المنهاج النبوي في المداعبة والمزاح

الإسلام دين الوسطية، ولقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الوسطية “جَعْلاً إلهيّا”، وليس مجرد خيار من خيارات المؤمنين بالإسلام، فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(البقرة:143). ونحن نلاحظ أن هذه الآية الكريمة قد جعلت الوسطية علة وسببا يترتب عليه اتخاذ الأمة الإسلامية موقع “الشهود” على العالمين، بما في هذا العالمين من أمم وشعوب وملل ورسالات وثقافات وحضارات.. وذلك التعليل وثيق الصلة بمعنى “الوسطية” ومعنى “الشهود”.. فالوسط -كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- هو العدل. والعدل هو الشرط المؤهل للشهادة والشهود على العالمين. ولأن هذه الأمة الخاتمة قد آمنت بكل النبوات والرسالات والكتب السماوية، كانت وحدها المؤهلة عدالتُها بالشهادة على العالمين، بما في ذلك الشهادة على تبليغ كل الرسل رسالاتهم إلى أمم هذه الرسالات.

تحديد المصطلحات والمفاهيم

وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أنه “لا مُشاحَّة في الألفاظ والمصطلحات”، فإن انتفاء هذه “المشاحة” واقف فقط عند استخدام هذه الألفاظ وهذه المصطلحات، أما المضامين والمفاهيم المقصودة من وراء استخدام هذه المصطلحات فإن فيها الكثير والكثير جدا من المشاحات، وخاصة عندما تتعدد -وأحيانا تتناقض- المفاهيم المرادة من وراء المصطلح الواحد؛ بسبب تعدد الثقافات والحضارات والفلسفات والمواريث.
فمصطلح “الدين”، تستخدمه وتردده كل الأمم والشعوب، لكن مفهومه ومضمونه عند أهل “الديانات الوضعية” غيُره عند أهل الديانات السماوية. ومفهومه ومضمونه في الفلسفات المادية يعني: الإفراز الخرافي والأسطوري للعقل الإنساني في مرحلة الطفولة من تطور الإنسان؛ بينما يعني “الدِّين” في النسق الرباني: الوضع الإلهي الذي نزل به الوحي الأمين على الأنبياء والمرسلين، لسَوْق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الهداية والخير في الدينا والآخرة.
ومصطلح “السياسة”، تستخدمه وتردده كل الأمم والشعوب والثقافات، لكنه يعني في الحضارة الوضعية الغربية: فن الممكن من الواقع تحقيقاً للقوة، وذلك بصرف النظر عن علاقة هذه التدابير السياسية بالقيم والأخلاق؛ بينما يضبط النسق الإسلامي -في فلسفة السياسة- هذه التدابير السياسية بالقيم والأخلاق. فالسياسة -في هذا النسق- هي “التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”. وفارق جوهري بين هذا المفهوم للسياسة، وبين مفهومها وفلسفتها الغربية عند “ميكيافيللي”، ذلك الذي شاع في فلسفة السياسة بالحضارة الوضعية الغربية ولا يزال شائعا وحاكما حتى هذه اللحظات.
“والإقطاع”، مصطلح تردده كل الأمم والشعوب، لكنه يعني في الحضارة الغربية: ملكية الأرض ومن وما عليها؛ بينما هو في النسق الإسلامي: تمليك منفعة، لإحياء الأرض الموات، واستثمارها والانتفاع بها، وفق الضوابط التي وضعها -في الشريعة- مالك الرقبة في كل الأموال والثروات سبحانه وتعالى.

