تردَّدت طويلاً قبل أن أكتب هذه الكلمات، قلبي يدقُّ متسارع النبضات، أناملي تتراقص وهي تخطُّ الحرف تلو الحرف مرتجفات؛ لأني سأبوح لك -أخي أختي- وحدك بسرّ من أسراري، وسأفضي إليك بما اعتبرتُه “خاصًّا بي” طولَ عمري.. وأنا على يقين أنك مثلي تمامًا، دائمَ التلاوُم في قرارة نفسك في شأنه، ولكنك لم تصارح به ضميرك -ولا الناس من حولك- إلاَّ لَمامًا.

أنا الآن أكتب مقالي في خلوة خالية، وأنسج دقَّات قلبي في سكون سكين، وحدي في الصالون.

نعم وحدي.. حريصٌ على أن لا ينتبه إليَّ مَن بالدار.. ألتفتُ يُمنة ويُسرة مخافة عفريتٍ من العفاريت يربُض إلى جنبي.. ألقي السمعَ بعيدًا.. متوجّسا خيفةً من شياطين الليل أن تتخافت على أثري؛ ذلك أنَّ أسفل الشاشة أمامي مكتوب عليه “فقط للكبار”، أو لعلَّه كتب فيه “لمن فوق الثامنة عشر”.

هو سرٌّ إذن، وهو لا يعني الصغارَ في شيء.. ولقد يعنيهم يومَ يكبُرون، أو يهمُّهم حين يشتدُّ عودُهم فيتصلَّبون.. يَعنيهم ساعةَ يكونون أحرارًا طُلقاء، يَختارون ولا يُختار لهم، يقررون ولا يقرّر أحدٌ بديلاً عنهم.. ساعةَ يفعلون ما يشاؤون، ويريدون ما يفعلون.. يومَها فقط يليق بهم الاطلاع على سرِّي المكنون.

رجاءً ثم رجاءً.. لا تخالفوا التعليمة الصارمة، ولا تتجاوزوا الشرط الذي بيني وبينكم: “فقط للكبار، وليس للصغار!”.

ذلكم السرُّ الذي أبوحُ به لأوَّل مرَّة، أنقلُه بأمانةٍ إلى قلبك وقرارة نفسك -أختي أخي- ولا يعني عقلَك في شيء.. إنه من مقامات القلوب والعواطف فقط، وليس موجَّها للتحليل والتركيب، ولا للمناقشة والتوضيب.. ذلك أنه لا ينتظر الحجَّة والدليل، يكفيه أن يجد مِن الوجدان المرهَف التصديقَ والتحقيقَ.

سِرّي أنا، أني يومَ كنتُ صغيرًا، كنت أحلم بالكثير.. كانت أحلامي لا يحدُّها حدٌّ ولا يوقفها سدٌّ.. كنتُ أحلم بمالٍ وفيرٍ لم يؤتَه أحدٌ من العالَمين.. وبامرأة جميلة لم تر مثلها عينٌ قطُّ.. وبـ”فيلا” فيها مكتبة وحديقة ومسبح وقاعة رياضة وصالونات كثيرة.. وبسيارة فارهة لا يملكها إلاَّ خاصة الخاصة من الأثرياء.. وبشُهرة يبلغ مداها أقاصي الدنيا وأدانيها.. وبعلمٍ يشهد له الأوَّلون والآخِرون، ويعترف به السابقون واللاحقون.

كنت أحلُم بصحةٍ لا يعتريها سقمٌ، وجسدٍ لا يحتاج إلى دواءٍ.. وبأطفال على المقاس، قدًّا وقامة، بياضًا وصفاء، ذكاء ونباهة.. باختصار: أطفالٌ فصَّلتُهم بعناية من غلاف مجلَّتَيْ “Parents” و”Enfant”.

كنتُ أحلم بتجارة لا تبور، وبصناعة دومًا آلاتها تدور.. وبضيَعٍ ومزارع منها الغلالُ لا تبيد أبدًا، وفيها من الخيرات ما لا يُحصى عدًّا ولا عددًا..

وبأملاكٍ وممتلكات هنا وهنالك، في البلاد “بأغلان” اثنان (واحدٌ للشتاء وآخر للصيف)، وبالتل اثنان (واحدٌ للعائلة وآخر للراحة)، وفي فرنسا شقَّة، وفي إسطنبول شقَّة.. ولمَا لا تكون لي في المدينة المنوَّرة أو مكة المكرمة شقَّة لِحين الحج والعمرة!

كنتُ أحلمُ بوطنٍ أحسن من الجزائر، وأخطّط للهجرة إلى بلدٍ أهنـأ من بلدي الجزائر؛ بلدٍ كلُّه حسناتٌ وليس فيه سيئة واحدة.. وطنٍ يجمع محاسن أمريكا وألمانيا، ومباهج باريس وجونيف، وشعائر مكة والمدينة.. كنتُ أحلم.. وأحلم.. وأحلم.

