بناء القيم الفاضلة من مقاصد العقيدة

إن العقيدة الحقة، هي إتمام مراد الله تعالى من خلقه لهذا الكون، فلا صلاح لأمة دون عمران، والعمران مع الله تعالى؛ الاعتراف له بالتوحيد، والاستسلام له بالشرع، وعمران النفس تقديرها حق قدرها، وإعطاؤها حقها من العبادة والخضوع والمحبة لله تعالى؛ لأنها حق آكد من حقوقها، لا تكون إلا بها، وعمران ما بين الناس لا يكون إلا بالعقيدة.. عقيدة قوامها الأخلاق النبيلة والقيم الفاضلة. إنه لا وجود للعقيدة الكاملة، حتى تكون النفس حرة أبية لا تضاد الحق، بمعنى لا وجود لعقيدة كاملة حتى” تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع- متمثلة في سيادة شريعته الربانية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررا حقيقيا كاملا من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادرا من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعا متحضرا متقدما. أَو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعا ربانيا مسلما”.

إن الحديث عن مقاصد العقيدة حديث عن الأخلاق والقيم الفاضلة، فمن كملت عقيدته كملت أخلاقه.

هكذا  تتغير نظرتنا إلى العقيدة بشكل عام، باعتبار مقاصدها قيما فاضلة، قبل أن تكون واجبًا على العباد، وحقًا لله تعالى عليهم، أو واجبًا، أو حقًا فيما بينهم؛ مثل الكرامة الإنسانية، والحرية، والعبودية، والمحبة، والعدل، والعفة، والمساواة، والتكافل، والرحمة…. والقيم الفاضلة كلها، لن تتحقق عند العبد ما لم يكن مكرمًا، كريمًا، متعته العقيدة بكل مظاهر التكريم وصوره.

إن الكرامة الإنسانية أول قيمة خلقية متعت العقيدة الإنسان المؤمن بها، وهنا الحديث عن الكرامة الحقيقية الضاربة آفاق الدين والدنيا والآخرة، كرامة ترفع الإنسان إلى إدراك قيمته عند ربه الذي سواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، فالعلم بهذه الكرامة يوجب على  المكرم السعي نحو تمكين الإنسان منها، فلا يمكن الحديث عن الحرية أو العبودية أو المحبة دون إحساس العبد بكرامته؛ التي تجعله حرًا مختار، ليكون عبدًا لله أو لغيره؛ لأن العبد العاقل مهما زاده الله حرية ازداد له عبودية، ولأن المحبة تقتضي منه ذلك، ومن كان عبدًا كارهًا للعبودية، كانت حريته انعتاقًا منها؛ لأنه لا يعرف معنى أن يكون عبدًا محبًا خاضعًا.

العبودية لله تعالى بمنظور العقيدة الصحيحة، حرية ما بعدها حرية، وانعتاق من رق الأهواء والأدواء. والعبودية بهذا المعنى تفرض على العبد ألا ينسى في تعامله مع الناس أنه عبد كما أنهم عباد، فلا فرق بين هذا وذاك إلا بالتقوى، بل العبودية الحقيقية تفرض على العبد أن يوفر لغيره من العباد كامل شروط العبودية لله تعالى، فلا تقتصر النظرة المقاصدية للعبودية على التواضع للغير، وعدم إيذائهم، والتكبر عليهم، وأخذ أموالهم دون وجه حق. بل النظرة المقاصدية للعبودية، تقتضي توفير ظروف العبودية للناس، فالدولة المسلمة، بكل أجهزتها وسلطانها، تعمل على تهيئة مناخ العبادة والعبودية حتى لا تكون الحاكمية لغير الله، بل النظرة المقاصدية تقتضي من أولي الأمر – كما حدث في الزمن الجميل- بناء كنائس للمسيحين من بيت مال المسلمين؛ تحقيقا لهذا المفهوم.

