جهود الخدمة في مناطق الصراع

تتبنى تجربة “الخدمة” “قيمًا إنسانية سامية متسقة مع المعايير والأعراف الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنها احترام حقوق الإنسان، والمساواة بين المواطنين دون أي تمييز، واحترام المعتقدات وتقبّل الآخر، والانفتاح على الحوار، وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، والثقة في المجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات”.. وتعد هذه القيم التي تؤمن بها “الخدمة” منطلقًا إيجابيًّا تعمل من خلاله على رأب الصدع في كل المناطق التي تنشط فيها، وسوف نوضح هنا رؤية الخدمة الفكرية والتطبيقية التي عملت من خلالها على معالجة الآثار السلبية الناجمة عن النزاع المسلح في مناطق جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، وإعادة تأهيل الإنسان والعمران لتجفيف منابع الإرهاب، والوصول بالمنطقة إلى المستوى المنشود من الازدهار الحضاري.


الرؤية الفكرية


تُعدُّّ الرسالة المطوّلة التي بعث بها الأستاذ “فتح الله كولن” عام ٢٠٠٨م إلى رئيس الوزراء التركي آنذاك “رجب طيب أردوغان”، بمثابة وثيقة حية تعبر عن رؤية الأستاذ -ومن ثم الخدمة- في كيفية القضاء على الأزمة الكردية من جذورها في شرق تركيا، وإحلال قيم الأمن والسلام والتعايش والتنمية والازدهار، محل الإرهاب والترويع وإزهاق الأرواح وتخريب المدن وتشريد المجتمعات وتبديد الممتلكات.
أوضح الأستاذ “كولن” في بداية رسالته، أن الحل الأمثل لعلاج أي مشكلة والتصدي لحلها، لا يكون بإزهاق الأرواح وهدم المنازل على أصحابها وإحراقهم فيها وإثارة الفوضى وإشعال الفتن وتأجيج الصراعات، إنما ينبغي التصدي لها بنور العقل والحكمة، وتغليب جانب الرحمة على جانب الانتقام والتنكيل. وتضمنت مقترحاته لحل هذه المشكلة ما يأتي:


أ-الإعمار: يجب أن تتركز أولوية الحل، على مسألة إعمار المنطقة (المقصود بها محافظات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا) بحيث تصبح مركز جذب، من خلال العمل على تنمية المنطقة لإعادة بنائها وإحيائها بصورة متكاملة، حتى تعود مركزًا هامًّا للحضارة والازدهار، وترتقي إلى مستوى من العمران يغبطها عليه الجميع، ومن ثم يشعر سكان هذه المناطق بالرضى عن أوضاعهم، والسعادة بتواجدهم فيها كما كان عليه الحال في التاريخ. وينبغي بذل كافة الجهود بجدية تامة وإخلاص كامل، لتحقيق التنمية المستدامة وتحويل المدن الشرقية إلى حواضر زاهرة.


بـ-التعليم: ينبغي أن يُنظر إلى مسألة التعليم في المنطقة بشكل جدّي؛ لأن حلَّها سيحل تلقائيًّا مشاكل أخرى عديدة. كما يجب التركيز على نوعية المعلمين الذين يُعيَّنون للتدريس في هذه المناطق، إذ عليهم أن يتلقوا تدريبًا خاصًّا يؤهلهم للتضحية حتى بأنفسهم من أجل تعليم إخوانهم هناك، وينبغي أيضًا أن يذهبوا إليها دون أن يفكروا بالعودة إلى مدنهم، بل ينبغي أن يفكروا بأنهم ذهبوا ليموتوا هناك ويدفنوا هناك. ينبغي إرسال معلمين أكفاء يمتازون بروح الإيثار والبذل، ويحملون أهدافًا سامية وغايات نبيلة، لينشئوا جيلاً متوازنًا سليمًا إذا توفرت لديهم المؤسسة التربوية المتكاملة. وسوف تكون شهادات طلاب هذه المدارس -وخاصة صغار السن منهم- عن معلميهم هؤلاء، شديدة التأثير في نفوس ذويهم، وسيكون لها وقعها الإيجابي في تليين مشاعر الأهالي، وبعث الثقة في نفوس أهل شرق تركيا كافة إزاء أهل غرب تركيا.


