أحدث الإسلام نقلة هائلة في بنية تشكيل العقل، فجعل منه عقلاً متألقاً، متوهجاً، فاعلاً، قادراً على التحقق والإنجاز والإبداع. وقد قام هذا الدين بهدم وتنقية لما كان من معيقات عقلية، وتقاليد فكرية، ودعاوى ذهنية، ثم كان البناءً والتحلية. وأصبح على كل منتمِ جاد لهذا الدين تصحيح تصوراته، وتكريس معتقداته، وتخليص عقله من السطحيات والشبهات، وتنمية الأصول والكليات. فضلاً عن وضع عقله وكيانه، وقدراته ومعاملاته وفق توجه واحد، ووفاق مع خلائق الله، وسننه تعالي لينتفي الارتطام والشفافات، وتفتيت الهمم والطاقات.

كما اقتضى الانتماء للإسلام التحقق بالقناعات الثابتة: الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. ثم الشروع في عمل قلبي، عقلي، منهجي يأتي تصديقاً لما وقر في القلب، بيد أن المسافة بين الإنسان وغايات الإسلام الكبرى متطاولة ومنشودة في آن معاً، ليتم بذل الجهد والاجتهاد الطاقات للوصول لها، وتمثلها، وتحقيقها واقعًا معاشًا، وتوجد جذور وانتقالات هامة علي طريق اجتياز المسافات وإيناع الثمرات: جذور اعتقاديه، وجذور معرفية، وجذور منهجية سببية، وسننية، وتجريبية.

الجذور الاعتقادية

قوام بنية الجذور الاعتقادية: التوحيد، والألوهية، والربوبية، وتحويل التوجه العقدي والإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده رب العباد، ومن حب الأوثان -المادية والمعنوية- إلى محبة الله تعالى الذي لا تلمسه الأيدي، ولا تراه العيون، ولا تدركه الحواس، فاعتقاد قلب وعقل المسلم بخالق واحد أحد، عليم خبير، مريد قدير، سميع بصير.. نعمة تستحق الشكر. فالتعدد مدعاة للفساد والخلاف والاضطراب والتناقض والعلو، ولاسيما أن شأن الألوهية: الكبرياء والجلال، والعظمة والتفرد.

ويدرك العقل المسلم أن الواحد لا يصدر إلا عن واحد، فوحدة البناء تؤكد وحدانية الخالق سبحانه وتعالى، وكل ما اتصف بوحدة النسق والنظام والانسجام والتوازن والتقدير لا بد أن يقف ورائه واحد أحد. لأنه لو أستقل أحد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين، ولو اشتركوا تعطلت بعض صفاتهم، وتعطيل صفات الألوهية يتنافى مع جلالها وعظمتها فلابد أن يكون الإله واحدًا أحدًا. وبذلك الفهم يسهل تجاوز الحاجز المادي باتجاه الغيب، والخروج من تيه الظلمات المتعددة إلى النور الواحد الخالد، ووضع الإصر والأغلال التي أرهقت الكاهل الإنساني، وحرفت صراطه فلم يعد مستقيما، فمخالفة “الصراط المستقيم” لن يثمر سوي التيه، والضلال، والضياع، والتنافر، والتناحر. ولن يستطيع عقل التفكر، والتدبر، والتبصر، والعمل وهو يتخبط في التيه أو مصفداً في الأغلال.

الجذور المعرفية

بداية من “اقرأ”، ولمدة ثلاثة وعشرين عاماً.. تغلغلت جذور معرفية مذهلة في البينة العقلية الإسلامية. ثم توالت الآيات والنداءات: أقرأ وتدبر، أقرأ وتفكر، أقرا وتأمل، أقرا وتعقل، أقرأ وتذكر، أقرأ وتعلم، اقرأ وتعرف، أقرأ لتوقن، أقرأ لتؤمن، أقرأ فأنت إنسان، أقرأ فأنت مسلم. والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجدها عولت على العقل، ونوهت به، وألحت على استخدامه، والعمل به، والرجوع إليه. فالآيات التي تتحدث عن عظمة الله، وعظيم قدرته، وروعة مخلوقاته تنتهي عادة بمثل قوله تعالى: (لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، (أَفَلا تَعْقِلُونَ)، (لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وغيرها، ومثلها الآيات الداعية لتوحيده تعالى، أو المُشيرة لأحوال الأمم السابقة، وهكذا.

ففي مجال “العقلانية العربية الإسلامية”.. اعتبرت القواعد التي وضعها الأمام الشافعي -على سبيل المثال- في كتابه ” الرسالة” بمثابة الأساس والهيكل العام لنموذج علم منهجي، ولا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي، عن قواعد المنهج التي وضعها “ديكارت” بالنسبة لتكوين الفكر الفرنسي خاصة، والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة. ولقد أمسى الاهتمام بالتربية العقلية، وتنمية العقل على الفهم العميق، والتدبر الرشيد، والتفكير الواضح السليم، والبعد عن السطحية والضحالة في التعامل مع الأمور والمواقف والقضايا. مع الموازنة بين الأمور فلا يجنح باتجاه معين إلا إذا عرف البينة، أو الدليل. واستخدام ملكات العقل في التحليل، والمقارنة، والعمل الجاد، والبحث والتقصي؛ للوصول إلى الحق والصواب. والبعد عن التبعية المستسلمة، والانقياد الأعمى الذي يتنافى مع أصول الإسلام؛ فيكون الانقياد للمبادئ لا للأشخاص، وللحقائق لا للأشكال، وللفكرة لا للجماعة، وللمسميات لا للأسماء: “لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”.