مع مصطلح الوسطية

وكذلك الحال مع مصطلح “الوسطية”، الذي يعني -في “الفكر السُّوقي”- التَّميُّع وانعدام التحديد، وافتقار الموقف “الوسطي” إلى اللون والطعم والرائحة! والذي يعني في الفكر الأرسطي وفلسفة “أرسطو”: الفضيلة بين رذيلتين، أي الموقف الثالث الذي هو بمثابة نقطة رياضية ثابتة بين قطبين، مع المغايرة الكاملة بين هذا الموقف الثالث (الوسطي) وبين هذين القطبين. ولكن المفهوم الإسلامي للوسطية ليس كذلك، فهي وسطية جامعة، تمثل موقفا ثالثا بين القطبين المتقابلين والمتناقضين، لكنها لا تغاير هذين القطبين مغايرة تامة، وإنما هي تَجمع منهما عناصرَ الحق والعدل لتكوِّن منها وبها هذا الموقف الوسطي الجديد. فهي في حقيقتها رفض للغلو الذي ينحاز إلى قطب واحد من هذين القطبين (غلو الإفراط أو غلو التفريط).
فوسطية الإسلام الرافضة للغلو المادي والغلو الروحي هي وسطية لا تغير المادة والمادية ولا الروح والروحانية كلية، وإنما هي الوسطية الجامعة لعناصر الحق والعدل من المادية والروحانية جميعا، على النحو الذي يوازن توازن العدل بينهما. ولذلك فإنها (هذه الوسطية الإسلامية الجامعة) تصوغ الإنسان الوسط: راهب الليل وفارس النهار، الجامع بين الفردية والجماعية، بين الدنيا والآخرة، بين التبتل للخالق والاستمتاع بطيبات وجماليات الحياة التي خلقها الله وسخرها لهذا الإنسان.

الرسول القدوة

ولأن النموذج والقدوة والأسوة تنهض بالدور الأول في ميدان التربية والتزكية والصياغة للإنسان والمجتمع والثقافة والحضارة، فلقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون القدوة والأسوة للأمة الوسط ذلك النبي الأمي الذي جسدت حياته أكمل نموذج لوسطية إسلامية جامعة يمكن أن يتحقق في دنيا الناس. لقد صنعه الله على عينه ليكون نموذج هذه الوسطية الإسلامية وقدوتها وأسوتها. فهو بشَر يوحَى إليه، بشر تجوز عليه كل عوارض البشرية، يولد ويمرض ويألم ويموت. وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ولا يأتي من الخوارق إلا ما آتاه الله. وفي ذات الوقت -ولأنه يوحى إليه-فلقد مثَّل رباط وارتباط الأرض بالسماء، وحلقة الوصل بين عالم الشهادة وعالم الغيب. وبعبارة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: “فإن روحه صلى الله عليه وسلم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية. فهو يشرف على الغيب بإذن الله، ويعلم ما سيكون من شأن الناس فيه، وهو في مرتبته العُلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهو في الدنيا كأنه ليس من أهلها، وهو وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها. يتلقى من أمر الله ويحدّث عن جلاله بما خفى عن العقول من شؤون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه. معبرا عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ولا يبعد عن متناول أفهامهم. ثم هو بعد ذلك بشر يعتريه ما يعتري سائر أفراد البشر”، مما لا يقدح في مقتضيات رسالته.
لقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فكان على خلق عظيم، وجَمعت حياته وسياساته بين الاجتهاد الإنساني وبين الوحي المسدِّد للاجتهاد، والحاكم فيما لا يستقل به الاجتهاد. هو صلى الله عليه وسلم العابد المتبتّل الذي يقف بين يدي مولاه حتى تتورم قدماه. وهو الذي جعل رهبانيته ورهبانية أمته الجهاد في سبيل الله، حتى لقد كان الفارس المقاتل الذي يحتمي به الفرسان إذا اشتد القتال وازداد البأس وحمي الوطيس واحمرت الحدق، فلا يكون أحد أقرب إلى الأعداء منه عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك كان أشد حياء من العذراء في خدرها، ولقد جعل الحياء في شريعته شعبة من شعب الإيمان. كان أشجع الناس وأحلم الناس، كانت عبادته مجاهدة وجهادا، وكان جهاده عبادة وتقربا إلى الله.
وفي قدوته وأسوته جمعت الوسطية بين قوة الصبر والمصابرة وبين ذروة الخشوع والخضوع في الصلاة ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾(البقرة:45).
وكذلك جمعت قدوته وأسوته بين الرفق الرفيق بالإنسان -مطلق الإنسان- والحيوان والنبات والبيئة -بما في ذلك الجماد- لأنها جميعها حية تسبح بحمد خالقها -حتى وإن لم نفقه تسبيحها-، وبين الغضب الشديد لدين الله وحرمات الله وحدود الله. كما جمعت قدوته وأسوته بين زهد الغَنِيّ في متاع الدنيا وبين عشق الجمال الذي خلقه الله وبثه زينة في هذا الكون الجميل. فكانت وصاياه باختيار الاسم الحسن والاستمتاع باللهو الحلال والاستعاذة بالله -في دعاء السفر- من كآبة المنظر، ودعائه ربه في صلاة الاستسقاء: “اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها” (رواه الطبراني في الأوسط). كما جمعت وسطيته بين تفضيل الحياة مع المساكين -لا الملوك الجبارين والمترفين- وبين الرقة والزينة، حتى لقد جاء في صفاته وشمائله أنه “لم تكن يد ألين من يده ولا ريح أطيب من ريحه أطيب رائحة من المسك. فكان وجهه يبرق من السرور. وكأن عرقَه اللؤلؤ” (رواه الإمام أحمد). كما جمعت وسطيته بين تبتل العابد عندما يعتكف بالمسجد وبين الزينة حتى أثناء الاعتكاف، فكان يناول رأسه لعائشة رضي الله عنها وهي في حجرتها لترجِّل له شعره، عليه الصلاة والسلام.
وهكذا جسدت القدوة والأسوة النبوية بهذه الوسطية الإسلامية الجامعة نموذج الإنسان الكامل الذي امتاز وتميز عن غلو الإفراط والتفريط.
وهذا النبي الأميّ الذي نهض لتغيير العالم في شؤون الدين والدنيا، وتقدم لتحويل مجرى التاريخ، ومفهوم الثقافة والحضارة، ومعنى إنسانية الإنسان. والذي كابد ما كابد -ثلاثة عشر عاما في المرحلة المكية- وبنى الدولة وبلور الأمة وقاد من الغزوات والسرايا والبعوث ما زاد على الستين -في تسع سنوات من المرحلة المدنية-، هو الذي جمعت وسطيته بين هذه المجالدة والمكابدة وبين الترويح عن النفس لتجديد ملكات وطاقات هذه النفس؛ كي تستطيع النهوض بتبعات المجالدة والمكابدة والمجاهدة، وكي تستمتع بما خلق الله في هذه الحياة من ألوان الجمال وعوامل المتاع والاستمتاع.

