النورسي والالتزام في الأدب

لم يشأ “النورسي” وهو يوشك على إنهاء “كلماته”، إلا أن يقف بعض الوقت عند قضية الالتزام في الأدب، وتقديم رؤية مقارنة بين نمطين من الإبداع الأدبي؛ الأدب القرآني والإسلامي عموماً، والأدب الغربي الأجنبي.
وكعادته دائماً ينطلق النورسي من كتاب الله في أسلوبياته ومضامينه على السواء، فيقيس به وعليه معطيات الآخرين صعوداً وهبوطاً.
إنه، أي القرآن الكريم، وبالمنطوق الإحصائي: “الرقم الأساس” الذي تحدّد في ضوء قيمته سائر الأرقام.. وبالمنطوق الفلسفي: “المثل” الذي يرسم السقف الأعلى فيعطي الفرصة للمقارنة مع سائر المعطيات البشرية لتقويم قربها أو بعدها عنه.
في كل المسائل التي عالجها النورسي في رسائله المائة والثلاثين، بما فيها الظاهرة الجمالية، كان القرآن الكريم المرشد والدليل. ولقد سبق وأن درست رؤيته للجمال في “كلماته” عبر ستة فصول ستصدر في كتاب مستقل في وقت لاحق إن شاء الله، يحمل عنوان “الكلمات: رؤية جمالية في فكر النورسي”.
وأريد هنا أن أقف لحظات عند مسألة أخرى؛ رؤية النورسي لقضية الالتزام في الأدب، في ضوء مقارنة شفافة بين الأدب القرآني وما يتمخض عنه من أدب إسلامي وفق أجناسه كافة، وبين ما يسميه هو الأدب الغربي أو الأجنبي.

ثنائية الشكل والمضمون

وبرؤية نافذة لا يكتفي النورسي بالوقوف عند “المضمون”، فالمضمون وحده لا يصنع أدباً، ولابد له من التلبّس بجماليات الأسلوب وتقنياته التي تنزاح بالمعاني اليومية الملقاة على قارعة الطريق -كما يقول الجاحظ- باتجاه تعبير جمالي يخرج بها عن المياومة والمباشرة، ويمضي بعيداً بقوة الآليات البلاغية، لكي يشكل عالماً مغايراً. ولذا فإن النورسي يمنح اهتمامه لجانبي العملية الأدبية شكلاً ومضموناً.

تفرّد الأسلوب القرآني

وعوْداً إلى المدرسة الأدبية الأولى في تاريخ الأمة الإبداعي، القرآن الكريم، يشير النورسي إلى أن هذا الكتاب المعجز “أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني. وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر، لأنك إذا سمعت كلاماً من أحد فإنك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه، فالأسلوب مرآة الإنسان. أيها السائل المثالي! لقد أردت الإعجاز، وها قد أشرت إليه! وإن شئت التفصيل فذلك فوق حدّي وطوقي. وقد بيّن كتاب “إشارات الإعجاز” واحداً من أربعين نوعاً من ذلك الإعجاز، ولم تف مائة صفحة من تفسير لبيان نوع واحد”.

مقارنة بين أدبين

بعد هذا التأسيس الموجز الذي يتصادى في “الكلمات” من بدئها حتى منتهاها، يمضي النورسي لإجراء مقارنة شاملة بين “أدبين”، الأدب القرآني والإسلامي الذي ينبثق عنه، والأدب الغربي. وهو في مقارنته هذه يمسّ إحدى القضايا الأساسية في الجهد الأدبي: “الالتزام”…
والحديث عن الالتزام يرغم المرء على أن يرمي بثقله في اتجاه المضمون، رغم أن مساحة ما في “الأسلوبية” تظل مرتبطة هي الأخرى بظاهرة الالتزام، لأنها جزء أساسي في العملية الإبداعية التي تنطوي على الشكل والمضمون معاً، والتي تجعل المعاني تتلبّس -بالضرورة- هذا الشكل دون ذاك.
إنه يقول: “لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنزوات والدهاء، شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء. إذ الحالة التي ترضي الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتطمئنهم، لا تسرّ أصحاب الأهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة ولا تسلّيهم، فبناء على هذه الحكمة، فإن ذوقاً سفيهاً سافلاً، ترعرع في حمأة الشهوة والنفسانية لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلاً. فالأدب الحاضر، المترشح من أدب أوربا، عاجز عن رؤية ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوّقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكاً له”.

