تبصرات في الملحمة الإنسانية الكبرى

الإنسان خَلق الله العظيم وصنعه المبدع، حدث وعبرة خالدة، وفصول ملحمة فريدة في خضم هذا الوجود كله ما علمناه وما لم نعلمه، وهي ملحمة تضمنت من الأسرار الإلهية والحكم الربانية مجالات رحبة للاستبصار والتفكر لدى العقول المنيرة والمتيقظة والضمائر المشتعلة إيمانًا وتقوى وورعًا، عسى أن تكون هذه التأملات في الملحمة الإنسانية الكبرى باعثا على لزوم الرشد، وتحري الصواب في دروب الحياة التي نحن فيها، والتي تخبط فيها الكثير وحاد عن القصد الرشيد، وهذه بضاعة بخسة من تبصرات نرجو الله منها الأجر والثواب.

بداية الملحمة

شـاءت الأقدار أن توجد أيها الإنسان بعد أن لم تـكن شيئا مذكورا، تلك الحكمة الإلهية والقدرة الربانية المعجزة التي قضت أن تخرجك من عدمك وصيرتك شيئًا كائنًا يجاور مصنوعاته العجيبة المبهرة للألباب، والتي جميعها تنتظم وتتناسق لترسم لوحة العوالم ومنها هذا الكون الفريد الذي يعتبر برهانا على إعجاز صانعه ودليلا على تفرده ووحدانيته عز وجل في عليائه .

أنت أيها الإنسان صنيعة خالقك، وخلقك وتسويتك كما يشاء مبدعك يعتبر أول فصول ملحمتك، فيك نفخة من روحه جعلتك سيدًا لملائكة السماء وخليفة بعدها لسيدك الأعظم في عالم الأرض المنتظر.

المبهر حقا أيها الإنسان أنك المختار و المجتبى، ومفضل عن كثير ممن خلق الله تفضيلاً، بل الكون كل الكون من الذرة إلى المجرة مصنوع لأجلك أيها الفريد، ثم إنك لست وحيدًا في عالمك الأول وعالمك الأصلي، بل جعل لك أنيس وزوج وسكن، لتهنأ و تسعد وتمرح في جنتك التي قضى مولاك فيك: (أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)(طه:118).

هكذا أنت أيها الإنسان صنيعة خالقك، وخلقك وتسويتك كما يشاء مبدعك يعتبر أول فصول ملحمتك، فيك نفخة من روحه جعلتك سيدًا لملائكة السماء وخليفة بعدها لسيدك الأعظم في عالم الأرض المنتظر. لقد أغدق الله عليك بهبة هي عنوان تكرمك ورفعتك؛ إنها ملكة العقل و بها سوف تبحر في هذه العوالم المصنوعة التي سوف تعيش فيها فصول ملحمتك الكبرى، وبهذه الملكة ترتقي أيها الإنسان في سلم التفاضل بين الكائنات، و تهتدي بها إلى صنوف المعارف والحكم، و أرقاها معرفة خالقك وتبصرك لفضله عليك سبحانه.

الإغواء و الانزياح عن البراءة الأصلية 

عصيت أيها الإنسان خالقك ومبدعك وهي أول سقطة لك، إنها الخطيئة والفيصل الذي فصلك عن براءتك الأصلية التي جبلت عليها، إنها اللحظة التي أصيب فيها معدنك بدخن ألجأه إلى الاختبار من أجل التصفية حتى يعود بك بعد ظهور مديدة من الزمن إلى موطنك حيث جنتك، وقد خلصت وطهرت من كل الشوائب والمناتن وانمحت كل الخلائط التي كانت تصرفك عن عالمك، بتوحيدك ومناسكك وتعبدك لمولاك جل جلاله، ستغيب بسبب هذا العصيان عن جنتك المرحة عن عالمك الأصليوتجرب عالم الأرض من أجل الارتقاء من جديد، إلى أن تصل لجبلتك وبراءتك الأولى التي تمحورت حولها فصول ملحمتك وانتظمت كعقد مرصع طوى سر كينونتك، و إذا فشلت في هذا الاختبار وتلك التصفية قامت النار التي أعدها الله للجاحدين الغاوين بتطهيرك من آثامك حتى تخلص من جديد إن خلصت وتعود بعدها لموطنك، لا بد إذن أن تكافأ على خطيئتك ، تلك إرادة الإله ومشيئة خالقك النافذة، لا بد أن تخضع إلى موازين عدله و تدفع الثمن عن إنصاتك لوساوس عدوك واستجابتك لإغوائه وطمعك في الخلود الموهوم أيها الإنسان الضعيف الظلوم الجهول لنفسه.

