تاريخ الخط العربي

لا تتوفر أي معلومات دقيقة وحاسمة عن استحداث الخط واستعمال الكتابة متى؟ وأين كانت أول مرة؟

كل ما توصل إليه البحث العلمي المعاصر أن الكتابة متوغلة في القديم قدم التاريخ البشري على الأرض، لكنها ظلت تتطور وتتغير حتى استقرت على صورتها النهائية وأشكالها المتعددة التي نراها فيها اليوم، وقد نشأت لحاجة الإنسان إلى تبادل أفكاره بين بني الإنسان ونقل ما يراود خاطره، ورغبته في تسجيل الوقائع والأحداث.

قال الخطاط محمد عزت: ” إن أقدم صور الكتابة والخطوط مستمدة من صور الحيوانات أو آلات الإنسان البدائي وهذه الصور تعرف بالخط الرسمي أو الكتابة عن طريق التصوير، فيها تقليد لصور وأجزاء عن حيوانات كالوعل والسمك وعن الآلات والأسلحة كالرمح والقوارب الخشبية.”

فلما دخل الإنسان التمدن والرقي تغيرت صور تلك الخطوط من الصور إلى الرموز فأصبح يرمز إلى بنات أفكاره وما يراود خاطره عن طريق رموز خاصة تدل عليها، تلك الأفكار.

أما الكتابة العربية فإن البحث في أصولها أمر في غاية التعقيد بسبب تاريخها الطويل والتصاقها بكتابات قديمة. لكن أقدم ما وصل إليه البحث العلمي والله أعلم، في أن نشأتها كانت في شبه جزيرة سيناء، إذ اكتشفت نقوش بخط يقرب من الخط المصري الهيروغليفي سنة 1905م. وقد تمكن المستشرق أبريت من حل بعض رموزها سنة 1948م، فكان أهم ما خرج به هو أن الألف باء السينائية تحتوي على 28 حرفًا، وأن هذه المناطق كانت تابعة للعالم العربي.

ثم إن هذه الحروف انتشرت فيما بعد بين الكنعانيين في شمال البلاد وأهالي مدين في الشرق، ولا يوجد بحث دقيق يبين الطريق التي سلكتها الكتابة العربية إلى الجزيرة العربية، إلا أن الرأي السائد أن العرب أخذوا كتابتهم عن الأنباط، وأن الملاحظ الدقيق ليجد تشابهًا بين الحروف التي كتبت بالخط النبطي مع خطي الثلث والنسخ.

وقد قيل: أول من وضع الخط العربي مرامر بن مرة، وقيل عامر بن جدرة وقيل أسلم بن سدرة.

قال ابن خلكان: والصحيح عند أهل العلم أن أول من خط هو مرامر بن مرة من أهل الأنبار. وقيل إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس، قال الأصمعي: ذكروا أن قريشًا سئلوا: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الأنبار.

وقال هشام بن محمد السائب: تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار إلى مكة وتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية، فتعلم منه حرب ومنه ابنه سفيان ومنه ابن أخيه سيدنا معاوية رضي الله عنه. ثم انتشرت في قريش وهو الخط الكوفي الذي استنبط منه الأقلام التي هي الآن.”

يقول إن تاريخ الكتابة العربية تاريخ شائك، فالكتابة العربية هي الأخت الصغرى في منظومة الأبجديات السامية، التي تعتمد على الأصوات الساكنة، والمقاطع المتحركة الطويلة، وكانت نشأة هذه الكتابة في صحراء دائمة التغير.

ولم يتم تطوير الكتابة العربية، في شبه الجزيرة العربية نظرًا لبعدها عن التمدن والرقي الحضاري الذي كان عند أقوام دون أقوام، وبالرغم من ذلك فإن الكتابة عمومًا قد حظيت بأهمية بالغة على مر العصور القديمة والحديثة. فهي وسيلة لضبط الوقائع وتواريخ الأحداث المهمة؛ لهذا فقد تبوأت الصدارة الأولى في الاهتمام والعناية لما جاء الإسلام وفي شتى الميادين العلمية ومختلف العلوم.

في عهد الرسالة

في بداية الدعوة الإسلامية نجد بعض الوثائق القديمة تبين المظهر البسيط للخط العربي في الرسائل التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل بالأساس على ابتعاد العرب عن ممارسة الخط، وهو الأمر الذي انتبه له النبي صلى الله عليه وسلم مبكرًا فجعل فداء بعض من أسرى بدر هو تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة. وقد أقبل المسلمون على ذلك الأمر. مما مكنهم من تدوين ما كان ينزل من القرآن في صحف متفرقة عند كل واحد منهم وهكذا بدأت رقعة تعلم الخط العربي تنتشر في أوساط المسلمين بسبب ارتباطها بالوحي.

وقد عرف بعض من الصحابة باسم “كتاب الوحي” الذين كانوا يحفظون ما يتلوه عليهم رسول الله ثم بعد ذلك يعمدون إلى تدوين الآيات مباشرة عقب نزولها في أماكنها من السور التي كان يحددها لهم. وقد كتب القرآن كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كل ما يكتب يوضع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وبعد استشهاد عدد كبير من حفظة الوحي، في حروب الردة، أمر أبو بكر الصديق زيد بن ثابت الأنصاري بجمع القرآن في مصحف واحد وهو من كتاب الوحي وحفاظ القرآن، فاستعان زيد بعدد من الصحابة الذين كتبوا معه القرآن في صحف سلمت إلى أبي بكر يومئذ. فلما جاء عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه قرر جمع القرآن في مصحف واحد، ويوجد إلى حد الآن نسخ منه في متاحف إسطنبول ومصر والعراق…، مصاحف منسوبة للخليفة عثمان مكتوبة بالخط الكوفي وأخرى للإمام على رضي الله عنهما.