حول مفهوم الملحة والطرفة والنكتة والمزح

وبين يدي هذه الإشارات واللمحات عن هذا الجانب من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لابد من تحديد المعاني والمفاهيم لمصطلحات “المُُلحة” و”الطرفة” و”النُّكتة” و”المزح” في اصطلاح العربية وثقافة الإسلام.
فالمُلْحَةُ: هي القول والفعل الذي فيه ظُرف. وفي أساس البلاغة: “.. ومن المجاز: وجه مليح، ووجوه ملاح، وما أملح وجهه وفعله، وما أُمَيْلِحَه، وله حركات مستملَحة. وحدثتهُ بالمُلح. وفلان يتظرف ويتملّح”. وفي لسان العرب: “عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصادق يعطى ثلاث خصال: المُلحة، والمهابة، والمحبة”. فالمُلحة: هي القول أو الفعل أو الحركات الظريفة التي تُكْسِب الحديث أو الموقف مُلحة وظُرفاً. وهو قصد زائد على الضروري من الأقوال والأفعال. والوسط فيها هو المحمود؛ لأنه بمثابة الملح للطعام؛ وسطه مفيد والإسراف فيه مفسد لأصل الطعام.
والطُّرْفة -وجمعها الطُّرَف- هي المُستحدَث المُعْجِب المُتْحِف، وكل شيء استحدثتَه فأعجبك. فهي القول أو الحركة أو الفعل الظريف الذي يضيف إلى المعنى ما يُعجب ويسر نفوس السامعين والمشاهدين.
والنُّكْتَة -وجمعها نُكت ونِكات- في معناها اللغوي: هي النقطة البيضاء في السواد أو النقطة السوداء في البياض. ومن معانيها: المسألة الدقيقة التي أُخرجت بدقةِ نظر وإمعانِ فكر. وهي في المجاز: المعنى غير المألوف والجملة اللطيفة، تؤثر في النفس انبساطا. ونُكتُ الكلام أسراره ولطائفه.
والمَزْح: هو الدعابة. ونقيض الجد. والمُزَّاح من الناس: هم الخارجون من طبع الثُّقلاء والمتميزون من طبع البُُغَضَاء. فالمزاح هو تلوين الكلام أو الحركات بالدعابة التي تُكسبه ظُرْفاً يُخرجه عن صرامة الثقلاء وجفاف البُغَضاء. هذا عن التعريف بمضامين ومفاهيم هذه المصطلحات.

