المُبْتلَون في الأرض

“الكل في الجنة فرح، وفي النار حزن.. الدنيا تأتيني أحيانًا طائعة، وأحيانًا تأتيك.. لذلك فإننا نعيش وجودنا ونتشاركه بين نقيضين”. (بالتزار كراسيان)
يأتي على الإنسان المتبصر والمتيقظ حين من الدهر يرى بداهة سير الحياة بدون حُجب. فيرى أن الحياة في كنهها ليست مثالية كما يعتقد، بل هي واقع مرير وحلو حيث وثوق ارتباط البلاء بالهناء كارتباط المادة بضدها. وعلى أعقاب هذه الملاحظة، فإن العديد من البشر قد يجد نفسه يتدبر السؤال الخالد رغم بساطته: “لماذا تقع أمور سيئة على أناس طيبين؟”.
لقد بذل العديد من الفلاسفة جهودهم للوصول إلى تفسير هذه المفارقة التي تبدو قاسية. ولعلك واحد من الذين يتدبرون سبب البلاء الذي أصابهم وهم طيبون ولا يثورون للتو، إنما يتقبلون ذلك الابتلاء ويتعاملون معه وكأنه أمر عادي يمكن أن يتجلى في حياتنا وحياة أحبابنا دائمًا.
يشترك المؤمنون وغير المؤمنين في تساؤلهم حول ما إذا كانت الطبيعة في تعاملها مع الإنسان تشكل أكبر عدو له، وفي تساؤلهم حول معاقبة الله لنا حالَ تجاوزنا الحدود التي وضعها. قد يكون الجواب على هذين التساؤلين هو “لا”. ولكن هناك رجال ونساء مرموقون نظّروا لهذا الشأن. فقد كتب “رالف والدو إميرسون”: “ليست الطبيعة بالحنون ولا هي بالمُدلِّلة، الواجب أن نرى في الحياة كدحًا وكبدًا، فهي لا تني في أن تذهب برجل أو امرأة، بله تبلع سفينتك مثل حبة من الغبار”. لا تعمل قوانين الطبيعة وفقًا لمنطق الانتقائية. فقد شهد التاريخ، أمثلة كثيرة عن موت الخيِّر والشرير بسبب الوباء أو الكوارث الطبيعية أو حتى بسبب لدغة حية أو مخلب حيوان. وحتى المتقون حقًا لا يسلمون من المعاناة، كما تشهد قصة أيوب عليه السلام في الإنجيل والكتب المقدسة الأخرى على ذلك. لقد كان النبي أيوب عليه السلام رجلا ورعًا ومستقيمًا، يخشى الله وينأى بنفسه عن كل شر، إلا أنه ابتلي كثيرًا وما تألّى على الله أو تسخط مما أصابه، بل صبر واحتسب وقال: “خلقت عاريًا وسأبعث عاريًا، الله هو المعطي وهو المانع. تبارك اسم ربي”. إن ما يجب أن يوضع في الاعتبار -حقيقة- هو أن هذه الدنيا ليست الجنة، وأن قوانين الكون لا تميز فيما بيننا، بل تفعل فعلها فينا جميعًا.
إن المسألة لا تتعلق بسؤال “لماذا تقع أمور سيئة على أناس طيبين؟” بقدر ما تتعلق بسؤال “ماذا يمكنني أن أفعل من أجل العيش الأفضل في ثنايا البلاء، وكيف يمكنني طمأنة زملائي في أوقات المحن”. وقد كتب الفيلسوف الألماني “أرثور شوبنهاور” في إحدى المرات بأن “البلاء ليس استثناء، بل هو قاعدة تطبّق على العموم”. ونحن يمكننا معالجة هذه القاعدة والتفاعل معها من خلال مساعدة الآخرين وبعدم الاستسلام للبلاء.

