النباتات اللاحمة

كثيرة هي أنواع النباتات عددًا وعدة وعتادًا ودهاءً، ولكل نبتة طريقتها في جذب وإغراء فريستها؛ فلبعضها أشراك تُفتح وتغلق فجأة، ولبعضها مصائد زلقة، ولأخرى بقع دبقة تعلق بها الفرائس دون إفلات. ففي مستنقعات ولايتَي “كارولَينا” الشمالية والجنوبية الأميركيتَين، ينمو نبات لاحم (آكل اللحم) يطلق عليه “خانق الذباب”، وعلى صغر حجمه -يصل ارتفاعه إلى حوالي 30 سم- إلا أنه الأكثر وحشية في الافتراس، وأوراقه زاهية اللون، وتضم أطرافها غددًا عطرية تُشكّل إغراءً لا يمكن مقاومته؛ وكل ورقة من أوراقه فلقتان، وسط كل فلْقة تنتصب ثلاث شعيرات حساسة، وإذا مستها حشرة أُطبقت فلقتا الورقة عليها، ليس هذا فحسب، بل تتشابك حولها أشواك على طرفي الورقة كأسنان فخ حديدي تمنعها من الهرب فتلقى مصيرها المحتوم، وتُهضم على مهلٍ -حسب حجمها- في أيام عدة. و”خانق الذباب” لديه من الذكاء ما يميز به بين فريسته المرغوبة وما تحمله الرياح من أعواد جافة أو أجسام غريبة، وتبلغ حساسيته أنه إذا تحركت شُعيرة واحدة من شعيرات أوراقه بسبب قطرة مطر، لا تغلق الورقة مصراعيها، لكن حين تتحرك أكثر من واحدة -ولو بفارق ثوان معدودة- عندئذ تنغلق الورقة، وتعتمد سرعة الانغلاق على درجة الحرارة وضوء الشمس. لكن من يرى أنيابه الورقية وهي تطبق بسرعة وقسوة على الفريسة، يعتقد أنه إزاء فكّ نمر كاسر.
ومن النباتات الآكلة للحشرات، الكبيرة نسبيًّا؛ نبات السلوى، والنَّابَنط، وجرّة العطور القاتلة، وهي من النباتات الإبريقية المتنوعة الأشكال والأحجام. ولهذه النباتات أشراك تحوي كمية من السائل تمكِّنها من التقاط فرائس كبيرة نسبيًّا كالضفادع والعصافير والفئران الصغيرة، وربما ساقتها ظروف مرض وإعياء أو جوع إلى هذه الشراك فكانت وجبة لاحمة لنباتات غير راحمة.
تشبه أوراق هذه النباتات الإبريق، وتنجذب لها الحشرات للونها الزاهي ورحيقها الكافي، إلا أن طرف الإبريق زلق بشدة، تزلّ عليه أقدام الحشرات فتنزلق إلى السائل أسفله، وعندما تحاول الصعود تعيقها شعيرات متجهة للأسفل. كما يحتوي الرحيق في بعض أنواع من النباتات الإبريقية على مادة مخدِّرة تشلّ حركة الفريسة فلا تفر، وهنيئًا بوجبة دسمة هضمًا وامتصاصًا.
أما نباتات “شجرة التنين أو الحية” (Dracunculus Vulgaris)
و”زنبقة الكوبرا” (Cobra Lily)، فتتميز برائحة كريهة وتقتنص فرائسها بنفس طريقةِ فخاخ الجرة، إلا أنها تتميز عن آكلات اللحوم الأخرى بأن أوراقها لا تحتوي على أنزيمات هاضمة، لكن تعتمد على البكتيريا التكافلية لتحويل الفريسة إلى مواد غذائية.
وتجذب أوراق نبات “حشيشة الدُّهن” الدبقة الحشرات من فصيلتَي الشَّيّاريّات والغطرفيّات، وهذه الحشرات تضر بالنباتات المزروعة في البيوت البلاستيكية ونباتات الزينة المنزلية. ولمكافحة هذه الحشرات يستعمل المزارعون أشراكًا اصطناعية، إلا أنها لا تفرّق بين أنواع الحشرات بل تلتقط أيضًا النحل وذباب الأزهار، غير أن “حشيشة الدُّهن” تمتاز بأنها لا تلتقط سوى الحشرات المؤذية صغيرة الحجم؛ فهي تلتهم أعدادًا كبيرة من الذباب موسميًّا.
لكن كيف تُلقَّح هذه الأزهار دون أن تعلق الحشرة الملقِّحة في الشرك؟ إن الأزهار تظهر قبل اكتمال نمو الأباريق -المصائد- وحين يكتمل نموها وتبتدئ عملها، تكون الأزهار قد ذبلت والحشرات الملقِّحة قد انتقلت لمكان آخر. وتلقى النباتات الإبريقية رواجًا في الحدائق، فأزهارها وأشكال أوراقها وجمال ألوانها، تضعها في مصاف نباتات الزينة الأخرى.
وإذا كانت كثرة البعوض تحرم البعض من متعة الجلوس بالشرفة أو في الحديقة مساءً، فهناك نبات “ورد الشمس الشوكي”، ويزرع في سلال متدلِّية، فيجذب البعوض بقطرات سائل لزج يفرزه، فعندما يمس البعوض أوراقه تعلق بشعيراتها الدبقة التي لا تلبث أن تتقوس وتُلصق الحشرات بسطوحها.