الإنسان الكامل

ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النموذج الأعظم للإنسان الكامل الذي تكاملت في صفاته وشمائله وأفعاله الوسطيةُ الجامعة والتوازن العدل، فإن حياته وأسوته وقدوته لم تخلُ من المُلح والطرائف والنكات التي نهضت بمهام الترويح عن النفس وتجديد ملكات وطاقات القلوب، والإعانة على جد الحياة وصعابها مع التزام الحق والصدق والعدل أي الوسط والوسطية المتميزة عن الغلو إفراطا كان أو تفريطا.
إننا نطالع في السنة النبوية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمزح أي يداعب أصحابه رجالا ونساءً ولكنه لا يقول إلا حقا. حتى لقد قال له صحابته رضي الله عنهم: يا رسول الله، إنك تداعبنا! فقال: “إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقا” (رواه الترمذي والإمام أحمد). وفي صفاته وشمائله -من حديث علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم-: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر، سهل الخُلق، ليّن الجانب” (رواه البيهقي). ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم” (رواه الترمذي).
وكان صلى الله عليه وسلم يرى اللعب المباح ولا يكرهه. ولقد أفسح لفرقة من الأحباش تلعب وترقص -تَزْفِن- وتغني بمسجد المدينة، وسأل زوجه عائشة رضي الله عنها إن كانت تشتهي أن تشاهدهم وتستمتع بألعابهم ورقصاتهم وأغنياتهم، فوقفت خلفه وخدها على خده [في منظر إنساني رقيق] حتى اكتفت وانصرفت عنهم. وعندما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد وهمّ بنهر الأحباش، أوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجّع الأحباش على مواصلة اللعب قائلا: “دونكم بني أرفدة، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وأني أُرسلت بحنيفية سمحة” (رواه مسلم). ومن حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحيانا ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم، ولا يزجرهم إلا عن حرام (رواه مسلم). ومن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولربما ضحك صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه (متفق عليه). ومن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر (متفق عليه). ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفكه الناس مع نسائه (رواه ابن أبي شيبة).
ولقد روت عائشة رضي الله عنها فقالت: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة، فصنعتُ حريرة (عصيدة، تصنع من الدقيق واللبن والدسم) وجئت به، فقلت لسودة: “كلي”. فقالت: “لا أُحب”. فقلتُ: “والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك”. فقالت: “ما أنا بذائقته”. فأخذتُ بيدي من الصحفة شيئا منه فلطَّختُ به وجهها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فخفض رسول الله ركبتيه لتستقيد مني، فتناولتْ من الصحفة شيئا، فمسحتْ به وجهي، وجعل رسول الله يضحك” (رواه أبو يعلى).
وعن عائشة رضي الله عنها: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما حملتُ اللحم سابقني فسبقني، وقال “هذه بتلك” (رواه أبو داود). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلا دميما قبيحا، فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -وكانت عائشة حاضرة، قبل أن تنـزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك -يا رسول الله- عن إحداهما فتتزوجها؟ فقالت عائشة: أهي أحسن أم أنت؟!. فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه -لأنه كان دميما- (رواه الدارقطني).

