تنهمر دموع سعادتهم بعد إخلاص نياتهم، وإحسان إفعالهم، وخشيتهم من ربهم. لقد رققوا قلوبهم بالذكر، وغمروها بالشكر، وتركوا الإنشغالات، وبعدوا عن الغفلات. ونراهم تشرئب قلوبهم وعقولهم إلى ما وراء الحقائق الجزئية، إلى أخري كلية أزلية. هي ديدنهم الشاغل من اقتدائهم بشريعة رسولهم، وسُنة نبيهم، وإرتوائهم من العلوم والمعارف، وحولها “يـُدندنون” في جوف ليل آسر، وصُبح يوم عاطر. يجمعون بين علم التحليل والتعليل، ورد النتائج لمسبباتها، وربط الخيوط ولم شعثها، وبين بوراق الإيمان وفيوض الوجدان، وجرعات الصبر الجميل، ورشفات الرضا بالقليل. معارف تمضي بالنفوس إلي الصفاء، وينكشف عن عين قلبها حجاب، وينفتح لها كل باب، تذوق حقائق، وتخطر لها دقائق، وتشف لها رقائق. فتنسكب دموعها أنهاراً، وتملأ الصحاري إعماراً.

فبعد “عمارة الباطن”.. تأتي “عمارة الظاهر”: نفعاً، وتحضراً، وتطبباً، وتزيناً، وتجملاً. يصفهم “ابن خلدون”:”وكان لهم شأن في الاهتمام بالعلم، وبذل الجهد، وتشييد المدارس، واختطاط الزوايا والربط.. وسد الثغور وبذل النفوس. وظهر أهل النفوس الراقية، والعلوم الموهوبة”. هم السعداء الذين تخلوا عن مثالبهم، وأكملوا نقائصهم، وعالجوا الأمراض المهلكة، والآفات المردية. تهفو أشواق نفوسهم وتسمو إلى أعلى عتدالاً وتوازنًا. وتصفية من الشوائب العالقة: الكبر، والعجب، والفخر…

“ناشدتكم الله أن نهبّ معًا لنكون سقّائي دموعٍ في هذه الصحراء المترامية الأطراف، فنقيم موائد زاهية حديثة العهد بالسماء، تقدم للرائح والغادي فواكه غضّة طريّة نضيرة، كلماتها شبوب شوق ولهيب أشجان، ونغماتها أنين قلب ونحيب وجدان”

                                                                                                              فتح الله كولن

كما تحلوا بفضائلهم، وأحسنوا معاملاتهم، وتنقلوا في مقامات التوبة، والورع، والزهد، والرضا، والتوكل … ثم دخول في أحوال المحبة، والخوف، والرجاء، والشوق… حتى تتحقق لهم “المعارف” إلهامًا، وكشفًا. مقامات أحبوها، وأحوال جاهدوها، ومدارج نحو الكمال سلكوها. تطمئن لها قلوبهم، وتَنشرح بها صّدورهم، وتصفو بها نفوسهم. وهم يعلمون أن لا سعادة كاملة مُطلقة إلا السعادة الأخروية الباقية. لقد امتزجت سعادتهم بلذاتهم، فالسعادة واللذة قد يجتمعان من جهة ويفترقان من أخرى. لكن اللذة تُقطف قطفًا وتذهب نشوتها فور إنتهاء سببها، وربما تبعتها ندامة وتعاسة باقية، أما السعادة فتبقي فترات دائمة:”كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل من هو مكبل بشهواته؟ أم كيف يسمو من لم يتطهر من غفلاته؟ أم كيف يفهم دقائق الأسرار من لم يترك هفواته؟… فرّغ نفسك من الأغيار، تـُملأ بالمعارف والأسرار” (هكذا قال ابن عطاء السكندري).

إن إحساسهم بها أعمق وأدوم من لذات عابرة تنتهي بإنقضاء وقتها، وزوال أثرها، وقد تشتمل السعادة على قدر من ألم، كما الأم في مخاضها تعيش أسعد لحظات حياتها، وبإنتهاء تقلصات المخاض تفرح ملء قلبها، وتـُرضع وليدها، وتنام ملء جفنها. أمل بعد ألم، فرح بعد تعب، لقاء بعد شوق، عطاء بعد عناء.

ومفتاحها “معرفة النفس”، بل هو أعلى درجاتها “فمن عرف نفسه فقد عرف ربه”، “وليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟ فإن قلت: إني أعرف نفسي!، فإنما تعرف الجسم الظاهر، ولا تعرف ما في باطنك، فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك، فاجتهد في معرفة أصلك؛ حتى تعرف الطريق، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فما خُلقت لتكون أسيرها، بل لتسخرها للسفر الذي قدامك، وتجعل إحداها مركبك، والأخرى سلاحك؛ حتى تصيد بها سعادتك، وتبلغ غرضك؛ فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور؛ لأن الحق يكون عنه محجوباً، لذا فذلك السبيل وتلك المجاهدة تتيح لكل راغب في ولوج دروب المحبة، وتدرّج مدارج السلوك قبسات من نور”المعارف” تقربه من إدراك سر من أسرار الحكمة العليا؛ علم ممتنع لا يبيح “أسراره” إلا لمن كان أهلا لها، فهي ليست شرعة لكل وارد، بل دعائمه: وجوب الموافقة، وفقد المخالفة، ودوام الشوق.

وسعداء النفوس والقلوب هؤلاء.. لهم لغة خاصة، ضوابطها: التفكير، والتدبير، والتعبير. لغة علم ومعرفه، خبرة وتجربة، وحدس وإشارة، ورمز ودلالة. بل كثيرًا ما كانت لغتهم الصمت والبكاء.. بكاء العارفين السعداء.

وإذا كان الكروان والبلابل لا ينقطع شجنها حتى وإن حطّت على الغصن النادي، والورد الزاهي فكأنها خُـلقت لتصدح بنغمات الشوق الدفين، والحب والحنين”. فلم لا يبكون؟. يقول الأستاذ “كولن”: “ناشدتكم الله أن نهبّ معًا لنكون سقّائي دموعٍ في هذه الصحراء المترامية الأطراف، المتآكلة من الجفاف، فنقيم موائد زاهية حديثة العهد بالسماء، تقدم للرائح والغادي فواكه غضّة طريّة نضيرة، كلماتها شبوب شوق ولهيب أشجان، ونغماتها أنين قلب ونحيب وجدان”.

إنه “بكاء ماتع” به الحياة خضراء، والقلوب غناء، والنفوس زاهرة.. لا يُجتهد فيه ارتزاقًا، ولا نفاقًا، ولا رياء. وليس فيه فخر، ولا زهو، ولا إستعلاء. هو نبل إيماني، ووهج وجداني، فلجلاء الأسرار بهجتها، وللسعادة دموعها. دموع لتنقية النفوس مما يصيبها من شوائب وعلل، لتمسي نقية كالذهب. وإمدادها بـ” إكسير الحياة” الحقيقي، ليطول عمرها، ويخلُد ذكرها.