جـ-السماح بتدريس اللغة الأم “الكردية” والتحدث بها: لقد اقترح العلامة “بديع الزمان سعيد النورسي” مشروعًا بتأسيس جامعة باسم “مدرسة الزهراء” في مدينة وان شرقي تركيا منذ عهد المشروطية (الدستور) ١٩٠٨م. كما اقترح أن تُدَرَّس اللغات الثلاث “العربية والتركية والكردية” جنبًا إلى جنب في تلك الجامعة، على أساس أن يكون تدريس العربية فرضًا والتركية واجبًا والكردية جائزًا، وهو ما نكرر اقتراحه اليوم كجزء من الحل للقضية الكردية، أن تكون اللغة الكردية لغة اختيارية في مدارس جنوب شرق تركيا، وكذلك يجب أن تُنشأ إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية، لأن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعًا لأي مساومة سياسية. وهذه الأنشطة التربوية ستُسهم في منع الصعود إلى الجبال، والمقصود هنا منع التحاق الشباب بحزب العمال الكردستاني، وهذا ما حدث فعلاً.


د-الرعاية الصحية: ينبغي الاهتمام بالرعاية الصحية عبر توفير مؤسسات ومراكز صحية في هذه المناطق. ويمكن تخصيص طبيب ممارس عام لكل قرية كردية. ويمكن لهؤلاء الأطباء إلقاء دروسٍ ومحاضرات في المدارس حول الطب الوقائي لرفع مستوى الوعي الصحي، والحيلولة دون حدوث بيئات قابلة لأمراض شتى. ولا شك أن اختلاط الأطباء بالعائلات من خلال الممارسة المهنية من جهة، وعن طريق الأطفال الذين يدرّسونهم من جهة أخرى، سيسهم في غرس أفكار وآمال ورؤى إيجابية في نفوس أهالي تلك المناطق.


هـ-إزالة الانطباع الخاطئ عن الجيش التركي: إن تعيين جنود وضباط من القوات المسلحة يحسنون التواصل مع أهالي المنطقة والاندماج معهم، يعمل على إزالة الصورة النمطية الخاطئة التي تشكلت في أذهان الشعب الكردي عن الجيش التركي عبر عقود؛ فالجيش في الذهنية الشعبية هو مدبِّر الانقلابات على الديمقراطية دائمًا، وهو الذي يمارس أصنافًا من الاضطهاد والقمع.


و-الاستقرار الأمني بلا عنف: ينبغي العمل على انتقاء ضباط شرطة شرفاء جادين في عملهم يتسمون بشخصية قوية، ويقدسون واجبهم الوظيفي، ويتحلَّون بمشاعر البذل والعطاء، ولديهم الحماسة لبث الأمن والطمأنينة في قلوب الناس؛ ليذهبوا وليكونوا نماذج حقيقية للأمن الحقيقي عبر مد جسور التواصل الإنساني مع المواطنين الأكراد، وممارسة الرياضة مع الأطفال إن أمكن، يقدمون لهم هدايا، ويقيمون علاقات وطيدة مع الشباب. فتَلقّيِ أحد هؤلاء الأطفال هدية من أخيه الشرطي، ستجعله لا ينظر إلى دولته بعين سيئة من ناحية، وتقيه شر الانخداع بعصابات المافيا والإرهاب المحرّضة على الجيش والشرطة من ناحية أخرى.


ز-تحسين السلك الإداري: إن عملية انتقاء واختيار كوادر السلك الإداري من محافظين وولاة، ومساعدي ولاة وآخرين، لا تقل أهمية عن العناصر سالفة الذكر، ولذلك ينبغي أن يتم انتقاء النخبة الإدارية بعناية خاصة من بين الكفاءات التي تحمل أهدافًا نبيلة، وتسيطر على أنانيّتها، وتقدم حياة الآخرين على حياتها وسعادتهم على سعادتها؛ همُّهم الأول تقديم خدمة المواطنين على مصالحهم الشخصية، ويتسمون بالصبر والتواضع وحسن المعاملة. وعلى الدولة أن تحضّهم على الاختلاط بالشعب في أسواقهم ومنازلهم ودور عباداتهم ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية ومقراتهم الأمنية وثكناتهم العسكرية وهيآتهم الإدارية.


حـ-انتقاء كوادر دينية محلية مدرَّبة: ينبغي أن يوظَّف رجال دين يتقنون لغة أهل المنطقة، ويعرفون طبيعة الشعب الكردي بكل تفاصيلها، يجيدون تحليل سكان المنطقة وقراءتهم قراءة صحيحة بتفاعل عاطفي جادّ، ويتعاملون معهم عن معرفة ودراية.