ولقد قالوا لي وأنا على مقاعد الدراسة: “ليس للحلم حدٌّ ولا سدٌّ، فلا توقف خيالك عند نقطة، ولا تقصُر أحلامك على مجال”.

وبما أني كنتُ وديعًا سميعًا، فقد قلت لهم: “سمعًا وطاعة”.

واستمرَّ الحلم إلى ما شاء الله له أن يستمر.. استمرَّ الحلمُ الجميل إلى أن انتقلتُ من غرفة الصغار إلى غرفة الكبار.

فجأة.. تسارعت الليالي والأيام، مثل برقٍ خاطفٍ، أو وميضٍ هادفٍ، أو نبرة أو هاتفٍ..

فجأة.. سريعًا.. في أقل من لمح البصر.. لا أتذكَّر كيف مرَّت الساعة التي مرَّت، ولا كيف حلَّت الساعة التي حلَّت.

فجأة، صرتُ كبيرًا، وعلامة ذلك أني أنهيتُ دراستي، فتزوَّجتُ، فتوظَّفتُ، فتملَّكتُ، فولَدتُ.. ثم شربتُ وأكلتُ، وتنعَّمتُ وتمتَّعتُ، وأقمتُ وسافرتُ.

فجأة، حلَّت الحقيقةُ محلَّ الحلم، فتبدَّدت تلك الصورة الوردية من خاطري رويدًا رويدًا، وحلَّت مكانها صورة ليست قاتمة عابسة، ولكنها ليست بألوان الطيف سابغةً.

صورةٌ هي بين بين.. هي “ساعةٌ بساعةٍ”..

صورةٌ، فيها صحَّة وعافية مع بعض الأسقام أحيانًا.. أمرُض ثم أُشفى، أضعُف ثم أقوى..

صورةٌ فيها زوجة طيبة صالحة، لها جمالها الخاصُّ بها، وهي لا تنافس الممثلات ولا عارضات الأزياء، ولكنها تسرُّني وتملأ قلبي سكونًا وسكينة، جمالاً وبهاء.

صورةٌ بها بيتٌ من حَجر، ليس ضيّقًا ولا واسعًا.. فيه مُسحة من جمال، وفيه زوايا تحتاج إلى معالجة وترميم؛ به محاسنُ لا تخلو من عيوب، وعيوبٌ لا تخفيها المحاسن.. بيت كباقي بيوت الناس، وكفى.

صورةٌ ترسُم أولادًا فيهم الذكرُ والأنثى، الطويلُ والقصير، المجتهدُ والأقل اجتهادًا، الصحيحُ والسقيم؛ لكنهم أولاد أستطيع أن أنسبهم إليَّ باعتزاز، وأفخر أنهم بعضٌ مني، وأنهم مددٌ لي بلا احتراز.

صورةٌ لوطنٍ، لبلدٍ، لجزائرَ.. ليست أفضل البلدان على الإطلاق، ولا هي أسوأها على الإطلاق.. هي بضعٌ مني وأنا بعضٌ منها.. بلدٍ كلُّ ما فيه جميلٌ ما لم تمسَّه يد إنسان، بل وحتى إنسانُه جميلٌ ما لم تفسده الماديةُ والعبثية، ودرك الشقاء والهوان؛ جزائرَ رائعة ما لم تشوّهها الفهوم الخاطئة للدين، وللحضارة والثقافة والتمدين. صورةٌ.. صورةٌ.. صورةٌ..

غير أني، وهذا هو السرُّ الذي أفصح به إليك -عزيزي عزيزتي- وهو السرُّ الذي أهمس به في أذنيك دون غيرك؛ فلا تنسَ الشرط يا رعاك الله: “فقط للكبار!”.

غير أني، صرتُ دائم النظر إلى النعمة: مِكثارًا مِهدارًا، لا أرضى بالدون ولا بالقليل.. غير أني، لا أجد أبدًا حلاوة ما وُهِبتُ، ولكني دومًا أشكو من مرارة ما مُنعتُ.

فكنتُ كلَّما حلمتُ بشيء، بأمر، بمرتبة، بمكسب.. يأتيني، وحين يأتي أمرُّ عليه كأن لم يأت. ولا أجد الوقت الكافي لتمام الإحساس بالنعمة، ولا لكمال النظر إليها والتمتع بها.

بعضُ منازلي وقصوري، لا أسكنها إلاَّ لأيام.. وزوجتي وأولادي لا أجد الوقت الكافي للجلوس إليهم.. ودراهمي ومالي مكدَّس هنا في بنكٍ ومصرف، وهنالك في حركة ومتجر ومقصف.. جسدي وصحَّتي لا ألقي لها بالاً، وهي تُتعبني حينًا وأرهقها حينًا.

كنتُ أنا “المنعَم عليه” شديدَ التعلُّق “بالنعمة”.. يا للحسرة.. حتى طوت الأيامُ الأيامَ، والتهمت الأحلامُ الأحلامَ.. كبُرت سنًّا، وشخت عُمرًا، مثلما أرى أحيانًا في الأفلام.