كيف ستعود إذن أيها الإنسان بعد نفيك عن عالمك وبعد أن قضى فيك الحكم الإلهي أن تجرب حياة الأرض وارتضاها لك دار الأمانة وموطن الاختبار والتصفية لمعدنك بعد أن أصبت في براءتك الأصلية؟.

الحياة الدنيا وأمانة الاستخلاف

الأرض موطن نشأتك أيها الإنسان، وموضع استعمارك واستخلافك وكدحك، خلقت منها ولأجلك خلقت، قضى حكم الإله أن تكون دار الأمانة والعبادة والبناء والإصلاح، والاستعمار، فيها تختبر معدنك و ترتقي إلى خالقك إن أردت بضروب المناسك، وفيها تبني صروحا وعمرانا بما حباك الله من نعمة العقل والعلم، هذا هو قدرك ومشيئة ربك و سر إنسانيتك الفريدة التي تحققت بهبوطك وتبوئك هذا العالم الأرضي الذي يعتبر مسرحا لملحمتك الكبرى، لأنك الأجدر والأقدر، ولأنك عجينة العقل والحواس والغرائز، فسبحان الذي ركبك و ألف فيك هذه المصنوعات الإلهية التي صيرتك إنسانا في أحسن خلقة وأبهى حلة، وقذفك إلى هذا العالم المليء عبرا و مسرات وأحزانا.

كيف ستعود إذن أيها الإنسان بعد نفيك عن عالمك وبعد أن قضى فيك الحكم الإلهي أن تجرب حياة الأرض وارتضاها لك دار الأمانة وموطن الاختبار والتصفية لمعدنك بعد أن أصبت في براءتك الأصلية؟.

هكذا هي الدنيا تعيش فيها وكأنك في حلم كلما عشت غماره وأحداثه حتى اختلطت أحشاؤك وأحاسيسك وظننته حياة حقيقية باغثك الاستيقاظ منه ولما تنقطع تتذكر أحداثه وأحزانه ومسراته، وعدت بعدها إلى رشدك وصوابك، كذلك شأن هذه الدنيا تعيش غمارها إلى أن تستيقظ من سكرة الموت فتتبخر كل أحداثها وفصولها ، غير أنك مسئول عن جرائرك المدونة في كتابك الذي: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف:49).

أيها الإنسان أنت في دنيا وشيمتها أنها خداعة فاتنةملهمة للغرائزمحفوفة بالشهوات مرصعة بالملذات، بالرغم أنها دار التعب والنصب والاختبار، الكثير منك اغتر بزخرفتها وأسكره بريقها فمال إليها حتى أناخ رحله واستسلم لغرائزه وأبحر في اللذائذ وظن أنه فيها مخلد، ولم يلمح المصير و يتبصر عالم الخلد الأصلي: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف:176). إنه طمع الخلود يعاودك أيها الغَمْرُالذي نسي أنه جاء للدنيا كي يخرج منها ويعود إلى عالمه الأصلي، ومكوثه فيها محسوب وموزون بميزان القدر الإلهي، لم يدرك أنه غريب في عالم ليس عالمه فهذا الصنف هو أشقى الأشقياء، وأتعس التعساء.

حتمية المصير إلى العالم العلوي

الشوق فيك ساكن إلى عالمك العلوي منذ اللحظة التي خرجت منه أيها الإنسان ، إنها نزعة الروح وحنين الإياب الذي لا يكدر صفائه إلا مَنَاتينُ وخبائث هذا العالم الذي يضمحل إلى أن لا يساوي عند الله جناح بعوضة ، وهو حنين إذا لم تجد له مذاقا وتلقى له طعما ، فاعلم أن روحك أصابها شيء من عجائنه النتنة ، حتما أنت هنا في غربتك دوما سائر بفطرتك شئت أم أبيت، عميت أو تبصرت، فأنت لست عبثا ، بل فيك روح، وروحك لها أشواقا وأذواقا لموطنها الأصلي، هذا هو قدرك وتلك مشيئة مبدعك الحكيم جل شأنه وتقدس في عليائه، و الذي قضى فيك قوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيه)(الانشقاق:6).

