البشرى في قلوب أهل الخير رجاء صادق، ونفحة روحية أخاذة إلى معان تروق للأرواح وتتطلع إليها النفوس، وتغير المزاج المكدود إلى مزاج يكاد يزهر بالخيرات والمسرَّات، بل إنها من أنواع العلاج لحالات قد تردَّت في مهاوي المضايق والمحن.

فقد استبشر الدَّلاَّء إثر رؤية يوسف عليه السلام وجماله الأخاذ وهو صغير في البئر، فقال: (يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)(يوسف:19). ويصف القرآن الكريم حامل القميص إلى وجه يعقوب عليه بأنه من أهل البشرى، قال الله تعالى: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)(يوسف:96)، وبهذا أمر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم  فقال: “يَسِّروا ولا تُعسِّروا وبشِّروا ولا تُنفِّروا”(رواه البخاري).

فالبشرى التي تبعثُ المسرَّة في النفوس، نفحة عطاء لسامعها بيانًا عن حسن حاله وسمو مكانته بين الناس بجميل عمله، فما عليهم إلا أن يذيعوها، وما عليه من بأسٍ أن يُسر بها خاطره، فعن أبي ذر الغفاري  قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمدُه الناسُ عليه؟ قال: “تلك عاجلُ بُشرى المؤمن” (رواه مسلم)، فهذه هي البشرى وهذا بعض جمالها.

وقد كان العرب -ولا يزالون- يستبشرون بأسباب البهجة في حنايا النفوس، ويتشاءمون بأشياء ومخلوقاتٍ لا تسرُّ الخواطر ومنها الغراب رمز التشاؤم المشهور، وربما يكون السبب في ذلك هو سواد ريشه الداكن الذي يملأ الصدر انقباضًا، ويفقد الإحساس بأي معنى مقبولٍ فضلاً عن أن يحتوي روعة أو جمالاً، بيد أن ذلك من فضل الله على الغربان في خلقتها. فمن أسرار اللون الداكن أنها تتوارى به في جنح الليل من افتراس البوم والصقور وجوارح الطير.

وربما يكون السبب أنهم درجوا على هذه الثقافة الموغلة في نبذ الغربان وتطيرهم بها، لما لها من نعوت تنسب إلى الخسة والتحقير؛ فقد ذكر الجاحظ أن “الغراب من لئام الطير وليس من كرامها، ومن بغاتها وليس من أحرارها، ومن ذوات البراثن الضعيفة والأظفار الكليلة وليس من ذوات المخالب المعقوفة والأظفار الجارحة، ومن ذوات المناقير وليس من ذوات المناسر، ويتقمم كما يتقمم بهائم الطير وضعافها”(1)، ولهذا كان من موروثاتنا الثقافية في هذا الباب:

إذا كان الغراب دليل قوم

                            يجرّ بهم على جيف الكلاب

ومن نعوته عند العرب أيضًا أنه يسمى بـ”الفاسق”، لأنه لما أرسله نوح عليه السلام ليكشف عن الماء فوجد في طريقه رمَّة فسقط عليها وترك ما أرسل إليه. ويسمى بـ”البين” لأنه إذا رحل العرب من مكان نزل فيه وزعق في أثرهم. ومن الغريب أن بين الغراب والثعلب ألفة، وذلك أنه إذا رأى الثعلب بقر بطن شاة، سقط وأكل منها معه والذئب لا يضره(2). ومن أمثال العرب: لا يرجع فلان حتى يرجع غراب نوح. ومن تشاؤم العرب بالغربان؛ أن اللسان العربي يعبر عنها في باب التمثيل لحدوث المستحيل، كما قال القائل:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

                              وصار القار كاللبن الحليب

ومن أجل تشاؤم العرب بالغراب، فقد اشتقوا من اسمه معاني الغربة والاغتراب والغريب، وتواصوا فيما بينهم أن لا شيء مما يتشاءمون منه إلا والغراب عندهم أنكد منه.

ومع ما سبق من سيء الخصال للغراب، فإن العبرة المرجوة من البيان، أن لا يتشاءم الناس من أحدٍ أو مخلوقٍ تشاؤمًا كاملاً يسدُّ عليه باب الإنصاف، فلربما يحمل للبشارة ذات يوم. كما يتفاءل العرب بصيحة الغراب إذا صاح مرتين، وربما في لحظة فارقة قد يحذِّر من ضر أو يلهم أو يدلُ على منفعة. وكذلك الأشخاص فلا ننسى -ونحن نتعامل معهم- أن لا نحمل أحدًا بذنبٍ ليس فيه، ولا نصيخ السمع للكلام المرسل في أحدٍ ما لم تظهر له على العيان أمارات صدقٍ مسفرة على أحداق العيون.

ولا شك أن مُلاحظة الغربان -بعين الحقيقة- تظهر فرائد من الفوائد المستكنّة درج الحياة الخاصة لعالمهم تعدُّ في باب البشارات لا في باب التشاؤم، ولا يرفضها الطبعُ السليم رغم نظرات التغاضب المتوهمة والموروثة بين الأجيال في الأذهان، فقد يخرجُ اللؤلؤ من الماء الأجاج. ومن هذه الفوائد بلا ترتيب أن الغراب كان دليل ستر لمن مات من أبناء آدم عليه السلام؛ بتعليم الدفن والإقبار للذي قتل أخاه، قال الله تعالى: (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ)(المائدة:31)، وذكر الطبري رحمه الله في تفسير ذلك عن الضحاك قوله: “بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: “يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب”(3).