الغوص في الشهوة والاعتقال في المنظور

ويمضي النورسي للحديث عن الميادين التي يجول فيها الأدب، لا يحيد عنها، وهي في رأيه ثلاثة: ميدان الحماسة والشهامة، ميدان الحسن والعشق، ميدان تصوير الحقيقة والواقع. وكأنه يلمّ في هذه الكلمات الموجزة نمطي الشعر الأساسيين: الملحمي والغنائي، ويجمع المذاهب التي تنتمي إليها الرواية: كلاسيكية ورومانسية وواقعية، ثم هو بعد ذلك يبدأ المقارنة: “فالأدب الأجنبي في ميدان الحماسة، لا ينشد الحق، بل يلقن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده صور الظالمين وطغيانهم. وفي ميدان الحسن والعشق، لا يعرف العشق الحقيقي، بل يفرز ذوقاً شهوياً عارماً في النفوس. وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع، لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية، ولا يراها صيغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة، ويصوّر الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها. لذا يكون تلقينه عشق الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكن حبها في قرارة القلب فلا ينجو المرء منه بسهولة”. وكأنه يشير بذلك إلى المذاهب التي أعقبت الواقعية وتجاوزتها، بغض النظر عن موقعها في الزمن: السريالية، والواقعية الاشتراكية، والطبيعية، حيث الالتصاق بالمادة، والغوص في الشهوة، والاعتقال في المنظور، وكأنها الآلهة التي لا رادّ لقضائها.
أدب مشوب بالسفه، كما يقول: “لا يغني شيئاً عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضاً، ولربما “يهيجها” وينميها، وفي حسبانه أنه قد وجد حلاً، وكأنه العلاج الوحيد”.

الضياع، الاكتئاب، اللاجدوى

لم يفعل الأدب الغربي، وبخاصة في معطياته الأكثر حداثة، أيما شيء لعلاج اضطرابات الروح التي يعاني منها الإنسان المعاصر والتي قادته، ووفق متوالية هندسية تؤذن بالويل، إلى أن يهرب إلى المخدرات والمغيّبات بأشكالها كافة، وإلى الشذوذ بأنماطه كافة.. ثم إلى الخروج من الحياة بالانتحار الذي تتزايد معدلاته يوماً بعد يوم.. على العكس، كان الأدب بمواصفاته تلك، واحداً من أهم الأسباب وراء هذا الإحساس بالضياع والاكتئاب واللاجدوى، وعبثية الحياة، وغموض المصير.

الثالوث المشؤوم

ووفق هذا المنظور يسمي النورسي الرواية الغربية بـ”الحيّ الميت” والسينما بـ”الأموات المتحركة” والمسرح بـ”خشبة تبعث فيها الأشباح وتخرج سراعاً من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي”.. “هذه هي أنواع رواياته. وأنى للميت أن يهب الحياة؟ وبلا خجل ولا حياء! وضع الأدب الأجنبي لساناً كاذباً في فم البشر، وركب عيناً فاسقة في وجه الإنسان وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة”.
والذي يطلع جيداً على الأدب الغربي المعاصر في أجناسه كافة، بل في تنظيراته وتطبيقاته النقدية، يرى بأم عينيه وبوضوح لا تحجبه الأستار، كيف يتعرّى الإنسان وينزل إلى دركات البهيمية العمياء، وكيف تغتال الضوابط الخلقية وتذبح القيم الإنسانية ويغيّب العقل، وكيف تسحب يد الله سبحانه -وحاشاه- عن الحضور في صيرورة العالم، بل كيف يقتل الإنسان نفسه حيث لا يتبقى ثمة إلا الثالوث المشؤوم: المادة والطبيعة والشهوة.
من أجل ذلك، يتساءل النورسي، من أين سيعرف هذا الأدب (الغربي) الحسن المجرد؟ فهو حتى لو أراد أن يُري القارئَ الشمسَ، فإنه يذكره بممثلة شقراء حسناء. وهو في الظاهر يقول: “السفاهة عاقبتها وخيمة لا تليق بالإنسان، ثم يبيّن نتائجها المضرة، إلا أنه يصوّرها تصويراً مثيراً إلى حدّ يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات ويهيج النزوات حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء”.

فما الذي يقدمه أدب القرآن؟

في مقابل هذا كلّه ما الذي يقدمه ما يسميه النورسي بـ”أدب القرآن الكريم” الذي انبثقت عنه تيارات الأدب الإسلامي فملأت فضاءات الزمن والمكان، ثم جاءت حركة الأدب الإسلامي المعاصر لكي تمضي بالشوط حتى نهايته، فتحاول أن تحقق التوازن الضائع بين أدب الانحلال وأدب البناء، أدب الرذيلة وأدب الطهر، أدب الشهوات وأدب العفاف، أدب الشيطان وأدب الإنسان؟!
إن هذا الأدب القرآني، يقول النورسي: “لا يحرك ساكن الهوى، لا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبداً. فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعة إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحيّر العقول، فيلقن نور معرفة الصانع ويبين آياته في كل شيء”.

أحزان اليتامى وأحزان العشّاق!