صور من مزاحه صلى الله عليه وسلم

عن الحسن رضي الله عنه: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألته أن يدعو الله لها بالجنة، فقال: “لا يدخل الجنة عجوز”. فبكت، فقال: “إنك لست بعجوز يومئذ”، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا﴾(الواقعة:35-37)” (رواه الترمذي).
وعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: إن امرأة يقال لها أم أيمن، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك. فقال لها: “من هو؟ أهو الذي في عينه بياض؟” قالت: والله ما بعينه بياض. فقال: “بلى، إن بعينه بياضا”. قالت: لا، والله. فقال: “ما من أحد إلا وبعينه بياض” (ذكره الزبير بن بكار). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إني حاملك على ولد الناقة”. فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وهل تلد الإبل إلا النوق” (رواه الترمذي). ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول: “يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيْز؟”، -والنُّغَيْز: فرخ العصفور، كان يلعب به الغلام-. (متفق عليه).
ومن رواية زيد بن أسلم رضي الله عنه، عن خوات بن جبير الأنصاري، أن خوات كان جالسا إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة، فطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا أبا عبد الله، ما لك مع النسوة؟!”. فقال: يفتلن ضفيرا لجمل لي شرود. قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم عاد فقال: “يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشَّرَّاد بعد؟!” قال: فسكتُّ واستحييتُ. وكنتُ بعد ذلك أتَفَرَّرُ منه كلما رأيته حياء منه، حتى قدمتُ المدينة، فرآني في المسجد يوما أصلي، فجلس إليّ فطوَّلتُ، فقال: “لا تُطَوِّل، فإني أنتظرك”.. فلما سلَّمتُ قال: “يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّراك بعد؟!”. فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت. فقال: “الله أكبر، ألله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله”. قال -الراوي- فحسن إسلامه وهداه الله” (رواه الطبراني).
وروي أن نعيمان الأنصاري رضي الله عنه كان رجلا مزَّاحا، وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طُرفة إلا اشترى منها، ثم أتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله، هذا قد اشتريته لك، وأهديته لك. فإذا جاء صاحبها يتقاضاه الثمن، جاء له إلى النبي، وقال: يا رسول الله، أعطه ثمن متاعه. فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: “ألم تهده لنا؟!”. فيقول: يا رسول الله، إنه لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن تأكل منه. فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه” (ذكره الزبير بن بكار وابن عبد البر). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب ويداعب الحسن بن علي رضي الله عنهما فيريه لسانه ويقبله، فكأنما استغرب الأقرع بن حابس ذلك من رسول الله فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحداً منهن، فقال صلى الله عليه وسلم: “من لا يرحم لا يُرحم” (رواه مسلم).
تلك نماذج وإشارات من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصفاته وشمائله، ومن سنته القولية والفعلية مع أهله، ومع صحابته -من الرجال والنساء- شاهدة على البعد الأصيل في المنهاج النبوي، والذي يجهله أو يتجاهله الكثيرون، وذلك عندما يحسبون الإسلام خشونة وتجهما، وعندما يريدون من النموذج الإسلامي ومن رجالات العلم الديني أن يكونوا نماذج للصرامة والتخويف، غافلين -أو متغافلين – عن الصورة القرآنية لنموذج القدوة والأسوة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾(آل عمران:159)، بل وحتى مع الأعداء، أمر الله سبحانه وتعالى صاحب الخلق العظيم برفق التدافع مع هؤلاء الأعداء -ناهيا عن عنف الصراع- لأن هذا المنهاج هو السبيل لتأليف القلوب وإحداث التحولات في هذه القلوب ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّـئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون:96)، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّـئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:33-34).
لقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجا للإنسان الكامل، العابد المتبتل، والفارس المقاتل، والرحيم الرفيق، والغاضب لحرمات الله وحدود الله، والباشّ المداعب والمفاكه لأهله وأصحابه بالمُلح والطرائف والنكات، وصولا إلى مفاتيح القلوب، وفقه النفوس والعقول، لتحقيق سعادة الإنسان في هذه الحياة وفيما وراء هذه الحياة.
ففي البشاشة والدعابة والمزاح والملح والطرائف -إذا استقامت وأعانت على تهذيب القلوب وتجديد الملكات وتأليف النفوس- رحمة يكتبها الرحمن في حسنات الرُّحماء.
__________________
المصادر
(1) إسلامية المعرفة.. ماذا تعني؟ للدكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة 1999م.
(2) الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، دمشق 1982م.
(3) إعلام الموقعين، لابن القيم، بيروت 1983م.
(4) المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، للدكتور محمد عمارة ، دار الشروق، القاهرة 1993م.
(5) معالم المنهج الإسلامي، للدكتور محمد عمارة، دار الرشاد، القاهرة 1997م.
(6) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة 1993م.
(7) الإسلام والفنون الجميلة، للدكتور محمد عمارة، دار الشروق، القاهرة 1991م.
(8) الغناء والموسيقى حلال أم حرام، للدكتور محمد عمارة، دار نهضة مصر، القاهرة 1999م.
(9) لسان العرب، لابن منظور، دار المعارف، القاهرة 1981م.
(10) أساس البلاغة، لمحمود الزمخشري.
(11) قاموس المنجد، للويس معلوف، بيروت 1986م.
(12) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، طبعة مصورة، دار الشعب القاهرة. ولقد خرج العراقي ما أورده الغزالي من أحاديث في هذا الجانب –جانب الدعابة والملح والطرائف والنكات- من سنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكتابه “المغني عن حمل الأسفار في الأسفار، في تخريج ما في الإحياء من الأخبار” مطبوع بهامش هذه الطبعة من الإحياء.
(13) الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، دار الوفاء، مصر، 1999م.