تأملات معمارية في المسجد الكبير بـ”بورصة”

ركبنا العبّارة من مدينة إسطنبول انطلاقًا إ لى مدينة بورصة العريقة عَبْر بحر مرمرة، مع مجموعة من الإخوة الأتراك والمصريين. كان يومًا جميلاً مشمسًا… وكنتُ في شوق لزيارة مدينة بورصة العريقة، ورؤية شوارعها ومبانيها التاريخية، وجبلها الشاهق الأشم.
وبعد تناول الغداء في أحد المطاعم الأنيقة الذي استمتعنا فيه بتناول وجبة شهية من “كباب الإسكندر” كما يطلقون عليه في بورصة، انطلقنا إلى المسجد الكبير (أُوْلُو جامع) والذي يعدّ أول جامع كبير بناه العثمانيون عام 1399م، والذي قام بتصميمه المعماري “علي نصار” على مساحة 3165 مترًا مربعًا، ويتسع لما يقرب من 4500 مصلّ. ويمتاز هذا المسجد باحتوائه على عشرين قبة مميزة في تفاصيلها، كما يحتوي على 211 نافذة؛ 152 منها موجودة على قباب المسجد المختلفة. وللمسجد ثلاثة مداخل بالإضافة إلى مدخل خاص كان مخصصًا لدخول السلطان لأداء الصلاة في مقصورة خاصة به.

لماذا عشرون قبة؟

في عام 1396م قام ملك المجر وحلفاؤه الأوروبيون بمهاجمة قلعة “نيكوبوليس” (Nicopolis) بجيش كبير، وكانت تلك القلعة تابعة للعثمانيين في ذلك الوقت. وبناء على طلب قائد القلعة قام السلطان العثماني “بيازيد” بتجهيز جيشه، للدفاع عن القلعة وصدّ هجوم ملك المجر وحلفائه. ونذر “بيازيد” في دعائه بعد الصلاة أن يبني 20 مسجدًا إذا وفّقه الله سبحانه وتعالى لهزيمة أعدائه والانتصار عليهم.
وبعد أن انتصر “بيازيد” في المعركة وعاد إلى مدينة بورصة، اقترح عليه شيخه ومستشاره “أمير سلطان”، أن يبني مسجدًا واحدًا كبيرًا له عشرون قبة يستخدم في صلاة الجمعة، بدلاً من بناء عشرين مسجدًا صغيرًا، وفاءً لنذره. وراقت الفكرة لـ”بيازيد” وقبِلها ثم شرع في بناء هذ الجامع الكبير في بورصة، بحيث أصبحت كل قبة من قبابه وكأنها تكافئ مسجدًا صغيرًا.

