اختفت “اقرأ” عن عقول المسلمين أزمنة بعيدة وقرونًا مديدة، بسبب هجرانها في ديارهم ورحالهم ومناهجهم ومجتمعهم، فقررت أن تخرج إلى واقع الناس لتحاور المسلمين، لعلها تُحيي النفوس التي عشش فيها الجهل، وتوقظ الهمم التي أماتها ضعف الإرادة. وكان من أول مَن لَقيَت من المسلمين، مسلمًا يزعم معرفة الإسلام ويدَّعي الإلمام به، فسألته بأدب جم وخطاب راقٍ عن مفتاح الإسلام، فأجابها على السؤال من منظوره للإسلام واستيعابه لحقائقه وأهدافه بأنه “الشهادتان”. فقالت:

– ألم يخطر ببالك أن يكون الجواب، هو البشرى الربانية التي منَّ بها الله سبحانه على محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(العلق:1-5)؟

أتعلم أن الإسلام العلمي لا يقبل الدخول إليه إلا بلفظ “اقرأ”، والاغتسال من جنابة الجهل والأمية؟ هل تعلم أن “اقرأ” أول لفظ قرع أذن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأنها أول أمر نقل النبي صلى الله عليه وسلم من عالم الأمية إلى تحقيق مقاصد التعليم في رسالة رب العالمين؟

فتعجَّب من جوابها وسكت مستغربًا، ثم سألته:

– هل تعلم أن الإسلام بيتٌ له أركان لا يقام من دونها؟

فأجابها دون تردد: “نعم”. فقالت:

– قد يوجد البيت وتوجد معه أركانه وينقصه مفتاح، فما مفتاحه يا صديقي الذي هو سر البيت ومنبع أنواره؟

فسكت دون أن يبدي جوابًا وطلب منها الجواب فقالت:

– إن مفتاح الإسلام هو “اقرأ”، وبدونها لا تكشف حقائق الدين ومقاصد الإسلام، وإن الله قبل أن يأمر نبيه في أول آية بالسجود الذي هو أعظم صور العبودية التامة لله عز وجل وأقرب ما يكون العبد من ربه وأفضل صور الصلاة التي تعتبر اتصالاً روحيًّا مستمرًا بين الإنسان والخالق، فقد سبقه الأمر بـ”اقرأ” ثم ختمه بقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(العلق:19)، وكأن الإنسان يقرأ ليسجد فيقترب من الله عز وجل ومن العبودية التامة ومن دين الإسلام الحق.

ثم أردفت:

– أتدري أنه تنتشر بين المسلمين أفكار مؤدّاها أن الدخول إلى الإسلام يحتاج إلى الشهادتين والاغتسال من الجنابة؟

فقال هذا مما هو معلوم من الدين بالضرورة. فقالت:

– أتعلم أن الإسلام العلمي لا يقبل الدخول إليه إلا بلفظ “اقرأ”، والاغتسال من جنابة الجهل والأمية، لأنه تعالى قال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد:19)؟ هل تعلم أن “اقرأ” أول لفظ قرع أذن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأنها أول أمر نقل النبي صلى الله عليه وسلم من عالم الأمية إلى تحقيق مقاصد التعليم في رسالة رب العالمين؟ وأنها أول لفظ جاء في صيغة الخطاب الأمري التكليفي للفرد والجماعة؟ وأنها بداية بناء الأمة ونهاية مطلب بقائها قوية إلى آخر الساعة، ومع هذا لا زال سر هذه الكلمة المفتاح في حكم يفتقر إلى من يعلمه ويبث نوره في أفاق الدنيا؟ وأنها كلمة لا تزال تتحدى بإيجازها كثرة عقول المسلمين في مشرق الأرض ومغربها، ليعقلوها ويَفُكّوا لغزها السماوي الكوني الذي يجمع بين قراءة كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور؟ ولو أن المسلمين اليوم انتهوا من هذا الجدال الفكري والخلاف المذهبي الذي هدم قواعد قوة المسلمين واعتصموا بقانون “اقرأ”، لحسموا معارك فكرية -قادها أبو جهل وأخته أمية- أصاب عقل الأمة فجُنّت، وساسها في الحكم فاستعبدها، وسبقها في مقدم الركب فأخرها.. فانتهى حال الأمة يا صديقي إلى الإغراق في أوهام فكرية ظنها الناس علومًا، وسمّوها فنونًا، وتسابقوا على حرزها وتنافسوا في حفظها وعقدوا مجالس لتلقينها حتى سكنت أرواحهم لسكراتها.. ولو سألت أحدهم: يا صديقي ما محل إعراب هذه العلوم والأفكار في حياتك؟ لأضمر الجواب وقدره في حكم الكائن والمستقر في نفسه لا في حكم المستقر في الواقع والحياة والمجتمع والكون. فلا عقل يفكر، ولا نظر ينتقد، ولا علم يهدي، ولا دليل يُسترشد به.. هذه هي عاقبة الإعراض عن الهدي المنهجي لـ”اقرأ”.