والكرامة الإنسانية قبل أن تصبح حقًا، وجب النظر إليها من زاوية القيمة؛ حتى يحس العبد بقربه إلى الله، فيدرك معنى حريته، ويختار أن يكون عبدًا حرًا في عبوديته؛ لتكون خلافته لله في الأرض خلافة حقيقية، أساسها الدوام والاستمرار، ومن هنا تستمر العقيدة معطاءة، بناءة للنفوس والأمم.

إن الكرامة الإنسانية أول قيمة خلقية متعت العقيدة الإنسان المؤمن بها، كرامة ترفع الإنسان إلى إدراك قيمته عند ربه الذي سواه بيده، ونفخ فيه من روحه.

إن العقيدة بمقاصدها الربانية الموغلة في الآفاق وفي الأنفس، عقيدة محركة للنفوس، مغيرة للأوضاع، ناقلة الإنسان من الإنسانية إلى المثل العليا، أو قل إن شئت إلى عالم الملائكية، أو أعلى. كيف لا؟ وقد خلق الله تعالى الملائكة من غير حرية الاختيار، بل يفعلون ما يؤمرون، وخلق الإنسان حرًا مختارًا، فاختار القيم الفاضلة، والخلافة الفاعلة، والعبودية الكاملة، والحرية الناقلة، فتجرد من هواجس الشيطان، فأعتق نفسه من القضبان، وأدرك أعلى الجنان، ولا يزال في الأرض من الركبان.

نعم.. تبقى العقيدة عقيدة وفقط، ولو لم يأمرنا الله تعالى بالاعتبار والنظر، لما عرفنا العلماء بالسهر، و لاكتفينا بما ورثناه من الخبر والأثر، وقضينا منه الوطر، وكفى الله المؤمنين شر هذا الخطر، ولكن لما كان الأمر إلى يوم القيامة بالاجتهاد في دائرة الشرع وحصن العقيدة، كانت الأمة حافظة لدينها، مبلغة عقيدة ربها، تعرج إلى الآفاق بمقاصدها، فيصبح الواجب بالمحبة والحرية والكرامة قيمة، والحق زينة، والخوف شيمة، والرجاء همة. بهذا تتغير نظرتنا نحو العقيدة، فيرى العبد الكريم الحر أمر الله لذة، وإن كان في ظاهر بعضه ألما، وطاعته وعبادته، أو عبادته في خلقه، راحة، وإن كانت في ظاهر بعضها تعبا. أنظر إلى الزوج كم يصبر لإسعاد زوجته! وإلى الأب كم يصبر على عصيان ولده! هل يدفعهما لذلك شيء سوى المحبة التي لا مكان فيها للحقد والغضب والتأفف؟ هكذا ينبغي أن ننظر إلى العقيدة، على أنها منحة لا محنة، راحة لا عذاب، قيمة لا ضريبة، جنة لا سجن وقيد، التزام لا إلزام.

قيم أربعة أصلية

ومنه تتضح رؤيتنا نحو القيم الأربعة، التي أسميها “المقاصد العليا للعقيدة الإسلامية” وهي مقاصد أصلية، وتبقى ما سواها من القيم مقاصد تبعية، ويكفي تأمل سورة الإسراء، حتى نصل إلى تراتبية هذه القيم بدءًا بالتكريم، وانتهاء عند المحبة.

  1. آية الكرامة من سورة الإسراء:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70)
  2. آيات الحرية من سورة الإسراء: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا)(الإسراء:89)
  • وقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولاً)(الإسراء:94)
  • وقوله عز وجل: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا)(الإسراء:107)
  1. آيات العبودية من سورة الإسراء: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا * قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)(الإسراء110-107)

 

  1. آيات المحبة من سورة الكهف: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا* هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)(الكهف:13-16)

إن الحديث عن مقاصد العقيدة حديث عن الأخلاق والقيم الفاضلة، فمن كملت عقيدته كملت أخلاقه، ومن كان في أخلاقه على غير ما يهدي إليه الشرع، فإن عقيدته تبقى ناقصة وجب إتماها بالقرآن والعمل به، والتأسي بسيد الخلق، في أقواله وأفعاله وأخلاقه، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وبهذا رفع الله ذكره وأعلى قدره، صلى الله عليه وسلم.