الكتابات الخطية بالمسجد

يلفت نظر الزائر فور ولوجه إلى قاعة الصلاة، وجود 132 لوحة خطية معلقة وثابتة تزين جدران وأعمدة المسجد، وقد بقيت من أصل 192 لوحة خطية كانت موجودة بالمسجد. ويرجع تاريخ اللوحات المعلقة إلى حوالي 150 عامًا خلت، واللوحات الثابتة يرجع تاريخها من 100 إلى 150 عامًا مضت.
وبذلك يتميز هذا الجامع المهيب بأنه بمثابة متحف أو صالة عرض للخطوط العربية المختلفة، وبخاصة أن تلك اللوحات الخطية، تركز على موضوعات ذات صبغة دينية يأتى على رأسها لفظ الجلالة “الله”، مع بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى جانب بعض الحكم المأثورة.
وعلى حد علمي، فإنه لم يَحْتوِ مسجد في العالم الاسلامي على كل تلك اللوحات الخطية العربية المميزة، والتي أعطت للمسجد رونقًا خاصًا يُدخل السكينة والصفاء على من يرى تلك الكتابات، كما يغذّي الأرواح والنفوس التي تقرأها، إلى جانب المتعة البصرية الناتجة عن تتبع أسلوب الكتابة الفني والزخرفي، والذي يُبرز المعاني الإيمانية العميقة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المختارة.
لقد ركّزت تلك الكتابات على فكرةِ وحدانيةِ المولى سبحانه وتعالى وهي الغاية الكبرى للإسلام. فنجد على جدار القبلة (الجدار الجنوبي للمسجد) لوحةً معلقة مكتوبٌ عليها “هو الله” تارة من اليمين وتارة أخرى بطريقة معكوسة من اليسار، بحيث تلتقي اللفظتان في منتصف اللوحة عند “هو” الضمير الدال على الذات الإلهية.
وغالبًا ما تم كتابة حرف “الواو” على كل حوائط المسجد، ولكن أجملها وأكثرها تعبيرًا عن وحدانية الله، لوحة خطية ثابتة بجدار القبلة أيضًا يطلق عليها “الواو الخضراء”، وأهم ما يميزها، انتهاء حرف الواو واتصالها بزهرة التيوليب (Tulip). و”التيوليب” أو “اللَّالَة” عند العثمانيين، ترمز إلى وحدانية الله الواحد الأحد.
وعلى نفس الجدار وضعت لوحت معلقة، مرسوم عليها المسجد الحرام تتوسطه الكعبة المشرفة. ويتميز هذا الرسم الثلاثي الأبعاد، بإمكانية رؤية باب الكعبة وقباب المسجد الحرام متجهة إلى الناظر إليها من أيِّ زاوية، وكأنها تدعوه إلى زيارتها كلما وَلَّى وجهه شطر تلك اللوحة الرائعة.
أما الآيات القرآنية الكريمة فلها نصيب الأسد في تلك الكتابات. فقد علقت لوحة فوق الباب الموجود بالجدار الشرقي لقاعة الصلاة، مكتوب عليها قوله تعالى: “بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظ”، وعلى يمين الباب لوحة مكتوب عليها قوله تعالى: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر”، وعلى يسار الباب، الحديث النبوي الشريف: “أكمل المؤمنين إيمانًا أَحْسَنهم خُلُقًا”.
ومن نماذج اللوحات الثابتة بنفس الجدار السابق والتي استطاع فيها الخطاط التعبيرَ عن روعة المعاني القرآنية عن طريق اختلاف مقياس الخط وكذلك حرف “الواو”، ما يَظهر في اللوحة التي احتوت على قوله تعالى: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون”؛ فالآية الكريمة تكرر فيها حرف “الواو” أربعة مرات، اختار الخطاط المبدع للأولى حجمًا أكبر وهي التي تسبق لفظ الجلالة، ثم بدأ حجم “الواوات” الأخرى يتناقص حتى الوصول إلى الواو الرابعة وهي أصغرها وهي التي تسبق قوله تعالى: “ولكن المنافقين”… فالخطاط هنا عبّر عن قدرِ وقيمةِ كل مذكور في تلك الآية بما يتناسب معه، فـ”الواو” الكبرى تتناسب مع الذات الإلهية، والأصغر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فالتي تليها صغرًا مع المؤمنين، أما “الواو” الصغرى والأخيرة فهي التي تسبق ذكر عدم علم المنافقين. روعة في التعبير عن المعنى العميق الوارد في تلك الآية الكريمة، والتي تمثل عمق الفهم والتدبر لتلك المعاني والتعبير عنها من خلال الكتابة والخط العربي.
ومن اللوحات الخطية المدهشة في مبناها ومعناها، بالجدار الشمالي للمسجد، جزء من آية قرآنية وردت في سورة الحج وهي قوله تعالى: “من كل فجٍّ عميق”، حيث تم كتابة الكلمات الأربع بحيث ترتبط معًا وتبدو وكأنها كلمة واحدة، ترتبط وتتطابق عند الحروف الأخيرة لتلك الكلمات الأربع (النون، اللام، الجيم، القاف)، الحروف الأربعة وكأنها تراكمت فوق بعضها البعض، لتعطي إحساسًا بالعمق والبعد المذكور في معنى الآية القرآنية، حيث إن كلمة “عميق” في اللغة العربية معناها البَعيد إلى أسفل.
وتظهر أهمية الحرف وأسلوب استخدامه بطرق فنية مختلفة ومبتكرة في وقت واحد في العديد من لوحات المسجد، ومن أكثرها تعبيرًا عن ذلك، لوحتان ثابتتان، إحداهما على الجدار الغربي للمسجد، وهي ترى من بعيد على هيئة كتابةٍ دائريةٍ لعدد تسعة أحرف متكررة لحرف “السين”. وإذا ما اقتَربْتَ منها وقرأتَها، وجدتَها هي آيات آخر سورِ المصحف وهي سورة “الناس”، والتي تنتهي كل آية فيها بحرف “السين” والذي يحتضن بداخله باقي الآية. أما اللوحة الثانية فمكتوبة على أحد أعمدة المسجد والحرف الأساس فيها هو “الواو”، حيث يتكرر ثمانية منها على هيئة كتابة دائرية تحتضن بداخلها الآيات الأولى من سورة “الشمس”.
إن ما ذكرناه هنا يعتبر غيضًا من فيض… فاللوحات الخطية الكثيرة الأخرى الموجودة في المسجد، لا تقل روعة ولا جمالاً عما أشرنا إليه آنفًا، وهو ما يحتاج إلى مقالات أخرى لا تحصى، حتى يمكن أن نوفّي تلك الإبداعات الخطية حقها من الذكر والتأمل والاستمتاع.