يا صديقي هل سألت نفسك يومًا عن جهلك وأنت مُعْرِض عن “اقرأ” ويستمسك بها غيرك؟ هل حاسبت نفسك وعرفت معنى ذلك؟ إنه نهاية وجودك، وانقطاع عرفاني بينك وبين أنوار الوحي، وخروجك من مملكة الرب، التي أنت خليفة لله فيها، لأنك السر الذي عجزت الملائكة عن الإحاطة بمكنونه، قال الله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة:30). هل فكرت في هذا السر مرة في حياتك؟ هل سألت عن سبب إسجاد الملائكة لك سجود تحية وسلام؟ هل سبب ذلك جمالك أو لونك أو جسمك أو هيئتك؟

إن مفتاح الإسلام هو “اقرأ”، وبدونها لا تكشف حقائق الدين ومقاصد الإسلام، وإن الله قبل أن يأمر نبيه في أول آية بالسجود الذي هو أعظم صور العبودية التامة لله عز وجل وأقرب ما يكون العبد من ربه وأفضل صور الصلاة التي تعتبر اتصالاً روحيًّا،  فقد سبقه الأمر بـ”اقرأ” 

فسكت سكوتًا عميقًا ولم يعد يستطع النطق. فقالت:

– إنها علم “اقرأ” الذي به ارتقيت، قال تعالى: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(البقرة:33)، تأمَّل في القرآن؛ ففيه ما يرشد إلى الحق لتعلم ما فضلت به على سائر المخلوقات. أظنك الآن علمت سر وجودك وفضلك على سائر المخلوقات.

قال: نعم. فقالت:

– إنه قبولك الفطري واستعدادك الخلقي لتلقي قانون “اقرأ” الذي يربط بين رسالة السماء وعمارة الأرض، وبين وجود الإنسان وغايته في الكون. ولن تختلف معي يا صديقي بأن “اقرأ” في الإسلام، عقيدة وقانون ونظام وإستراتيجية وسياسة وتشريع واقتصاد وتربية وإصلاح وخلافة ومنهج حياة.. هل تعلم أن الله لولم يُنزل كلمة على هذه الأمة إلا كلمة “اقرأ”، لكفتهم؟ هل علمت أن المسلمين لو عرفوا السر الإلهي في كلمة “اقرأ” -لتكون أول من نزل- لَعلموا أن أول الواجبات الضرورية في الدين التي لا يدخلها تخصيص أو نسخ، هي “اقرأ”، ولانشغلوا بها بدل هذا التمزق الفكري الذي فرَّق الأمة فرقًا وأحزابًا وجعلها في أسفل السافلين خلف الركب الحضاري البشري؟

أتدري يا صديقي أن قاعدة الإسلام وقانون مملكة الرب؛ أنه لا يقبل في حضارته من لا يقرأ، ولا يرضى أن ينتسب إلى أمته من لا يتعلم؟

أما يكفيك يا صديقي أن تقتنع بما قلته؟ فالله لم يعذر بـ”اقرأ” سيد المرسلين حينما خوطب من بيت العزة بنداء “اقرأ” التي خرقت السبع الطباق، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بقارئ ثلاث مرات” (رواه البخاري). أظنك فهمت أن مقام النبوة يستدعي الاستجابة لطلب “اقرأ”، وأنه لا يليق بنبي ختم الله به الرسالة واصطفاه ليكون قدوة البشرية أن يتجاهل قانون “اقرأ”، ويتركها في تبليغ رسالته إلى الناس.

هل تعلم يا صديقي أن سر إعجاز القرآن كامن في كلمة “اقرأ”؟ أما تساءلت يومًا عن سر تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من “اقرأ”؟ فلما قرأ صلى الله عليه وسلم حدثت المعجزة، وبها انتقل النبي إلى الناس برسالة العلم والقراءة، قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(آل عمران:164)، وحطم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بـ”اقرأ” صنمًا كان يُعبد إلى جانب أصنام الشرك التي كانت تقدَّم لها القرابين، وهو صنم الجهل والأميَّة، فشرع بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يا صديقي سنَّة كونية من سنن الإسلام وفرائض الدين التي تركها المسلمون وأخذها غيرهم من الأمم وهي سنَّة “اقرأ”، وبسبب تركها كفريضة إلهية في حياتهم، جاء أجل المسلمين قبل أوانه، فاستسلموا لداء الجهل بدل أن ينفروا في سبيل العلم، وخلدوا لأرض الأميَّة عوض أن يرحلوا إلى سماء “اقرأ”.

فما دام -يا صديقي- معشر المسلمين لا رغبة لهم في شد الرحلة لأرض “اقرأ”، فسيعذَّبون في هذه الحياة بجهلهم، ويستبدل الله بهم قومًا غيرهم يعرفون قيمة “اقرأ” في حياتهم.

فلْتعلم يا صديقي أن الله ينصر الأمة التي “تقرأ” وإن كانت غير مسلمة، ولا ينصر الأمة التي لا تقرأ وإن كانت مؤمنة؛ لأن “اقرأ” منصورة بك أو بغيرك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(محمد:7).

لا أريدك يا صديقي أن تقول في يوم من الأيام “لا أقرأ”؛ لأن “اقرأ” سنة نبي الإسلام، وترْكُها من أفظع أنواع الهجر لكلام الله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)(الفرقان:30)، فكل تشريعاته وأحكامه تنبني عليها، وبدونها لا يكون إسلامك معتبرًا وانتماؤك مقبولاً، وهو ما فهمه جيل نزول الوحي والتفوا حول هذه المعجزة الخالدة التي اشتق اسمها من القراءة. والقرآن يا صديقي أنزل ليقرأ ويفهم، قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود:1)، ويقرأ ويعمل به قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(القيامة:18)، ويقرأ وينشر نوره في الكون.

أتمنى من الله تعالى أن ينفعك ما أخبرتك به، ويكفي أن تقيد في كتابك وتنقش على سويداء فؤادك أن مفتاح الإسلام هو “اقرأ”، وأنها كلمة لو كان البحر مدادًا لها لنفد البحر قبل أن تنفد كلمة “اقرأ”، ولو أن كل المسلمين اليوم في كفة، و”اقرأ” في كفة، لمالت بهنَّ “اقرأ” ميلاً عظيمًا إلى الارتقاء نحو مدارج الحق ومنازل التقوى ومسالك الرشد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتب وباحث / المغرب.