الميتوكوندريا… بديع صنع القادر

منذ أعوام نشر زميل لنا مختص بالكيمياء الحيوية، والبيولوجيا الجزيئية مقالاً باللغة الإنجليزية، شاركه فيه باحثون كوريون فحواه “الميتوكوندريا تصدح بالتوحيد”، فقامت قائمة التطوريين، وصاحت أبواق الماديين قدحًا في الدراسة، وكيف لها أن تخلط العلم بالدين؟ وتمت ضغوط كبيرة على موقع النشر كي يوقف نشر المقال، وقد كان.

فما هي الميتوكوندريا التي أثارت كل هذا الجدل؟

المتَقَدِّرَات- المصورات الحيوية- الحُبَيبَات الخَيطِيَّة -الميتوكُوندريا (Mitochondria) عضويات حية سابحة في سيتوبلازم (هلام) الخلايا الحيوانية والنباتية (حقيقية النواة).

تظهر الميتوكوندريا بالمجهر الإلكتروني على هيئة حبيبات دقيقة، أو عصى قصيرة، أو خيوط رفيعة. ويتدرج شكلها من الكروي إلى المتطاول. وتتركب بشكل أساس من طبقتين من الدهون، وغشاء مزدوج من البروتين خارجي، وداخلي، ذو نفاذية خاصة. ويبلغ طولها بضع ماكروميترات وعرضها ما بين 0.5 -1.5 مايكرومتر. وقد وصفها لأول مرة العالم “فلمنج” عام 1882م، وأسماها “فيلا” (الخيوط)، وبعد أعوام أعاد “ألتمان” وصفها عام 1890م، وأطلق عليها “بيوبلاست” (الأجسام الحية)؛ لكن “بندا” هو من استعمل كلمة “ميتوكوندريا” عام 1897م للدلالة عليها.

الميتوكُوندريا  عضويات حية سابحة في سيتوبلازم  الخلايا الحيوانية والنباتية.

وعدد الميتوكوندريا ثابت في النوع الواحد من الخلايا، وحسب احتياجها للطاقة (يتراوح بين بضع مئات وآلاف) وتكثر عمومًا في الخلايا الأكثر تخصصًا، كخلايا الكبد، والكلي، والقلب. وقد قدر أن هناك حوالي 2500 متقدرة في الخلية الكبدية الواحدة، وحوالي 500000 متقدرة في الأميبا، وتبني المُتقدرات نفسها وتنقسم بشكل مستقل عن الخلية. وهي تنقسم عن طريق الانشقاق -الانشطار الثنائي-لتكون كرتين وينمو كل جزء منهما إلى ميتوكوندريا جديدة ومن ثم يتكرر الانقسام. كما تحتوي علي جزئ الحامض النووي دنا الخاص بها (mtDNA). وتحتوي النواة على الشفرة الجينية لبقية بروتينات المتقدرات. وتم التواصل مع المتقدرات عبر نقل رموز تلك الشفرة خلال غشاء الميتوكوندريا الخارجي والداخلي.

البطاريات الإنزيمية

المُتَقَدِّرَات (محولات الطاقة في الخلية) غنية جداً بمحتواها من الإنزيمات المؤكسدة، والكالسيوم، وتعتبر مركز الاستقلاب الأساس في الخلية، ومسؤولة عن عدة وظائف خلوية مهمة، ومن أهم أدوارها الحيوية استخلاص كمية كبيرة من الطاقة المخزنة بالمواد الغذائية، ثم تستخدم هذه الطاقة في انتاج المركب البيوكيماوي “ادينوسين ثلاثي الفوسفات” (Adenosine Tri-Phosphate) (ATP) خلال دورتي كريبس، والتزامن بين الأكسدة والفسفرة. ومن ثم يتم نقله إلى خارج الميتوكوندريا. ويعتبر مركب (ATP) بمثابة “العملة – النقد- الوقود” الذي يدير الحياة بأكملها داخل جسم الكائن الحي. فبواسطته يتم تنفيذ شتي العمليات الأيضية المختلفة. لذا تعتبر “الميتوكوندريا” “كبطارية سيارة”، فإذا توقفت “خلايا الطاقة” توقفت السيارة كلها. واللافت أن المتقدرات (الميتوكوندريا) تورث فقط من الأم. هذا بسبب أن الجنين يبدأ من اندماج حيوان منوي مع بويضة، والحيوان المنوي يُدخل نواته فقط داخل البويضة، وبينما يكون باقي مكونات الخلية الناتجة بما في ذلك من بويضة الأم.

