الهداية النبوية وعلاجها للمشكلات الاجتماعية

تعاني المجتمعات البشرية قديمها وحديثها من مشكلات اجتماعية وحضارية. وقد جربت حلول شتى، وطرائق عدة في محاولة علاجها، وقد آن لها الأوان أن تقارب بفهم أعمق وتطبيق أسرع علاجات الهداية النبوية الخاتمة، هداية استوعبت المراحل والحالات الإنسانية، والمشكلات والأزمات البشرية، عافيةً ومرضًا، نهوضًا وسقوطًا، نصرًا وهزيمة، حركة وركودًا، اجتماعًا وتفرقًا…، لذا فقد امتلكت الإجابة الشافية علي أسبابها، وتبوأت ناصية حلولها.

الإنسان مخلوق اجتماعي له الحرية والإرادة في اختيار أفعاله، فعند ارتكابه أي جريمة عمدًا، فإنما هو بقصده وإرادته، ولذا قررت الشريعة عقوبات رادعة للمجرم، عبرة للآخرين، وزجرًا لهم، ليعم الأمن والسلم.

  • الغثائية والوهن

برز حوار استفساري من الصحابة الأبرار عن العلة وأعراضها من قول النبي “كتداعي الأكلة إلي قصعتها”، وذهب الاستفسار إلي طريق “التفسير الكمي لتلك الأزمة، وجاء تصويب الرسول، صلي الله عليه وسلم، للوضعية الحقيقية؛ وضعية “الغثائية” وتراكم معضلات “حب الدنيا وكراهية الموت”، وتنامي كل صور “الوهن” وآثاره على العلم والإيمان والعمل الزاد والدائم للاجتماع والتحضر البشري.

  • أحكام حضارية

عندما تعطي السنة النبوية حكمًا حضاريًّا وتاريخيًّا مضطردًا، فإنما تأخذ حججها من الموقف القرآني السُنني الشامل والمهيمن، وتعتمد فيما وصلت إليه على “استقراء” كلي لمنطقه الشريف في دراسته للظاهرة الاجتماعية التاريخية.فبعض الأحاديث الشريفة تقدم منطقًا سننيًّا  شاملاً يطرح السببٌ ونتيجته، وتقدم فهمًا وافيًّا للحركة التاريخية بأمثلة تمس جوانب الحياة الإنسانية.

فظهور الغلول “كمرض اجتماعي” يؤدي إلى أزمة نفسية، من مظاهرها: إلقاء الرعب في القلوب، مما يؤدي لتراكم نتائج اجتماعية غير سوية.

 إن المسلمين قادرون على هضم التراث العالمي في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والتجاوز بها إلى تحقيق المقاصد، والوظائف التي يفتقدها الغربي، الذي أوجد علمًا وأبدع وسيلة، وافتقد غاية.

وانتشار الزنا “مرض أخلاقي” يؤدي إلى نتيجة كونية تساهم في هلاك النسل. ونقص المكيال والميزان “مرض اقتصادي” يؤدي إلى أزمة معيشية هي انقطاع الرزق، وهلاك الأموال. والحكم بغير الحق “مرض سياسي” يؤدي إلى أزمة أخلاقية هي التنازع والتقاتل، ويساهم في فشو الدم المُدمر للعمران البشري. والختر بالعهد “مرض أخلاقي ونفسي” يؤدي إلى أزمة حربية وتقاتل وتسلط الأعداء، وشيوع الخوف، وفقد الأمن، وتعثر الاقتصاد، وهلاك مصالح العباد. وهذه الثنائيات المذكورة هي نماذج لسنن متحكمة في المشكلات الاجتماعية.

  • الجزاء من جنس العمل

تخط لنا الهداية النبوية “وعيًّا استدلاليًّا” آخر لمركز الداء الاجتماعي العضال: “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه”(رواه مسلم). فهذه العلل تؤثر في الحركة الاجتماعية بأكملها. فالبيع على بيع الأخر، والظلم، والخذلان، والكذب، والتحقير.. إلخ عوارض تصدر عن نفوس مريضة، وظواهر سقيمة تصنع أزمات مجتمعية. لذا فالموقع الحقيقي “التقوى ههنا” في عالم القلب، والعقل، والنفس. ولهذا يضع حدوداً أخلاقية لحفظ القلوب، وتزويدها بالضابط الروحي، والوازع الأخلاقي، لتنسجم مع سنن الله في الخلق.

وتشير الهداية النبوية إلي “جوانب سلبية” قد تؤدي لمشاكل اجتماعية خطيرة كالانتحار. فحسب منظمة الصحة العالمية فإن نسبة الانتحار ثير قلقًا متزايدًا حيث يعد ثامن سبب عالمي للوفيات، وتختلف دوافعه باختلاف البلدان والثقافات والعوامل الفردية. قال صلي الله عليه وسلم: “من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم خالدًا مُخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًا فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالداً مُخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدتُـه في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم، خالداً مُخلدا فيها أبدًا”(رواه البخاري)، بيان نبوي بليغ يبين فداحة جريمة الانتحار، والجزاء من جنس العمل ليحث الوازع الوقائي.