ط-توفير الدعم المعنوي والتثقيفي والأمني للوجهاء الدينيين في المنطقة: في شرق تركيا للقيادات الدينية من مشايخ وعلماء ووجهاء دينيين، مكانة كبيرة، فلو أقيمت دورات تثقيفية لهم تقدم رؤية الحكومة هذه، وتوفر كافة التدابير الأمنية اللازمة لهم، وتحثُّهم على رفع معنويات الأهالي، لأسهَم ذلك في رفع الوعي في هذه المناطق. ولو أضيف إلى ذلك توظيف الدعاة الشباب الذين تَربّوا على أيدي هؤلاء العلماء أئمةً وخطباء في مساجد مختلفة من شرق تركيا، لعمَّت الطمأنينة كافة الأرجاء.


يـ-إفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني للعمل بتلك المناطق: ينبغي ألا يُعالَج الإشكال من خلال تدابير سياسية وعسكرية وإدارية فحسب، وألا تُترَكَ المهمةُ للمسؤولين الحكوميين فقط، بل ينبغي إفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني، وأن تَبذُلَ كافةُ شرائح المجتمع أقصى ما في وسعها، من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، ونبذ كافة أسباب الفُرقة والنزاع والشقاق.


وهذه المقترحات التي وُثِّقت في رسالة الأستاذ “كولن” هي رؤيته لحل القضية الكردية، ونجد أنها تتوافق مع النهج العام للحركة وآليات عملها. وقد لعبت الحركة دورًا إيجابيًّا في الدفع بعملية التحوّل الديمقراطي بتركيا قدمًا، بعد “الانقلاب الناعم” بالبلاد عام 1997م، وسعت للقضاء على التحديات التي تواجه تقدم المجتمع التركي، وهي “الجهل” و”الفقر” و”المرض” و”الانشقاقات” داخل المجتمع، ولهذا وجَّه كولن محبِّيه إلى العمل في المجتمع المدني على مواجهة تلك التحديات؛ من خلال الاستثمار في التعليم والإعلام والعمل الإغاثي والخيري، لترسيخ هوية للمجتمع التركي تَقبَل بالاختلافات، وتجمع بين مختلف التوجهات والتناقضات، مثل الإسلامي والعلماني، اليميني واليساري، القومي التركي والقومي الكردي.. وهكذا.


الجهود الميدانية في الشرق التركي


وقد تنوعت جهود الخدمة لمعالجة المسألة الكردية في هذه المناطق إلى عدة مجالات مختلفة تشمل ما يأتي:
أ- الجهود التعليمية:
كانت اجتماعات “الشاي” الدورية بمثابة عامل للتوعية بين السكان المحليين الذين اتفقوا على أن الدولة غير قادرة على توفير الخدمات التعليمية الضرورية في كل محافظات جنوب شرق تركيا، وكان بعضهم يعتقد أن الدولة التركية العلمانية حرمت عمدًا المنطقة من المدارس وغيرها من الخدمات الأساسية لمعاقبة سكانها الأكراد.. والنتيجة أن عدد الشباب العاطلين وغير المتعلمين في تلك المناطق يزداد باطراد، ويشكلون المصدر الرئيسي للانضمام لحزب العمال الكردستاني المسلح؛ فاتفق السكان المحليون والمتطوعون من “الخدمة”، على أن يتحملوا مسؤولية معالجة مشكلة التعليم في تلك المناطق، ثم انتشرت الفكرة على نطاق أوسع في أوساط السكان المحليين حتى وصلت إلى مسامع رجال الأعمال الأكراد الأثرياء في إسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبرى، فسارعوا إلى تأييدها وقدموا الدعم المادي اللازم لإنشاء مؤسسات تعليمية، وبالفعل أَسست “الخدمة” مئات المنشآت التعليمية في المحافظات الكردية.
كانت أول المؤسسات التعليمية التي أسستها الخدمة في الشرق التركي، هي مراكز التأهيل الجامعي في محافظتي “ديار بكر” و”أورفا” عام 1988م، التي تم تمويلها من قبل رجال الأعمال الأكراد المحليين الذين قاموا بتطوير علاقات الصداقة من خلال “محادثات الشاي الأسبوعية” بينهم، ثم بدأ التوسع في إنشاء المؤسسات التعليمية المختلفة،

بدءًا من الحضانة ورياض الأطفال، وانتهاء بالمؤسسات الجامعية المختلفة، ومن ذلك على سبيل المثال:
لم تقتصر المؤسسات التعليمية على المدارس الإعدادية والثانوية، بل ابتكرت حركة الخدمة ما أطلق عليه “قاعات القراءة” أو صالات المطالعة، وهي بمثابة مكتبات عامة مجانية مفتوحة للقراءة والاستذكار طوال العام، وبها عدد من المتطوعين يقدمون الدعم المدرسي والنفسي للطلاب المترددين على هذه المكتبات. وقد أنشأت الخدمة 25 قاعة للقراءة والمطالعة في ديار بكر وحدها، تقدم خدماتها لأكثر من 3000 طالبٍ سنويًّا. وبحلول عام 2009م، بلغ العدد الإجمالي لمؤسسات التعليم في المحافظات الكردية نحو 289 مؤسسة تقدم خدماتها لنحو 84282 طالبًا.