أيها الإنسان أنت في دنيا وشيمتها أنها خداعة فاتنةملهمة للغرائزمحفوفة بالشهوات مرصعة بالملذات، بالرغم أنها دار التعب والنصب والاختبار، الكثير منك اغتر بزخرفتها وأسكره بريقها فمال إليها حتى أناخ رحله واستسلم لغرائزه وأبحر في اللذائذ وظن أنه فيها مخلد، ولم يلمح المصير

إنك سائر ولكن الطريق وعر غير أن المراد إذا كان ظاهرا و سهم الهدف صائبا هانت مشقة الطريق ، فبقدر تبصرك لضالتك ثبتت خطاك ورشدت حركاتك، وسعدت بعيشك في دنياك وأنت مشتاق لآخرتك و موطنك.

إن المشتاق لموطنه لا تسلبه اللحظات أو تسليه الفترات أو تعتريه العثرات أو الزلات، فدائما تلقاه متيقظ الإحساس، وصاح الضمير يفيض حبا وولها للحظة التي يغادر فيها غربته ويتجه حول بغيته.

اختر لنفسك طبيعة المسير إلى موطنك أيها الإنسان ، و اجهد لنفسك أن تكون في مسيرك الحتمي على خطى ثابتة لا تحيد بك عن درب الخلاص من براثين هذا العالم المليء بالمنعرجات والحفر ، وتيقن أن أعمالك في دنياك مرآة لحياتك في عالم السماء، إلا أن تلامسك رحمة مبدعك ، فتعفو عن هول جرائرك ، واعلم أن ملازمتك للخير والحق موصلك لفرحتك وسعادتك ، ومزاولتك ضروب الشر قائدك إلى خسرانك.

كيف تهنأ في دنياك إذن أيها الضعيف الفقير إلى لطف ورحمة خالقك، إذا لم تربط مرادك بالمصير؟ حتما سيخنقك ضيق الزمان ويصغر فيك العمر حتى يصير لا شيء أمام رحابة المتبصر بامتداد الزمان والمكان في عالم الغيب المحتوم ، إنك في الجحيم وترقب الجحيم المستعر إذا عشت بلا مصير، ترقب النهاية ويفزعك خيالها حتى تستحيل فزعا على الدوام ، يسكنك الهم ويخيم عليك الألم، فياله من ضنك وبعده عمى.

أترضى أن يجري بك الزمان أيها المغرور، وأنت راقد حاصرت إدراكك في زاوية ضيقة، فبقيت مسجون نزواتك ورغباتك الزائفة، وتطلعاتك التي إذا عرضتها على عالم الغيب تبدو فارغة من أي محتوى، ولا تنضح بأي جدوى.

منك من قاس عمره بعمر دنياه، فوجد الأيام والشهور والسنين تنفلت منه انفلاتا، وتبقى الأماني أماني، وكم منك غادر ولما تنقطع أمانيه، إن الشقي من أنسته أيام دنياه في موطنه ، فعمل لأجلها وكد وتعب من أجل إرضاء نزواته ورغباته، فيا عجبا لمن يعيش الطيش والعبث في دنياه، وهو حتما سيخبر بجريرته ويحاسب على عثراته.

أيها الإنسان لقد آن الأوان أن توسع من حدود إدراكك وتجعل لها امتدادت في زمان الغيب ومكانه، إنه مصيرك الحتمي فبأي روح تلقى مولاك وبأي وجه تطلع وبأي مدخر تتبوء مقعدك؟.

طلائع التوديع لعالم الدنيا الفاني

الموت حقيقة وجودية ومرحلة يقينية وأمر وقضاء الإله النافذ, كل نفس يقضي عليها الموت، إنه النهاية الحتمية لمسيرك في عالم الدنيا، لا بد أن تلاحقك كيفما كنت وأينما كنت، وبدون الموت لا ينقدح في الذهن أي معنى من مرورك في هذا العالم الأرضي، إذ الموت هو الذي يعطي لحياتك كل المعنى، هذه هي الحقيقة التي وإن تغافل عنها الكثير ممن عذبوا أنفسهم بالأوهام، غير أنها تبقى إرادة الله النافذة وقدره المحتوم الذي طبعا سوف تتفهمه لو أصغيت لنداء فطرتك وهمس روحك وأشواقها.