ومن بين أصغر المخلوقات آكلةِ الحشرات، “فطريات” تُوقع في شركها ديدانًا خيطية مجهرية، فلبعض الفطريات كريات دبقة على طرف عُنيقاتها، وبعضها يمتلك عُقَدًا ثلاثية دقيقة، فما إن تمر الديدان المجهرية عبرها حتى تضيق هذه العُقَد وتحبسها، وحالما تعلق الدودة بالشرك تغزوها خيوط من الفطريات فتقضي عليها فورًا. وتُدرس إمكانية استخدام هذه الفطريات في مكافحة الديدان التي تُلحق الأضرار بالمحاصيل الزراعية.
وهناك نبتة “الدروسيرا” التي تغطي أوراقَها زوائدُ كثيرة تنتهي أطرافها بغدد تفرز مادة حامضية لزجة لاصقة، فإذا ما هبط الصيد على رأس هذه الزوائد يعلق بها، وكلما حاول الهرب زاد اشتباكها في زوائد أخرى تتجمع حولها. ويفرز النبات المواد الهاضمة التي تذيب وجبة الحشرات، وبعد امتصاصها تعود الزوائد لاعتدالها، والورقة لشكلها الطبيعي.
وتنتشر نباتات “هيدنورا أفريكانا” و”ندى الشمس” (Sundew) في صحاري جنوب أفريقيا، وهي تنمو تحت الأرض ولا يظهر منها سوى زهرة مفترسة، وهذه الزهرة هي عبارة عن مصيدة تصطاد بها فرائسها من الحشرات والخنافس، من خلال إطلاق رائحة تقوم بجذبها إليها، ثم تطبق عليها وتتلذذ بالتهامها بعصارة قوية هاضمة.
أما نبتة “السَّنْدَب” فمائية تنمو أوراقها تحت الماء، وتمتلك عدة أكياس كلّ منها مزوّد بشرك وعدد من الشعيرات الطويلة، عندما يقترب صيدها -كبرغوث الماء وغيره- ويلامس الشعيرات؛ ينفتح الكيس وتُسحب الفريسة لداخله، وينغلق عليه تحت تأثير فارق الضغط داخل الكيس وخارجه.
وعلى جانب آخر، لا تقع كل الحشرات فريسة سهلة لهذه النباتات اللاحمة؛ فذبابة اللحم -مثلاً- لديها زائدة على أرجلها تعمل ككلاليب متسلقي الجبال وتسمح لها بتسلق الشعيرات المنحنية إلى أسفل في النباتات الإبريقية، وعندما تفقس بويضاتها، تقتات يرقاتها على الحشرات المتحللة، ثم قبل أن تبني شرانقها، تحفر ثقوبًا في الورقة الشبيهة بالإبريق وتخرج منها.
كما تحيك بعض العناكب نسيجها بمكر على أعلى نبتة “النَّابَنط” لتسبقها لاقتناص الحشرات الجوالة. كما يمتاز نوع من العناكب بطبقة خارجية تسمح له بالاختباء داخل العصارة الهضمية في حال إحساسه بالخطر.
كما يزحف “البق الحشاش” حول فخ النبات المفترس ويتناول وجبة دسمة من الحشرات المأسورة في الفخ دون أن يقع، ثم يلقي بفضلاته في الفخ فيقوم النبات بامتصاصه لكونه وجبة متحللة جاهزة للهضم.
من المألوف أن تقتات الحيوانات المفترسة على فرائس لاحمة، لكن من المدهش وجود نباتات لاحمة أيضًا -وهي كغيرها من النباتات- تنتج غذاءها ذاتيًّا، وذلك عن طريق “التمثيل الكلوروفيلي” وتحويل الطاقة الضوئية (الشمس) إلى طاقة كيميائية في وجود الماء وبعض العناصر.. ولكن لديها أعضاء متحورة تمكّنها من اقتناص بعض الحشرات والحيوانات الصغيرة وافتراسها؛ لتكون مصدرًا إضافيًّا للتغذية، كونها تنمو في بيئات ومستنقعات فقيرة نسبيًّا في عنصر النيتروجين الميسر والهام لنمو النباتات، ومع أنها لا تمتلك جهازًا هضميًّا، إلا أنها تتميز بقدرتها على هضم الفرائس من خلال إفراز أنزيمات هاضمة، ويعتمد بعضها على أنزيمات تنتجها بكتيريا “تكافلية”، وهناك نباتات مفترسة تعتمد على كلا الطريقتين في هضم أجساد الضحايا.
إذن كيف تتحرك هذه النباتات لتطبق على الفريسة بسرعه كبيرة وهي لا تمتلك أنسجة عضلية؟ وثمة محاولات لتفسير ذلك بفهم عملية الاصطياد التي تتم عبر حدوث تبدّل مفاجئ في ضغط الماء؛ فعندما تلمس الفريسة الفخّ، تقوم خلايا الجدر الداخلية بنقل الماء إلى الجدر الخارجية، فينتج تقلص حاد وسريع، كما أن عملية الاصطياد تتم عبر نمو الخلايا في أحد جوانب المجسّ أسرع من الجانب الآخر، مما ينتج عنه إطباق الجانب النامي.
إن عالم النبات عالم رائع غريب، وفيه نباتات أغرب، وثمة علاقة قديمة ومعقدة بين الإنسان وعالم النبات ببذوره وجذوره وأشجاره وسيقانه وفروعه وأزهاره وأثماره.. وها هو الإنسان يتأمل ويستثمر النباتات اللاحمة لخدمته أيضًا.. والمتأمل في عالم النبات، يجد هذا الكم الهائل من أنواعه دالاًّ -ليس فقط- على نعمة الإيجاد من عدم الخلق، بل أيضًا على هداية وإرشاد وتعليم الله تعالى لها، كي تؤدي دورها ووظيفتها وتنال رزقها.. (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.