المجموعة الشمسية على جناحى المنبر

إذا كانت حوائط المسجد وأعمدته قد ازدانت بتلك الكتابات الخطية الرائعة التي عبّرت عن العديد من المعاني القرآنية العميقة المسطورة في القرآن الكريم، فإن جانبي المنبر الخشبي للمسجد، قد ازدانتا بزخارف خشبية على هيئة أطباق نجمية ذات حشوات خشبية، يتوسط بعض تلك الأطباق أنصاف كُرات خشبية بارزة تمثّل المجموعة الشمسية.
فقد تم التعبير عن الشمس وكل كواكب المجموعة الشمسية، بأنصاف كُرات خشبية تتناسب في أحجامها مع الأحجام الحقيقية للشمس وتلك الكواكب، كما رُوعي في اختيار أماكنها أن تكون المسافات بينها متناسبة مع المسافات الحقيقة التي تفصل الشمس عن تلك الكواكب أيضًا. وبذلك اجتمع في المسجد الكبير بـ”بورصة”، كتابة آيات قرآنية من الكتاب المسطور وبعض آيات الكون المنظور المتمثلة في هذا العمل الفني والعلمي البديع في آن واحد، في إشارة هامة إلى التكامل بين الإيمان والعلم في الإسلام.
إن هذا التعبير الفني المدهش عن طريق تلك الأطباق النجمية السابحة على جانبي المنبر، تعكس مدى التقدم العلمي عند علماء المسلمين الأوائل في تلك العصور الزاهرة، حيث إن صناعة وابتكار فكرةِ هذا المنبر، كانت قبل 231 عامًا من اكتشاف العالم الأوروبي “جاليليو” لحقيقة كُرويّة الأرض ودورانها حول الشمس، كما تسبق فكرة اكتشاف الأمريكان لكوكب “بلوتو” عام 1953م، حيث نفاجأ بوجوده على جناح هذا المنبر قبل حوالي 631 عامًا مضت قبل هذا الاكتشاف.

قصة النافورة بصحن المسجد

يتوسط صحن المسجد نافورة بديعة من الرخام الأبيض وضعت بعد بناء المسجد بحوالي 220 سنة، وهي تحتوي على ثلاثة وثلاثين مخرجًا للماء، موزعة على ثلاثة مستويات. وعند خروج الماء من تلك الفتحات، فإن صوته يبعث على السكينة والاسترخاء داخل نفوس المصلّين، كما يعمل على امتصاص جزيئات الغبار والدخان بصحن المسجد، إلى جانب استخدام هذا الماء في الوضوء والطهارة، فتجتمع سكينة الباطن مع طهارة الظاهر.ولتلك النافورة وظيفة بيئية هامة؛ حيث تقوم بدور التكييف الطبيعي لهواء المسجد عن طريق ترطيب الهواء الداخل من القبة المفتوحة بلا نوافذ والتى تعلو تلك النافورة تمامًا. إلى جانب أنه في الماضي حيث كانت تستخدم الشموع والمصابيح التقليدية، فكان الماء يقوم بامتصاص نواتج دخان ما يقرب من 700 مصباح وشمعة كانت تستخدم في إضاءة المسجد قبل استخدام الثريات والمصابيح الكهربائية الحديثة.تلك لمحات وتأملات خاطفة لبعض ما رأيته بالمسجد الكبير بـ”بورصة”، هذا المسجد الذي جمع بين روعة وضخامة البناء، وروحانيات التعبير عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة، والتي جعلت حوائط وأعمدة المسجد تنطق بلا لسان بروائع البيان، لتجعل من هذا البنيان ليس فقط مكانًا للصلاة، ولكن صرحًا معماريًّا للتفكر والتأمل في آيات الرحمن وعجائب الأكوان.

(*) كلية الآثار، جامعة القاهرة / مصر.