ولم تزد “النعمةُ المنعَم عليه” سعادةً، بل أحيانًا زادته رهقًا، وأعيته ولم ترحه بتاتًا..

الراحةُ! تلك كلمةٌ زالت من قاموسي؛ حتى صرتُ أردّد مع المرددين: “لا راحة في الدنيا”، و”لا راحة إلاَّ في القبر” (وِي اخسَنْ ارَّاحَت أتياف أنِيل).

انتقلت إذن من زمن الصغار إلى زمن الكبار، من عالم الأحلام إلى عوالم الآلام..

فكنتُ وأنا في الأربعين، ثم الخمسين، ثم الستين، فالسبعين.. كنتُ كلَّ يوم أرمي حلُما إلى وراءٍ، وأستقبل ألـمًا من أمامٍ.

رجاءً لا تفهموني خطأً، فأنا -ولله الحمد والمنَّة- أصلّي وأصوم، ولقد حججتُ واعتمرتُ، وليست لي مشاقُّ من مثل الخمر والدخان، ولا أنا ممن عقَّ والديه أو أتى الموبقات.. غير أني كنت دائمَ الشكوى، وكان في عينيَّ حَوَلٌ بهما أرى الذي ينقُصني وأعمى عن الذي يغمُرني، كان حمدي لله لفظيًّا ووعظيًّا، ولم يكن البتَّة قلبيًّا ولا يقينيًّا.

فكنتُ دائم الشكوى من الجزائر، ومن البيئة، ومن الواقع، ومن الوقت، ومن المرض، ومن الزوجة، ومن الابن.. لا يتوقَّف وابلُ الشكوى عندي أبدًا.. ولا أرى في كل ذلك إلاَّ ما يخالف حُلمي الورديَّ القديم، فلا شيء منه حقَّق لي ما تمنيت.

نسيتُ “المنعِم” في قرارة نفسي حتى وإن كنتُ قد ذكرته باللسان؛ وأحيانًا حين الصلاة وحين الصوم أذكره لزمن قصير، ثم لا ألبث أن أنساه.

نعم، نسيتُه، فلم أعرفه حقَّ المعرفة، ولم أقدره حق القدْر.. نسيتُه فلم أقابله بالشكر لكن بالضَّجر.

نسيتُه، صدقًا أقولُها وليس هذا أوان التعللات والأوهام: “فالكذب مهلكةٌ، والصدق منجاةٌ”.

نسيته يا للهول.. نسيته يا للخسارة.. نسيته يا للندم.

نسيتُه حتى نزلتْ بداري، وبدارك، نازلةٌ (الكورونا)؛ فغلَّقت أبوابَ بيتي، وجلستُ إلى جوار زوجي، وأطلت المكث مع بني وبنيتي.

وتفقدت السميد والزيت، والشاي والسكر في مخابئ منزلي.

ووجدتُ الوقتَ الكافي الشافيَ للنظر إلى ما حولي ومن حولي؛ أحصيتُ النعم التي تغمرني فألفيتها لا تحصى.

لا أخفي سرًّا إن قلت لك حِبّي: “تحوَّل مركز الاهتمام عندي من “النعمة” إلى “المنعم”؛ فلهجت إليه بالدعاء، وجأرت إليه بالنداء.

شكرتُه حمدته، ثم بكيت بكاءً لذيذًا، وسهرتُ سهرًا مديدًا”.

وأنا الحين -وأنا في حجري الصحي- أتفكَّر وأعمِل قلبي في جلال رحموته سبحانه، ثم أستنجد بعقلي في جمال رحمانيته جل جلاله.

وإني والله قد علمتُ من كتابه الحكيم، وكلام رسوله الكريم، أنَّ كثرة الإنعام ليست في ذاتها قذارةً، وأنَّ عمارة الدنيا أمرٌ من أوامر ربّي.

علمتُ أنَّ الاقتصار على “النعمة” والغفلة عن “المنعم” هي الحاقةُ، وهي الطامَّة، وهي الصاخَّة.

ثم قرَّرتُ أن أخرج من صمتي، وأفشي سري.. لأنه سرُّ كلّ إنسان ناطقٍ عَقُول.. وهو سرُّ كلّ مسلم قؤول ثم فَعول.

برهةً -وإلى جواري مشغّل التلاوة- فتحت التطبيق في قارئ أحببته، هو عبد الرشيد صوفي، واخترت منه “سورة عبس”، برواية السوسي عن أبي عمرو.. ثم هزني قوله سبحان وتعالى:

(قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)

(ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)

(ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)

(فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)(عبس:17-24).

إلى هنا انقطعتُ عن عالم الوعي واليقظة، إلى عالم المنام والأحلام.

إلى هنا حان وقتُ البسط والنشر، وارتفع الحجر العلميُّ عن مقالي، إلى حين يرتفع الحجر الصحي عنا جميعًا، وعني.

وكلّي أملٌ أن لا يفضح سرَّنا ربُّ الظِّراب والآكام، وأن يتلقانا إلهنا جل جلاله يوم القيامة، بالتحية والسلام، وتحية أهل الجنة السلام.

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.