والإنسان مخلوق اجتماعي له الحرية والإرادة في اختيار أفعاله، فعند ارتكابه أي جريمة عمدًا، فإنما هو بقصده وإرادته، ولذا قررت الشريعة عقوبات رادعة للمجرم، عبرة للآخرين، وزجرًا لهم، ليعم الأمن والسلم. ولقد ظهرت نظريات وضعية تخالف ما سبق، فترد سبب الجريمة إلى الأحوال المحيطة بالفرد، وجنوح اجتماعي، وعمل اضطراري غير متعمد يكمن في الأحوال الحياتية والأمراض العقلية، والعسر المادي والاقتصادي، وطالبت باعتبار المجرم “مريضًا” تجب معالجته وإصلاح أحواله، وقد حازت هذه النظريات على الإعجاب، وعملت بها غالبية الدول، وألغيت العقوبات الرادعة للجرائم الأخلاقية، وتنامت أعداد السجون والمساجين، ومع ذلك فقد زادت الجرائم، واضطرت بعض الدول إلى إعادة عقوبة الإعدام بعد أن ألغتها.

إن الأزمة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية والإنسانية ليست أزمة منهج، وإنما أزمة فهم وتطبيق وتنزيل على الواقع، وإن أي معاودة للنهوض، واستئناف السير الحضاري مرهون بتقويم الواقع وفق ذلك المنهج.

وتنظر الهداية النبوية إلى علاقة الرجل بالمرأة، على أنها علاقة متكاملة لا متنافسة، ولا متصارعة، وعلى هذا بنت أحكامها المختلفة. ولكن الدراسات الوضعية الحديثة روجت لفكرة المساواة الكاملة بين أنداد متنافسين، فهما نسخة طبق الأصل للآخر، وهذا اقتضى أن يعمل كل منهما في أي مجال دون تميز أو تفريق، فنشأت أزمات عن هذا الخلط المتعمد بين الأدوار، منها مشكلة الأولاد المحرومين من تربية الوالدين، ومشكلة كبار السن، فبينما يعاني الأطفال الحرمان من حنان الوالدين، يعاني الكبار الحرمان من الأقرباء والأصدقاء المخلصين الأوفياء.

ولعل الأزمة الاقتصادية العالمية وتبعاتها خير شاهد على ذلك، فلقد حرمت الشريعة الإسلامية الربا، فـهو يسبب دوران الثروة في اتجاه واحد، مما جعل النظام الاقتصادي “نظامًا استغلاليًّا” يوزع الثروات بطريقة غير عادلة مما يوفر مناخًا اجتماعيًّا قلقًا. فبتحريم الربا استمر الاقتصاد الإسلامي لمدة ألف سنة، دون أن تظهر طبقة فاحشة الغنى، وأخرى فاحشة الفقر. وها هم اقتصاديون عالميون يعيدون الاعتبار لأصول الاقتصاد الإسلامي، بل باتت المعاهد والمصارف المالية في فرنسا وغيرها تدرس مقررات، وتخصص معاملات مالية تعمل وفق الشريعة الإسلامية، حيث لا ربا ولا مرباة ولا فائدة.

  • علل الأمم لها أسباب موضوعية

إن المتأمل في مقولة سيدنا “جعفر بن أبي طالب” للنجاشي أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة يراه ـ رضي الله عنه ـ يشرح للنجاشي مبادئ الإسلام، ومنهجه الإصلاحي العام: “فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله، لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة، والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، والدماء، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة”؛ إنها بداية ظهور منظومة جديدة من الأهداف، وشروق “عافية وتعفف اجتماعي”، بدأ يسجل حضوره التوحيدي العقدي والتاريخي، ومعالم نموذجه الكوني العالمي، إنها عملية إفراغ للعقول من المواريث الاجتماعية الجامدة، والمعطلة، وإخلاء للقلوب من مس الهوى، وشياطين الإنس والجن معًا. ومن ثم بناء العقول بالقيم الحية، والأفكار السليمة، وتعمير القلوب بالمبررات الدافعة، والشحنات الإيمانية الفاعلة.

إن الأزمة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية والإنسانية ليست أزمة منهج، وإنما أزمة فهم وتطبيق وتنزيل على الواقع، وإن أي معاودة للنهوض، واستئناف السير الحضاري مرهون بتقويم الواقع وفق ذلك المنهج. وتشكل تعاليم النبوة في المسألة الاجتماعية مركز الرؤية، وتبصر بالسنن الاجتماعية التي تحكم مسيرة الحياة.

إن المسلمين قادرون على هضم التراث العالمي في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والتجاوز بها إلى تحقيق المقاصد، والوظائف التي يفتقدها الغربي، الذي أوجد علمًا وأبدع وسيلة، وافتقد غاية.