هذا إلى جانب “داخليات” أو مساكن للطلاب التي أسست في البداية بشكل محدود، وكان يشرف عليها عدد من المتطوعين يسيرونها ببرامج محددة في التربية والتعليم والسلوك، ثم ما لبثت هذه المؤسسات أن انتشرت بعدما لمس أهالي المنطقة التغيرات الإيجابية في سلوك أبنائهم وتفوقهم الدراسي، حتى عمَّت هذه المساكن أغلب المدن والمناطق في شرق تركيا، بل فتحت حتى في بعض القرى، وكان القائمون عليها شباب أغلبهم من غرب تركيا، ليساعد ذلك على الاندماج المجتمعي بين الشرق والغرب، ويعزز من شعور ضرورة الوحدة ونبذ فكرة الانفصال.


بـ- الجهود الإغاثية:
لم تكتفِ الخدمة بالمؤسسات التعليمية فقط، بل عملت على محاربة الفقر في تلك المحافظات عبر فتح فروع جديدة لمنظمة “هل من مغيث؟” الخيرية التابعة لها، حيث افتتحت عام 2004م أول فروعها في جنوب شرق البلاد، وكان لها دور مهم عام 2006م، خاصة بعد الفيضانات الشديدة التي تعرضت لها المحافظات الكردية، حيث وزَّعت معونات قُدِّرت بحوالي 2 مليون يورو، وقدَّمت مساعدات لنحو 17 ألف أسرة عام 2006م و60 ألف أسرة عام 2007م.


جـ- الجهود الاجتماعية:
دعا الأستاذ كولن في دروسه الأسبوعية ومواعظه الدورية، إلى تطوير أواصر العلاقة بين شعوب الشرق والغرب التركي، فبدأت على إثر ذلك فعاليات الأخوة المتمثلة فيما يأتي:
1- توأمة المدن: وتعني أن يتكفل أهالي مدينة من مدن الغرب (من المتطوعين في الخدمة والمحبين لأنشطتها) بكل احتياجات مدينة من مدن الشرق التركي؛ سواء في المشاريع التجارية على مستوى رجال الأعمال، أو المنح الدراسية للطلاب، أو الرعاية الإنسانية والصحية للمحتاجين منهم، وذبح الأضاحي والفعاليات الرمضانية، ودعوة أهالي المدينتين بعضهم البعض للتواصل والتزاور، وإنشاء شراكات تجارية وتعليمية واجتماعية مختلفة.. ومن ذلك التوأمة بين مدينتي “بورصه” و”ماردين”، و”إسطنبول” و”ديار بكر، و”إزمير” و”بتليس”.. وهكذا.


2- توأمة المدارس: وتعني أن تتآخى إحدى مدارس الخدمة الخاصة المتواجدة في منطقة من المناطق، مع مدرستين أو ثلاث مدارس حكومية من مدارس الشرق التركي، ومن ثم تقوم بتوفير كل ما يلزم لهذه المدارس من وسائل تعليمية متطورة، وإقامة دورات تدريبية لرفع كفاءة المعلمين والمعلمات في هذه المدارس، ومنح المتفوقين والمتفوقات من طلاب هذه المدارس منحًا تعليمية متنوعة، وتخصيص مقاعد مجانية في مدارس الخدمة الخاصة ذات المستوى العالي لطلاب وطالبات مدن الشرق ذات الأغلبية الكردية بنسب تصل إلى 15 في المائة، هذا فضلاً عن ترتيب رحلات علمية وثقافية مجانية بشكل دوري، لزيارة المتاحف والمعالم الأثرية في المدن الكبرى في تركيا، مثل إسطنبول، وبورصه، وإزمير.


3- توأمة العائلات: وتعني أن تقوم بعض الأسر -وخاصة أسر رجال الأعمال والميسورين ماديًّا- بالتآخي مع بعض العائلات في الشرق التركي، وتنظم هذه العائلات مع بعضها البعض برامج تواصل يتزاورون فيها، ويتكافلون فيما بينهم ماديًّا ومعنويًّا وفق روح الأخوة والتعاون، وردم الفجوات النفسية والاجتماعية التي تكونت عبر السنوات بفعل العوامل المختلفة.