ومن مواقف الغربان النافعة مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بخفَّين فلبس أحدَهما، ثم جاء غراب فاحتمل الآخر فرمى به فخرجت منه حيَّة، فقال عليه السلام: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبسْ خفَّيه حتى ينفُضَهما”(4).

وفي معرض البشارة بالأعصم من الغربان الذي جعله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مثلاً لأهل الجنة من النساء وإن قل عددُهن، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرِّ الظهران فإذا بغربان كثيرة، فيها غراب أعصم أحمر المنقار، فقال عليه السلام: “لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب في هذه الغِربان”(5)؛ ففي الغراب بشارة بالجنة وإن قلّ العدد. ومن بشارة الغراب الأعصم أيضًا ما ورد عن هاتف عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاءه منامًا قائلاً له: “احفر زمزم لا تنزف أبدًا ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم”(6)، فصار الغراب دالاًّ على زمزم المباركة بمنقاره، وقد ثبتت له بعض البشرى ولو في المنام.

ومن جماليات حياة الغربان، أن الحب يسود أعشاشها في حياة جماعية أشبه بالقبيلة، أو المجتمع المتناسق الذي يطلق عليه علماء الطير “المجثم”، ولديها نظم اجتماعية محكمة لا يتخطاها أفرادها، فليس لذكَر الغراب أن يعدِّد من الإناث إلا في الحالات الاستثنائية؛ كموت أليفته أو تكسير بيض وكْره، وتُحاكِم الذي ندَّ عن قوانينهم بالإبعاد والطرد، وتقوم بدفن موتاها، ولها أصوات تفهمها فيما بينها تدلُّ على المطالب والرغائب من الإنذار والنجدة أو حتى مجرد التنبيه.

فضلاً عن أن الغراب صديق الزارعين بالتقاط الحشرات والآفات الضارة من بطن الأرض شأن الهدهد وأبي قردان.

ومن جماليات الغراب أنه حاد البصر، ولذلك حينما يوصف أحد بحدة البصر يقال: “أصفى من عين الغراب”. وقد أثبتت الملاحظات الحديثة ذكاء الغربان وتفوقها على كثير من أنواع الطيور الأخرى في الفهم والاستجابة للتعلم.. والغريب أنها تجتذب للأشياء المذهبة والبراقة فتجمعها مع قطع الصابون الملوّن لاكتساب الجمال في أوكارها.

وتلك نعوت إذا جُمعت على بعضها ألقت بوشاح التميز في أحايين كثيرة لنوعٍ من الطير توسم فيه الكثير رمزًا للتشاؤم على المعنى المطلق، تمامًا كما نتشاءم من بعض البشر الذين لا ذنب لهم في باب التطير منهم إلا الحسد أو البغضاء، وربما أن بشراهم عند ربهم أنهم من أهل الإيمان في الدنيا والنعيم في الآخرة.

إن أصحاب العقول المنصفة ينظرون إلى الأشخاص بعين مقسطة لا شطط فيها ولا أطماع؛ لأن العدل إسعاف من عيون السخط التي استشرت وعمت وطمت بين الناس، ولا ينظرون بعين بعيرٍ فإن عين البعير حقودة والحقد لا يبنى مجدًا.

ويا ويل من كانت عينه متجافية على الدوام من طلبة الحق وقتما يكون الحب كلفًا والبغضُ تلفًا كما قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:

وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ

                      ولكن عين السخط تبدي المساويا

والعاقل من يبحث عن مراسيم العدل قدر طاقته في التعامل أو الحكم على المخلوقات والأشخاص. فما خلق الله تعالى شيئًا فيه ضرر كامل ولا نفع مطلق. وأصحاب النفوس المستقيمة هم المعنيون فقط باستشعار الثواب والأجر قادمًا في قلب البلوى كما يستشعرون البشارة من الغراب، كما توافيهم من المقربين والأحباب.

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.

الهوامش

(1) الحيوان، عمرو بن بحر الجاحظ، ص:314، جـ2، تحقيق: محمد عبد السلام هارون، طبعة خاصة بمكتبة الأسرة 2004م، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

(2) المستطرف في كل فنٍ مستظرف، شهاب الدين محمد الإبشيهي، ص:594، ط،1 2014م، دار ابن الجوزي، القاهرة.

(3) جامع البيان في تأويل القرآن، الإمام محمد بن جرير الطبري، ص:227، جـ5، تحقيق: أحمد محمود شاكر، ط1 2000م، مؤسسة الرسالة.

(4) فتح الغفار، القاضي الرباعي، 1/267، وقال: إسناده لا بأس به.

(5) كشف الخفا ومزيل الإلباس، إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، 2/406.

(6) البداية والنهاية، الإمام ابن كثير، نسخة مدمجة على موقع ويكي مصدر، جـ2، تجديد حفر زمزم.