مكابدة المحن

ليست الطريق في الحياة الدنيا ودار الابتلاء مفروشة بالورود، بل هي مليئة بالحوادث الأليمة. والعجيب هو أن هذه الحوادث هي التي تكون في غالب الأحيان سببًا في تكوين شخصيتنا الرائعة وإنضاجها. ولعلنا نعتبر مقولة “نيتشه” المأثورة: “ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى” واحدة من ضمن المقولات النموذجية التي قد تساعدنا على تخطّي عقبة المحن. كما أنه من المفيد، التأمل في هذا الكم الهائل من أولئك الذين استطاعوا تحويل الألم والمعاناة إلى وسائل خيرة لتغيير أنفسهم ومجتمعاتهم، أو التأمل في أولئك الأخيار الذين قضوا نحبهم في الحروب، في سبيل الحصول على الحرية أو من أجل تحسين ظروف عيش الآخرين باستئصال القمع، أو أولئك الأخيار الذين ألهمونا القوة والأمل رغم معاناتهم من المرض والعلل، وكذلك التأمل في الناس الطيبين حولنا ومعاناتهم، وكيف يمكن أن نصبح إنسانًا فاضلاً بمساعدة هؤلاء على التغلب على آلامهم.
وقد توضح تجربتي الشخصية مع المحن، ما سبق الحديث عنه حول: كيف يمكن لحوادث أليمة أن تحوّلنا إلى أناس أفضل، ولذلك لا ينبغي أن نسمي البلاء “شرًّا”، بل ينبغي أن نسميه “خيرًا” إذا أحسنّا استثماره.
نحو عقد من الزمن عانيتُ من إصابةٍ سببت لي حرمانًا أبديًا من استخدام حوالي ثمانين في المائة من جسدي، وأرغمتني على استعمال كرسي متحرك. وقد بدا لي حينها، أن الحادث الذي أصابني، كان حادًّا لدرجة مفجعة، لا سيما وأنني كنت في العشرين من عمري، قويًا وقادرًا على كل شيء. وفجأة أصبحت مشلولا من نصف صدري إلى أسفل قدمي، فأحدث لي هذا الابتلاء شللا نصفيًّا. بدأتْ أسئلة تتبادر إلى ذهني من قبيل: هل كنت شخصًا طيبًا قبل إصابتي بهذا البلاء؟ نعم، طيبًا بما فيه الكفاية. وهل أنا أفضل الآن؟ لا. كنتُ أسمع في المستشفى صدى كلمات “هاريت ستو” تتردد في ذهني: “لا تستسلم، فإنما هما مجرد مكان وزمان سيأتي بهما المدّ” وقد عاد المدّ فعلا. فتحولتْ حالتي المزرية إلى بداية جديدة ميمونة.
يوجد بداخل معظمنا شخص أفضل، لكنه مُقيد وراء ستار شخص سيء غير مبالٍ، ثم إنه بالنسبة لي، فلم ولن تكون مسألة “لماذا تقع أمور سيئة على أناس طيبين؟” سارية المفعول، لأنني لا أراها كذلك بسبب إدراكي أن “كل نقمة في طيّها نعمة”، وهذا ما غيّر وجهة نظري إلى الحياة نحو الأحسن. معظمنا يعتقد أن البلاء حدث “سيء”، فينخرط بالتفكير فيه أكثر من اللازم، ويزيد في استفحال سوء البلاء، ويغرق -عن غير قصد- في سلبيات قد تترتب عليها بلايا أخرى، يتأسف على كونه كان طيبًا، ثم إنه -عن جهل- يبدأ يلوم القدر، ويلوم العالم، ويلوم الأقرباء.. إننا بحسن قبولنا للبلاء، وبحسن تقديرنا للمصائب والآلام -مع علمنا أنها سوف تتقلص وتتبدد لا محالة- نكون قد سرَّعنا الشفاء وعُدْنا إلى مسار حياتنا الطبيعي بكل سهولة وبكل يسر.