خلل الميتوكوندريا

يملك الشباب ميتوكوندريا نشطة، ولكنها تشيخ كما يشيخ الإنسان، ويظهر آثار ذلك بدنياً. وتبين عبر الدراسات أهمية أسلوب الحياة السليم صحيًّا، وعدم التدخين، وتناول الطعام الطازج خصوصاً اللحوم خالية الدهون، والسمك، والخضروات الورقية، وبذور العنب، وزيت النباتات، وفول الصويا، وراحة الجسم، وممارسة التمارين بشكل منتظم، حيث تسهم الرياضة في زيادة حجم شبكة المتقدرات ومحتواها من الإنزيمات.

لكن من الممكن حدوث خلل (cytopathies) في الميتوكوندريا في خلايا المخ أو الكبد أو خلايا القلب أو الأعصاب إلخ، وتم تحديد عدد من الجينات بالميتوكوندريا تقف وراثياً، وراء الاستعداد للإصابة بالعديد من الأمراض مثل داء الزهايمر، وداء باركنسون، وضعف العضلات والتخلف العقلي والجلطات والداء السكري، وعدد من الأمراض المرتبطة بالتقدُّم في العمر، كما أن التغيرات بجينات الميتوكوندريا مرتبطة باضطرابات المزاج، والفصام الذهني. وهناك دراسات أوضحت أن وجود خلل في الميتوكوندريا في خلايا أطفال التوحد. وقد لا تظهر أعراض حادة على العديد من الأطفال المصابين بخلل في عمل الميتوكوندريا. لكن قد يعانوا من ارتخاء العضلات-تشنجات صعوبة في المشي- إجهاد تأكسدي- بطء في التفكير… إلخ.

أسلوب الحياة السليم والصحي، يسهم في زيادة حجم شبكة المتقدرات ومحتواها من الإنزيمات

نموذج من جدالهم “الهلامي”

ورد في بحث حديث بجامعة فيرجينيا أن الميتوكوندريا كانت في الأصل طفيليات طاقة قبل أن تؤول إلى ما هي عليه الآن، وقد ظهرت منذ حوالي مليارَيْ عام قبل ظهور أي شكل من أشكال الحياة المعقَّدة، ومع ذلك لا تزال معرفة العلماء عنها محدودة؛ لذلك لا تزال موضِعَ بحثهم وتم الاستعانة بتكنولوجيا تسلسُل دنا DNA من الجيل الجديد لفك شفرة جينومات 18 نوعًا من البكتيريا التي تُعَدُّ أقاربَ للميتوكوندريا بحثًا عن إعادة بناء المحتوى الجيني لأسلاف الميتوكوندريا، وخلص البحث إلى أن الميتوكوندريا كانت في الأصل طفيلاً على الخلية، ومن ثَمَّ تتعارض هذه الدراسة مع النظريات السائدة القائلة بأن العَلاقة بين الميتوكوندريا والخلية المضيفة كانت تقوم على تكافل وتبادل منفعة، لكن البعض يري أن العَلاقة كانت عدائية؛ حيث إنها كانت طفيلا يسرق الطاقة “ثلاثي فوسفات الأدينوسين” من عائلها، لكنها أصبحت فيما بعدُ نافعة للخلية العائلة.

ومعلوم أن الميتوكوندريا تمد الخلية بمركَّب ثلاثي فوسفات الأدينوسين/الوقود الذي يدير الحياة بأكملها، وبدون الدَّوْرِ النافع الذي تلعبه الميتوكوندريا في إمداد باقي الخلية بالطاقة لما تطوَّر مثل هذا التنوُّع البيولوجي الرائع. لكن البكتيريا الطفيلية تحيا على امتصاص الطاقة من العائل، ولعل “خصوصية” المادة الوراثية في الميتوكوندريا أشبه بالمادة الوراثية للبكتيريا والمختلفة عن الموجودة في نواة الخلية جعل البعض يعتقد أن أصلها بكتيريا دخلت في خلية أكبر لكن: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا” (النساء: 39).