نلاحظ أن الخط العربي من حيث الاهتمام والتطوير يرتبط ارتباطًا شديدا بالقرآن من حيث العناية والاهتمام. فبعد أن كثر المعتنقون للإسلام من العجم بدأ اللحن في اللغة وشاعت أخطاء في القراءة العربية والقرآن الكريم، فأدخل أبو الأسود الدؤلي نقاط الإعراب على القرآن. وزيادة في التسهيل قام بعده نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر بوضع الإعجام على الأحرف المتشابهة ثم قام الخليل بن أحمد الفراهيدي بوضع الحركات النهائية التي أعطت الحروف شخصيتها البارزة، وهي التي بقيت عليها إلى الآن.

  بعد اتساع رقعة الإسلام

كلما زادت رقعة الفتوحات الإسلامية تتسع إلا وزاد معها نمو الخط العربي تميزا وتطورا، لما اكتسبه من ارتباط بالدين الإسلامي عموما والقرآن خصوصا، ولما يتجلى به من مرونة وأشكال فنية تتناغم وعبقرية الخطاط المبدع الذي صنع منها جمالا، “ثم اتسعت رقعة الخط، فامتدت إلى الكتب والمصاحف، وبلغ من الروعة والجمال مبلغا لم يتح من قبل لأي خط في المعمورة أن يضارعه، ويصل إلى ما وصل إليه خطنا العربي من سحر خلاب.

وهكذا وجدت الكتابة العربية فرصة للانتشار جنبًا إلى جنبٍ مع الفتوحات الإسلامية…فأصبح الخط العربي خط الأمم المختلفة التي اعتنقت الإسلام… ومن هنا صحت تسمية الخط العربي بالخط الإسلامي، وقد دفع الإيمان بالمسلمين إلى تجويد الخط في كتابة المصاحف، فجمعوا إلى جمال المعنى جمال رسم الكلمات، وهكذا اكتسب الخط العربي الاهتمام والعناية. إذ تحيط به هالة من القداسة. فإذا ذكر القرآن ذكر الخط الذي يكتب به القرآن”.

أهم الرواد في تاريخ الخط العربي

على مر عصور التاريخ نجد الرواد هم الفئة التي كرست حياتها للنهوض بالبشرية، في ناحية من نواحي الحياة الإنسانية الراقية فانتقت أساليب ميسرة تدفع بركب الحضارة الإنسانية إلى الأمام.

ومن هؤلاء الذين تميزوا في العصر الإسلامي، واعتبروا من عمالقة الخط العربي “كتاب الوحي” في عصر الخلافة الراشدة. ثم برز الخطاط خالد بن الهياج وقطبة المحرر في العصر الأموي، وقد تميز غير أن التاريخ لم يحفظ لنا إلا هؤلاء، إذ بفضلهم برز من يكون خلافا لهم في عهد الخلافة العباسية التي اعتبر عصرها عصر الخط العربي. ثم برز الوزير بن مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي. فهؤلاء هم أساتذة الخط وكل من جاء بعدهم فهو تلميذ لهم وإن جدد وطور ما وجد. كما برز آخرون أمثال الضحاك وابن عجلان الدمشقي وإسحاق بن حماد وإبراهيم الشجري.

– ابن مقلة: ولد ببغداد، بدأ حياته عاملاً للخراج في فارس، فاستوزره فيما بعد الخليفة المقتدر بالله ثم الخليفة القاهر بالله ثم الخليفة الراضي بالله، وقد حظي بمكانة كبيرة كخطاط، ويعد أول من وضع معايير للحروف العربية وهندسة الخط العربي وقواعده باعتماد النقط لضبط الحروف، وقد سميت بميزان الخط ونجد كل الخطاطين إلى عصرنا تبع لما صنع ابن مقلة.

إذا فهو المهندس الأول والوحيد الذي قنن الخط، وقد سماه الثعالبي بتحفة الخطاطين. توفي بالسجن على حالة من التدهور والإهمال والتدهور الصحي في شوال سنة 328هـ عن سن ناهز 58 عام.

– ابن البواب: أبو الحسن علاء بن هلال من مشاهير الخط بالعراق في العصر العباسي كان واسع المعرفة بالفقه الإسلامي، قيل إنه كتب القرآن 64 مرة.

كما قيل إنه اخترع خط الريحاني والمحقق الذي يشبه خط الثلث وقد أسس مدرسة للخطوط. من أهم إنجازاته في الخط، تهذيب طريقة ابن مقلة، حتى صار الخط العربي على يده أكثر بهجة في حلة مبدعة الجمال.

ويعد ابن البواب أول من استعمل التعابير للدلالة على اتجاه القلم المنكب والمستلقي والمنسطح والمنتصب والمستقيم الصاعد. وقد تتلمذ على يديه ياقوت المستعصمي الذي أصبح فيما بعد من فطاحل الخطاطين العرب.  يقول المستعصمي: الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية، إن جودت قلمك جودت خطك وإن أهملت قلمك أهملت خطك.

فقد ظل الخط الكوفي موضع التداول حتى القرن الرابع هجري ثم تشعب منه الثلث ثم النسخ الذي كتب لهما الحياة دون غيرهما من الخطوط إذ فاق عدد أنواع الخطوط الثلاثين خطا.

“لم تكتب الحياة للخطوط الجديدة إلى جانب النسخ والثلث إلا للديواني والريحاني والتعليق والرقعة والسياقة فانتشرت واشتهرت وللأتراك العثمانيين اليد العليا في إسداء جل الخدمات للخط العربي وتطوره وتنميقه، فعلى أيدي خطاطي الترك بلغ الخط العربي شأنا كبيرا في مضمار التطور”.