القدر المكتوب

ولنتذكر جيدًا أن البلاء والمحن التي تصيبنا تتفاوت في الدرجة، والمسألة هنا ليست متعلقة بالمهانة أو التكريم. هناك بالتأكيد مَن سيموت، أما القدر -تلك القوة الممتنعة عن أي محاولة للتوقع- فواقعٌ كما هو مكتوب ولو اجتمعت البشرية على تغييره وتبديله.
لقد عبر عن ذلك “سوفوكليس” منذ زمن بعيد قائلا: “رهيبة هي قوة القدر الغامضة، لا ينفع للخلاص منها لا الثروة ولا الحرب، لا البروج المحصنة ولا السفن التي تقهر البحار المظلمة”. الناس هم وحدهم المسؤولون عما يقع عليهم جراء جهالتهم. ثمة فرضية لم يرد ذكرها حتى الآن، تقول بأن الناس الطيّبين مسؤولون عما يقع في مصيرهم بسبب سوء تصرفهم أو تقاعسهم، ولذلك لا ينبغي أن نرى دائمًا في تقلبات الحياة مفاجآة أو شيئًا معاندًا.
دَعونا نفترض للحظة أن أناسًا يعيشون حياتهم وكأنهم المثل الأعلى للاستقامة، فهم محسنون وطيبون ومتواضعون وأصحاب أخلاق رفيعة في جلّ حركاتهم، أي إنهم كالملائكة. والآن لنسلم -جدلا- أنهم لا يتبعون نظامًا غذائيًّا صحيًّا، وأنهم يدخنون بكثرة، ولا يمارسون الرياضة، ويقومون بجميع التصرفات المتهورة التي قد تؤثر بمصائرهم، ثم فجأة يكتشفون أنهم قد أصيبوا بسرطان الرئة أو داء السكري أو مرض من أمراض القلب والشرايين. ولنفترض أنهم سيموتون قريبًا، فهل من حقّنا أن نعتبر هذه الأشياء “السيئة”، أيْ المرض والموت المفترض، كأشياء سيئة تحدث إلى أناس طيبين؟ أليس من الجهالة التفكير بهذا المنطق؟ لقد قادتهم خياراتهم هذه إلى إصابتهم بسهم المرض. وفي مثالنا هذا، كان يمكن للوضع أن يكون مغايرًا لو كانت تلك التصرفات أقل تهورًا. وهذا لا يعني أننا يجب أن نلوم الناس على خياراتهم في الحياة، لكن في المقابل، يجب علينا أن ننصحهم ونحثهم على تجنّب التصرف المُرّ ونساعدهم في ذلك.

اقتحام العقبات

قد يكون لعدم الاكتراث أو التقاعس عن الحركة، نتائج فتّاكة. فالإحسان والأعمال الخيرية -مثلاً- يصدران عن أناس يشاطرون الناس أحاسيسهم. وهكذا لو افترضنا أن هؤلاء المحسنين لم يعودوا يكترثون، وأوقفوا تبرعاتهم بالمال والوقت، أي تقاعسوا، فيا ترى كم سيصبح عدد أولئك الطيبين الفقراء الذين يعانون؟ إننا بتعاضدنا وتضامننا، يمكن أن نُحسّن من ظروف عيش أولئك الذين يعانون، وحتى لو كان هذا الجهد سيقلص -ولو واحد بالمائة- من مجموع بؤس الجنس البشري، فسيكون قد استحق منا هذا العناء. إننا بتصدّقنا بالمئونة والدواء والمال يمكن أن نبدّل ظرفًا مُرًّا بظرف حلو، ويمكننا أن ندرأ سهام الشقاء من أن تصيب بعض الناس. فقيامنا بذلك يجعلنا نساهم في منح الآخرين فرصة للعيش في حياة قليلة المعاناة. أما إذا تقاعسنا فإننا نسمح للمعاناة بالتكاثر، وبالتالي سيبدو لنا أن أشياء سيئة تقع على أناس طيبين، خصوصًا إذا بقينا على حِسّنا الأخلاقي هذا. ولعل قصيدة لـ”إيميلي ديكينسون” تدفعنا للانطلاق في العمل إذ تقول:
لو استطعتُ أن أمنع قلبًا من التمزّق
فلن أعيش بلا جدوى
لو استطعتُ أن أخفف من معاناة أحد
أو أن أُخفّف من ألم
أو أن أساعد طائرًا واهنًا إلى عشّ
فلن أعيش بلا جدوى
إن التغلب على البلاء لا يكون إلا بحسن تقديره واستثماره، عندئذ يمكن للواحد منا أن يستمر في سيره بدون تعثر ولا عائق، فضلاً عن أنه يمكننا أن نتحوّل إلى أناس ناضجين بفضل البلاء، أو قد نساعد أناسًا آخرين على الخروج من معاناتهم بعدما نكون قد تغلبنا على معاناتنا، وبالتالي نكون قد قلَّلنا من فرص وقوع أحداث مريرة.
لا شيء يقع بدون علة وحكمة بما في ذلك البلاء، وإذا أحسنّا الظن بربّنا وأقررنا بأن الألم والأسى سوف ينتهي بالضرورة إلى نتائج حميدة، فلن تضرّنا المصائب والبلايا أبدًا.
ــــــــ
(*) الترجمة عن الإنكليزية: هشام الراس.