فالجذور المعرفية لأمة” أقرأ” تجمع بين النقل والعقل، والوحي المعصوم الخالد، والاجتهاد المعرفي والعقلي. أمة “العقل الوازع” في العقيدة والتكليف، وأمة “العقل المُدرك” المُتتبع للأوامر والسُـنن الكونية الشاملة. وأمة “العقل المتأمل” المُختص بالتأمل وتقليب الأمور على وجوهها للحكم الواعي عليها واستخلاص النتائج. ثم أمة “العقل الرشيد” أعلى درجات العقل الإنساني، لكونه يعلو ويستوفى ما سبقه مع مزيد من النضج والتمام. ولمّا حث هذا الدين علي المقاربات المعرفية كان ما كان من عمل وجهد وكد وتوهج وتحضر وإنارة للبشرية. وما كانت تجليات الحضارة العربية الإسلامية لتشرق في كل مكان لولا الشعلة التي مست عقل كل عربي مسلم فدفعته إلى التألق الفكري، والإبداع المعرفي، والإنجاز التقني.

الجذور المنهجية

ركائز الجذور المنهجية ثلاثة: السببية، والسننية (القانون التاريخي)، ومنهج البحث التجريبي- الحسي. فوفق ما قرره القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فإن العقل المسلم يعتمد الرؤية السببية للظواهر والأشياء للوصول لمعرفة ملامح معجزة الخلق، ووحدانية الخالق سبحانه إذ بدون القدرة على النظر بعقلية تركيبية (وليس تبسيطية تفكيكية)، والربط بين الأسباب والمسببات فلن يكون العقل المسلم قادراً على التحقق بالقناعات الكافية. ولن يكون بمقدور آيات “الكتاب المنظور” إحداث الهزة الإيمانية العميقة الناتجة عن اكتشاف الارتباط السنني بين معجزة الخلق، وقدرة وتقدير وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

أما السننيه (الطريقة/ السيرة/ القانون الذي يحكم التاريخ) فقد سبق القرآن الكريم بالكشف عنها، وبادر بتقريرها. حيث أماط اللثام عن القوانين الدقيقة الشاملة الثابتة المطردة المتعلقة بكل ما في هذا الوجود. وكيفية خضوع كل موجود (جامد وحيّ، فرادي وجماعات) لها فلا يحيد عنها. وإلي هذا يشير الدكتور “عماد الدين خليل “في كتابه” حول إعادة تشكيل العقل المسلم “إلى أن” حركة أي مجتمع في التاريخ ليست اعتباطية بل بما ركب فيها من قوي العقل والروح والإرادة المسئولة تمام المسئولية أمام الله تعالي. بينما تحض ديمومة هذه السنن على تجاوز الأخطاء التي وقعت فيها أمم وحضارات سابقة وأدت لدمارها”.

فماذا عن جذور المنهج التجريبي الحسي، ومسئولية الحواس في التأمل والتدبر والتفكر لحقيقة المبدأ والمصير؟ لقد شكلت حركة الاستنباط والتعليل بدءًا من الصدر الأول حتى يومنا مساحة مفتوحة لتجول الفكر المسلم في الفضاء الإسلامي الواسع. كما خاطبت آيات القران الكريم، وأحاديث نبوية كثيرة أرباب العقول وندبتهم للتبصر والتأمل في حقائق الوجود (في الآفاق والأنفس). وتم إفساح المجال أمام العلماء والباحثين ليجاوبوا كل المجالات بالنظر العلمي، والتجريب المعملي، والتنقيح العقلي.

وفي هذا المضمار لا يغيب عنا الرباعية المحورية للأستاذين “بديع الزمان سعيد النورسي”، و”فتح الله كولن”: “عشق العلم، وعزم العمل، والبيئة الصالحة، والبحث المنهجي”. فكان حضور العقل المسلم في ساحة الشهود الحضاري ذي تجليات داخلية وخارجية. واتضح في الانطلاق المؤدى لشروقه، وبروز بنيته الفكرية في جوانبها المختلفة، وتركيزه على الكليات وعظائم الأمور، فتتابعت المسيرة الحضارية؛ بحضور الوعي الصحيح، واتقاد الفاعلية، والقدرة على استيعاب الظروف المحيطة، وحسن التعامل معها. وكما ترسخت “التقوى” كطاقة إيمانية فذة تشعل مصباح الضمير ليظل متوهجًا متألقًا يجافى التقصير والخطايا. ويقبل على إتقان الواجبات، وإحسان الخيرات حتى الممات، حيث يضع الإحسان المسلم المؤمن المتقي في القمة فيقبل ـ في كل شأنه ـ علي الله ويراقبه حباً ورجاءً. ولا يدبر عنه فلتهبه سياط الندم.. حسرة وجفاءً.

فلا يتصورن أحد أن الإسلام جاء ليؤكد فقط -في موقفه من العمل الحضاري- على الجوانب الروحية والأخلاقية، لكننا واجدون توجيهات عديدة تضع المجتمع المسلم في قلب العالم الطبيعي، وتدفعها كي تبذل أقصي جهدها للتنقيب عن السنن والنواميس من الذرة إلى المجرة. ومن البذرة إلى الشجرة، ومن الحشرة إلى البقرة إلخ، عقل حضاري شامل يربط بين الإيمان بالله تعالي وبين مسالة الكشف والإتقان والإحسان والإبداع، بين التلقي عنه سبحانه وبين السير قدماً في دروب الأفاق والأنفس، بين تحقيق مستوي روحي عال للإنسان على الأرض وبين تسخير الطاقات لتحقيق نفس المستوي من التقدم المادي. ولم يفصل الإسلام يوماً بين هذا وذاك والخلاصة: العقل مناط التكليف وموضع تكريم الإنسان، وبه تتحقق إرادته ليكون أهلاً لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض، وأعمارها، والتحقق بالقيم الكبرى لهذا الدين الحنيف، والوفاق والتوافق مع معطياته.