ويعود للمقارنة بين الأدبين “فكلاهما يورثان حزناً مؤثراً، إلا أنهما لا يتشابهان؛ فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب وفقدان المالك، ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ. إذ استلهام الشعور من طبيعة صمّاء وقوة عمياء، يملأه بالآلام والهموم، حتى يغدو العالم مليئاً بالأحزان، ويلقى الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولا مالك، فيظل في مأتمه الدائم، وهكذا تنطفئ أمامه الآمال. فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال وإلى الإلحاد وإلى إنكار الخالق، حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلاً. أما أدب القرآن الكريم فإنه يمنح حزناً سامياً علوياً، ذلك هو حزن العاشق لا حزن اليتيم. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب لا من فقدانهم”.
إنه الحزن الكبير -إذا صحّ التعبير- الحزن العالي المبدع الذي يذكرنا ببيت أمير الشعراء أحمد شوقي:
تعلّمت بالألم العبقري وأنبغ ما في الحياة الألم
الألم الذي يقدم التعاليم ويفجر الإبداع ويجعل من الإنسان كائناً حساساً يكاد يذوب فاصل الألم، كما يسميه “كولن ولسون”، بينه وبين العالم، فيتأثر ويهتز وينفعل بأقل المؤثرات درجة، لكي ما يلبث أن يخرج على الناس بروائع فنه وإبداعه.

بين الصنعة الإلهية والطبيعة العمياء

الأدب القرآني “ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة، بدلاً من طبيعة عمياء، بل لا يذكرها أصلاً، وإنما يبين القدرة الإلهية الحكيمة ذات العناية الشاملة بدلاً من قوة عمياء”، على الخلاف تماماً من رؤية الواقعيين والطبيعيين، بل وحتى الطليعيين (العبثيين) المعتمة، فهي “لا تلبس الكائنات صورة مأتم موحشة، بل تتحول أمام ناظريه إلى جماعة متحابة، إذ في كل زاوية تجاوب وفي كل جانب تحابب وفي كل ناحية تآنس، لا كدر وضيق. هذا هو شأن الحزن لدى العاشقين. وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعوراً سامياً لا حزناً يضيق معه الصدر”.

فماذا عن الشوق والفرح؟

هذا عن الحزن.. فماذا عن الشوق والفرح؟ يجيب النورسي: “الأدبان كلاهما يعطيان شوقاً وفرحاً. فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي، شوق يهيج النفس ويبسط الهوس، دون أن يمنح الروح شيئاً من الفرح والسرور. بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم، شوق تهتز له جنبات الروح فتعرج به إلى المعالي”.
إن النورسي هنا يوغل في تحليل البعد النفسي (السايكولوجي) للظاهرة الجمالية، وهو بصدد المقارنة بين الحالتين الأجنبية والإسلامية. ولا ينسى أن يقف لحظات عند “الموسيقى” باعتبارها معطى جمالياً يرتبط أشد الارتباط بالخبرة النفسية، وبالشوق الذي تهتز له جنبات الروح فتعرج به إلى المعالي.. ها هنا يكمن السرّ “فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو وما يلهي، فحرمت بعض آلات اللهو وأباحت أخرى؛ بمعنى أن الآلة التي تؤثر تأثيراً حزيناً حزناً قرآنياً وشوقاً تنزيلياً لا تضر، بينما إن أثّرت في الإنسان تأثيراً يتيماً وهيجت شوقاً نفسانياً شهوياً، تحرم الآلة. تتبدل حسب الأشخاص هذه الحالة، والناس ليسوا سواء”.
وكلنا نعرف الأصوات والألحان التي تجعلنا نخاطب السماوات والنجوم، وتلك التي تهبط بنا إلى حمأة الدركات السفلى، والفارق كبير كبير.

مفارقة يجب تجاوزها

لكن ما يؤسف له، ونحن نقارن بين الأدبين الغربي والإيماني، أن أوّلهما شقّ طريقه إلى ملايين الناس وقدر على التأثير فيهم، بينما انحسر الثاني في دائرة قلّة من المعنيين، رغم أن أولهما في معظم مساحاته يغري بالفجور، بينما يقود الثاني قرّاءه إلى الصراط ويمنحهم في الوقت نفسه المتعة والتوحد والفرح والرضا.
والسبب واضح بيّن لكل ذي عينين: إن الأدب الغربي عرف كيف يوظف أرقى التقنيات والأسلوبيات الفنية وأكثرها إحكاماً، لرفع خطابه في مواجهة الناس، فكسب الجولة، رغم ما تنطوي عليه مضامينه من إبحار ضد الإنسان وهموم الإنسان وخلاص الإنسان وتوحّد الإنسان، بينما غفل الأدب الإسلامي، أو لم يُعطِ -بعبارة أدق- الاهتمام الكافي للتقنيات والأسلوبيات، وبخاصة في مجال القصة والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية، فلم يوفّق -إلا في حالات قليلة- في إيصال خطابه إلى أوسع الجماهير وكهربة أوصالها وكسب إعجابها.
والطريق ليس مقفلاً ولا مسدوداً، إنما هو مفتوح على مصراعيه لكل الذين يحملون همّ الأدب الإسلامي، وفي أن يكون أدباً عالمياً. ذلك بأن يرموا بثقلهم صوب تحسين أدوات عملهم الفنية والجمالية. وحينذاك وبالالتحام مع المضامين العليا للرؤية الإسلامية، سيجد العالم نفسه قبالة أدب يليق بمكانة الإنسان في العالم، ويعد بالكثير.
ـــــــــــ
المصادر
(1) الكلمات، لبديع الزمان سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، لبديع الزمان سعيد النورسي، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.