هذا أمراً طبيعياً، وأقول: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾(الإسراء:84).
ومهما كان من أمر قيام بعضهم بإطفاء الشموع هنا أو هناك، فهم ينيرون القلوب الظامئة أينما حلوا أو ارتحلوا، وينبهون الفِطر السليمة والطاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويسقون السجايا السليمة القيم الإنسانية.
إنني على يقين بأنه بعد أن تم تجاوز العراقيل الموجودة بين القارات بفضل القرآن وتحقق حوار مستند إلى الحب وإلى التوقير تأسست وستتأسس أرضية لتفاهم جديد بفضل هؤلاء الربانيين. لقد عرفت الإنسانية في الماضي أمتنا بأنها أمة مستبشِرة قد ضحك لها حظها، فما المانع أن تكون اليوم أيضاً كما كان الحال من قبل؟ بينما نرى أن شلالاً من الحب بدأ يهدر فعلاً بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة.
من يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بُعداً مختلفاً للآخر، وتوضع نهاية للنـزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء -الذي لم يتحقق تماماً حتى الآن- في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على جميع البشرية. لن يُنْتَهَكَ عرض، ولن يُداسَ على شرف، بل سيسود الاحترام القلوبَ، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر. سيصبح الأقوياء عادلين. وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة. لن يُعْتَقَلَ أحد لمجرد الظن. لن يتعرض مسكن أحد ولا محل عمله لهجوم. لن تُرَاقَ دَمُ أي برئ. لن يبكي أي مظلوم. سيبجل الجميعُ اللهَ تعالى وسيحبُّ الناسَ. حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هي معبر للجنة فردوساً لا يُمَلُّ العيشُ فيه.
_________________
(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.