أيها الإنسان اعلم أنك جبلت على أن لا تطيق العيش بدون ملاحقة الموت لك ، ولا يمكن أن تهنأ في دنياك وتستشعر لذة الحياة وتتذوق طعمها وتتفهم معنى كينونتك إذا لم تكن لك نهاية تخيم على خيالك بتذكرها دوما ترشد وتستقيم وتتفهم فلسفة وجودك.

إن حياتك السفلية تأبى الدوام ويعذبها أن تخلد في عالم الزوال لأن روحك تنفر من ضيق زمان هذا العالم ويجذبها الشوق دوما إلى الرحيل، إلى لحظة البداية لحياة الخلد الحقيقي.

أيها الإنسان اعلم أنك جبلت على أن لا تطيق العيش بدون ملاحقة الموت لك ، ولا يمكن أن تهنأ في دنياك وتستشعر لذة الحياة وتتذوق طعمها وتتفهم معنى كينونتك إذا لم تكن لك نهاية تخيم على خيالك بتذكرها دوما ترشد وتستقيم وتتفهم فلسفة وجودك.

إنك يا إنسان في سجن الدنيا إلى أن تذوق حريتك بموتتك التي تعتبر لحظة الانعتاق من الضيق والضيم والألم والنصب والشقاء و الصخب ومحنة الغرائز وتخمة اللذائذ، وكل نقائص وقبائح هذا العالم الزائل، إلى رحابة الحياة وبحبوحتها، إلى الراحة و الصفاء والنعيم الحقيقي والفرح، إنها أجواء الجنة حيث موطنك الأصلي .

أيها الإنسان المغرور الغافل الذي سجن نفسه في دنياه، إن الموت هو اللحظة التي ينطفئ فيها طيفك، و يأفل نجمك الساطع الذي ظل يبرق لسنين مضت، إنها الحقيقة المرة التي تقلب موازينك كلما لاحها بصرك إذا كنت ممن فسدت أذواقهم وانحرفت أشواقهما وجعلوا دنياهم منتهى أملهم وبغيتهم، اللحظة التي ستوقظك من سكرتك وتعرفك بقدر نفسك، و تضمحل معها كل الأماني وتتبخر فيها كل الأحلام، و يقف معها خط الزمن الذي سجنت نفسك فيه، وينقلب الخلود الموهوم الذي خيم على كثير من الغافلين إلى نهاية مفاجئة مباغتة تسكن معها كل الحركات وتخبو كل المبتغيات.

اللحظة التي يتحـطم فيها كبرياؤك وغرورك وشهامتك، أين نخوتك؟ ألم تكن تأبى الإهانة !؟ وتأبى أن تكون أضعف ، أجبن، أفقر … !؟ واليوم أنت كل هذا وذلك ممد لا يسمع لك حسيسا و لا همسا، كنت أيها المغرور تريد كل الامتيازات لنفسك ربما تحسد، تظلم ، تحقر، تريد لنفسك كل شيء، يؤلمك عيش الملوك وتتمناه لنفسك ، تفكر دائما في المزيد ، وتريد الأفضل، أين كل هذا اليوم أيها المغرور؟ أنسيت أنك في حلم!؟ آن الأوان إذن أن تستيقظ ، لماذا أنت اليوم مندهش؟ ألم تخبر بالساعة!؟ أم يأتيك حسيسها!؟ لماذا أنت محطم؟ كل شيء فيك ميت ، أين أعمالك ؟  مشاريعك؟ لماذا لا تواصل؟ لاشك لك أهداف كثيرة لم تحققها، لماذا أنت عاجز  عن الحركة؟ ما الذي يجري لك أيها المسكين؟.

إنه الموت الفيصل الحتمي الذي سينهي فصول ملحمتك الأولى. إنه مرحلة الانعطاف و بداية الملحمة الإنسانية الكبرى في عالم الغيب و الخلد وعالم السماء والملكوت. أتراها كيف تكون هذه الملحمة؟:(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(الإسراء71-72).