يروى أن صيادًا عاد من رحلة صيد وفيرة إلى المنزل، ففاجأه قارب يتجه نحوه، انزعج الصياد وصار يصرخ على صاحب المركب أن توقف.. لكن المحظور وقع فقد ارتطم القارب بالقارب، ثم تبين الصياد أن لا أحد كان يقود القارب الأخر، فقد كان فارغًا لذا شعر بمزيد من الأسى والحزن فلا أحد يمكنه تحمل المسؤولية، حياتنا مليئة بالمراكب السابحة على غير هدى، ومعظمها فارغة.

من السهل التفكير في أن الأخر خاطئ أو سيء، بدلاً من تقاسم المسؤولية.. ويمكن أن تشعر بالإحباط عدة مرات، لكنك لست فاشلاً حتى تبدأ في إلقاء اللوم على شخص آخر والتوقف عن المحاولة.

كما أن لعبة اللوم تقتضي أيضًا البحث عن كبش فداء لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وهكذا من السهل إلقاء اللوم على الأشخاص أو الجماعات الذين لا حول لهم ولا قوة، فمثلاً مجموعة مهمشة، تعد هدفًا سهلاً عندما لا نستطيع التعامل مع شعور بالذنب، نرغب في أن نرمي به إلى الآخرين من خلال إبراز المشاعر السيئة فيهم، والتي قمنا بإلحاقها بهم قصدًا حتى نتمكن من الظهور بشكل جيد، فنحن نعيش ثقافة اللوم والشكوى، لأن الجميع يبحثون دائمًا عن أشياء يشتكون منها، فنحن باستمرار نريد أن نكون خيرين.

إذا نحن بحاجة إلى الوعي روحيًا وماديًّا لنتمكن من آليات النهوض، نستثمر الذات الإنسانية في الوجود فنتوسع داخل فلك الحضارة، وبذلك نتخلص من حتمية السقوط والانحدار إلى حتمية النهوض في مسار الحياة العالمية، هذا التحول يتزامن مع رؤية عقلية عالمية تمتلك بصرًا حادًا يغوص في الأعماق لينتشل سر كينونتنا الغامض، خاصة أن الوعي حالة من الاستنفار العقلي والذهنية الثائرة التي تتجاوز الاعتبارات الظرفية إلى رحاب المسائل الكلية..

إن الوعي الحقيقي هو ذلك المرتكز على الشمولية والعمق التفسيري،  الذي يبحث عن النواميس والسنن الناظمة لهذا الكون، ويربط بين العلل ومعلولاتها، نعم العقل الواعي القادح لزناد فكره لا يملك تجاهل دهشته ومناهضة حب الفضول المغري باقتحام المجاهيل ومقاومة التوق الجبلي نحو سبر أغوار الأشياء، لكن إن لم يضبط ويقنن فمصيره إلى التيه والتخبط.

ولهذا فعلينا أن نسعى دائمًا إلى تفحص برامجنا وقراءة أحوالنا وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا ومع العالم، فطعم الحقيقة المطلقة أسعد وألذ من طعم الحيرة المعذبة مهما طرء على الحيرة من التمجيد.

لنقلب صفحات العالم ونقرأها من جديد علنا ننتج في قاموس الحضارة انبعاث يحتضن الحياة ويجعل من الإنسان وعيًا جديدًا يحتمل سعة العالم اللاواعي اللامنتمي وثقله المطرد. لا بد من تحديد بعدنا الذاتي في أرض الواقع، وننسى أثرنا المعكوس تحت الوصاية سنين طويلة.
لنتذكر أن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا الفكرية، فنشهد عندئذ وعي وانسجام تام مع سائر مفردات الحياة.. لنتذكر أخيرًا أننا أمة واعية قادرة على النهوض رغمًا عن جميع ما يعتريها من عارض المحنة الحاضرة… فلنتفكر بمداد العقل والايمان، بجدلية الوعي والإنسان عندها سنتجاوز لجة البحر المظلم لنصل إلى بر الأمان.

وعبر ثنايا الزمن تتشكل ملامحنا بانتظام جميل يبقينا أحسن مما كنا بانتظام متلاحق، وأية حياة مهما كانت بسيطة ستكون جميلة وممتعة إن رويت بصدق، فحين نرى الجمال نود أن نكون أمم وجماعات وشعوب وحضارات وأنساب وقبائل، فبعض المشاهد والانفعالات والأحاسيس تجعلنا نضيق بكوننا واحد، إذ لا بد من وجود أخر يقاسمنا مشهد الحياة، يحمل عنا شيئًا من فرح وسرور مباغت.

فالحياة تجربة مفعمة بالمعاناة في مسيرة عبورنا نهر الزمان، الذي نقطعه ونحن نحمل أثقال وجودنا على اكتافنا إلى أن نصل جزيرة الأمل المفقودة في أبدية جميلة متصلة بكل معاني الوجود. وكأن روح الحياة وجمالها قد اختزلت في حكمة تعطي الزهد أقصى معانيه. معاني تفجر لدينا الإحساس بالتفاؤل برغم التشرب البطيء للمأساة التي نعانيها، وفي رحلة البحث عن الذات نقطع المسافات فبيننا وبين السعادة صحاري مجهولة، وهواجس لا تنتهي…

إن الوجود المشروط غياب، ومساحة الصبر قليلة تنتهي بحرف وعلى حافة جرف، بعدها يعلن الوداع إلى غياب بنكهة الحضور، ولا زلنا تلامذة في مدرسة الدنيا نتعلم أبجديات الحياة وأسماء الواقع وجدول الضمير وكيمياء السعادة وفيزياء الوجود وفن الواقع وجمال الحقيقة.

وإنساننا يحتاج اليوم أمس الحاجة إلى خطاب روحي يوقظ فيه سبات الضمير، ويضخ النور في الإرادات الإيجابية البناءة.. نرغب دائمًا ببرمجة مسيرة المستقبل إلى إشغال مكان بين نجوم السماء قريبًا من موقع الثريا ومشهد سحر الوجود الخلاق، فلنتفكر بمداد العقل والايمان، بجدلية الوعي والإنسان.