لِلَحْن الأنين رُمْ قلبًا ممزّعًا،

وامـــلأ بِــحَــرِّ العــويل كيــانه

إن الذين وهبوا قلوبهم للمبادئ السامية وتحملوا آلامها وأوجاعها، يقضون حياتهم كمبخرة تضطرم فتنشر روائح زكية. تولد الشمس وتغرب، وتتتابع الأسابيع والأشهر، وتتوالى المواسم موسمًا إثر موسم، وهكذا تمضي… وكذا يبقى هؤلاء وهم يبحثون في ضوء مبادئهم عن ربيعٍ آخر… يعيشون موسم الخريف على الدوام ويسمعون أغانيه الحزينة، ولكنهم لا يشكون من حالهم ولا من أحد، يتحملون كل ألم وعذاب في سبيل دعوتهم السامية التي أقسموا على نصرتها وساروا في دربها، لا يصيبهم سأم ولا ملل.

هذه الأرواح النيرة العاشقة لغايتها الجياشة بالبشائر تعلم مسبقًا أن هناك صعابًا جمة في طريقها، ووديانًا سحيقة، عليها أن تتجاوزها، لذا فقد أخذت هذا الأمر في حسبانها وتهيأت له. فلا تستطيع المشاكل المفاجئة، ولا المخاطر العديدة التي تقطع عليهم الطريق أن تحيرهم، ولا أن تبعث الشكوك في نفوسهم حول دعوتهم. فهم على يقين من أن يومًا سيأتي يزول فيه كل خطر، وتنفتح فيه كل الطرق لتقلب الاستحالات إلى أمور ممكنة، فعزمهم لا يفتر، وأملهم لا يخبو.

لذا لا ينجرفون إلى اليأس والقنوط أمام أكثر الحوادث بعثًا لليأس وأكثر الظروف قتامة وظلامًا، بل يتخطون العقبات بسرعة البرق ويتوجهون نحو أهدافهم مسرعين لاهثين.

تراهم على أُهْبَة الاستعداد لما يدور حولهم بكل دقة وحساسية، لا سيما ما له علاقة بدنْيا أفكارهم… يمتزجون مع المجتمع الذي يعيشون فيه امتزاجًا قويًّا؛ إن رأوا فردًا قد انحرف عن الطريق السوي، أو أسرة تكاد روابطها تنحلّ، أو قيمة معنوية تُسنِد المجتمع قد تضررت، تطاير النوم من عيونهم أيامًا وتقلبوا على فراش الألم والأنين.
أكثر ما ينفرون منه اللامبالاة، فهم يحسون بمشاكل كل شرائح المجتمع وأوجاعه وكأنها خنجر مغروز في قلوبهم، ويَطْوُون صدورهم على آلام مجتمعهم. كم من ليالٍ مضت عليهم نبضت قلوبهم فيها بالآلام وكاد الصداع يفتك برؤوسهم، يعيشون وسط حشود من الناس في وحدة وغربة.

تطوف الحسرات أرجاء لياليهم طوال أعمارهم، لا يحس بهذا أحد غيرهم، أو على حد قول الشاعر “باقي”:

لا يدري راصد النجم ولا حاسب الأوقات ضنى الليالي السود الثقيلة،

لذا فاسأل المكروب ذا الهم والمغمومَ كم ساعة تمتد تلك الليالي الطويلة.

يرتبط الإنسان بمبدأ مّا بقدر إيمانه به وتغلغله في قلبه. وبنسبة ارتباطه هذا يحس بالفرح مرة وبالعذاب والأسى مرة أخرى. وحسب هذا المقياس فهناك من يصرف في سبيل دعوته يومًا أو أسبوعًا… شهرًا أو سنة أو سنوات. وهناك من يجعل من دعوته هدف عمره وحياته، فلو كان له من الرؤوس عدد ما في رأسه من الشعر، وطُلب منه في سبيل دعوته كل يوم منها رأسًا لقدّمه بلا تردد وبلا مَنٍّ منه ولا أذى. وقد كان سيد الرسل والأنبياء -صلى الله عليه وسلّم- ذروة في هذا الأمر حتى خاطبه الله تعالى قائلاً: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)(الكهف:6).

وكم من أفذاذ اقتفوا هذه الفطرة السامقة التي لا مثيل لها قضوا حياتهم يتنفسون الآلام ويقاسون تباريح الفكر، مع الأوجاع كان قيامهم وقعودهم. وشدة الآلام عند هؤلاء تتناسب طرديًّا مع درجة سمُوّهم وعظمتهم الروحية، فكلما قاسوا ارتفعوا، وكلما ارتفعوا قاسوا، حتى تطهّروا من كل ذنب وأصبحوا لغزًا من ألغاز السماء. أجل، ليس هناك ما يطهّر الإنسان من ذنوبه وينقّيه ويَسْمُو به مثل المعاناة في سبيل الحق تعالى وفي سبيل صلاح الأمة. وقد ورد في الحديث: “إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، تكفّرها الهموم في طلب المعيشة” (كنز العمال). فما بالك بمعاناة الآلام في سبيل إنقاذ الأمة وإنقاذ المجتمع الذي نعيش فيه!

إن أشد ما نحتاج إليه اليوم ليس هذا أو ذاك، بل نحن في أمس الحاجة إلى من يقول: “إنني أرضى في سبيل سعادة أمتي المادية والمعنوية أن أُحرق في لهيب النيران”… إلى من يفني نفسه في سبيل الحق تعالى والأمة ضاربًا عرض الحائط بمنافعه وبمصالحه الشخصية… إلى من يتلوّى بآلام المجتمع ويتأوّه… إلى من يحمل في يده شعلة العِلم ليشعل في كل مكان أقباسًا وأنوارًا تطارد الجهل والسفاهة وتطردهما… إلى من يهرع بكل عزم وإيمان إلى الذين ضاعوا بين الطرق ويمدّ لهم يد العون والمساعدة… إلى من يستمر في طريقه كجواد أصيل دون أن يشكو من الصعاب التي تعترض طريقه ودون أن يتأفف أو ييأس… إلى أبطالٍ نسوا أذواق العيش والحياة لأنفسهم وفضّلوا عليها لذة خدمة الآخرين في عيشهم وحياتهم.

(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي (رحمه الله).

الهوامش

(1) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:٧٣، سنة ١٩٨٥.