د- الجهود الاقتصادية:
لطالما كانت مناطق الشرق التركي ذات الأغلبية الكردية واعدة باقتصاديات جيدة، بسبب كثرة ووفرة الثروات الطبيعية الموجودة فيها، ووفرة الأيدي العاملة وقلة تكلفتها، ولكن الإرهاب كان يقف حائلاً أمام أي مشروع واعد يستغل هذه الطاقات والإمكانات، ويسهم في القضاء على أبرز مشاكل المنطقة وهي “البطالة” التي كانت تدفع بالشباب إلى الالتحاق بعصابات المافيا، أو العصابات الإرهابية المسلحة، مما كان يفاقم من مشكلات المنطقة. ولكن بالجهود التجارية المنظمة التي قامت بها تجربة الخدمة، تم تحجيم كثير من هذه المشكلات.
كما عملت الخدمة على تشجيع المستثمرين الكبار من الأكراد، الذين كانت لهم مشاريع ضخمة في المدن التركية الكبرى للاستثمار في مناطقهم، وتحمل مسؤولياتهم في هذا الاستثمار.


هـ- الجهود الثقافية:
ذكر الأستاذ كولن في رسالته إلى رئيس الوزراء التي تحدثنا عنها سابقًا: “أن اللغة الكردية ينبغي أن تكون لغة اختيارية في مدارس جنوب شرق تركيا، وكذلك يجب أن تُنشأ إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية، لأن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعًا لأي مساومة سياسية”، ورغم أن هذه التوصية كانت موجهة في الأساس إلى الحكومة، فإن المتطوعين من أبناء الخدمة قد سارعوا إلى تنفيذ هذه التوصية، وأنشأوا أول قناة تلفزيونية خاصة ناطقة باللغة الكردية لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة عام 2010م، وأطلق عليها “دنيا تي في”، هذا إلى جانب محطة إذاعية.


خاتمة


وقد اكتسبت تلك التجربة تميزها في أنها ابتكرت آليات جديدة لمعالجة النزاع المسلح، حيث بدأت بمعالجة جوهر الأزمة وهو “الإنسان” عبر الاستثمار في تعليم الشباب الكردي وإيجاد فرص عمل مناسبة لهم، ثم رفع مستوى الوعي الثقافي لديهم، ليصبح أمامهم فرص أخرى غير البديل المسلح الساعي لتحقيق حلم الانفصال بعيد المنال، الذي إذا تحقق سيبدأ معه سلسلة جديدة من المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية، وربما الاقتتال على الهوية أو العرقية أو الطائفية. ولذا فإن ما فعلته “الخدمة” أنها قدمت للأكراد بديلاً جديدًا في الحياة، غير الموت الذي يقدمه لهم استمرار النزاع المسلح.


وجدير بالذكر أن السلطة الحاكمة الحالية بقيادة “أردوغان”، منذ أحداث قضية الفساد في 17 و25 ديسمبر 2013م، وبعد اتهام هذه الحكومة -بلا أي سند أو دليل- الخدمة بتدبير انقلاب مدني قضائي ضدها، قامت بإغلاق مئات المدارس، وصالات المطالعة، وجمعيات رجال الأعمال الناشطة في هذه المناطق وفي كل تركيا، وفصلت المعلمين والمعلمات من وظائفهم، وصعدت إجراءاتها بعد الانقلاب المزعوم في يونيو 2016م، فاعتقلت كل من له أدنى صلة بـ”الخدمة” كرديًّا كان أو تركيًَّا.. وتوقفت تمامًا كل جهود وأنشطة الخدمة في هذه المناطق، وعادت الحلول الأمنية تطرح نفسها من جديد، ولا سيما بعد اعتقال السياسيين الأكراد، وإسقاط عضوية نوابهم المنتخبين ديمقراطيًّا من البرلمان.. وصارت المنطقة بؤرة للصراع من جديد بعدما كانت على وشك الحل النهائي نتيجة الجهود السالف ذكرها سياسيًّا واجتماعيًّا.


والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، كيف ستنعكس هذه الإجراءات على شرقي تركيا في المدى القريب والمتوسط والبعيد، في ظل غياب أقوى فاعل مدني حقق إنجازات ملموسة على أرض الواقع؟ وهل ستستطيع الحكومة الحالية سدَّ هذا الفراغ الكبير الذي أحدثه غياب “الخدمة” كفاعل مدني رئيسي في هذه المناطق؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام لاحقًا.