المصيبة وضمير المؤمن الرضي

عجيبة هي لفظة “المصيبة” التي نحتها القرآن نحتًا جديدًا، بأبعاد ودلالات لم تكن معروفة في لغة العرب قبل نزول الوحي؛ ولو أتيت اليوم لترجمتها إلى اللغات الأخرى، فإنها تحتاج إلى “سلَّة من الألفاظ” ولا توافيها حقَّها، من مثل “catastrophe – disaster – calamity – damage” وغيرها مما يشرحها ولا يترجمها.
والمصيبة في العربية مشتقة من مادة “صوب، ومنه “أصاب، يصيب”، ومن المادة ننحت “صوبٌ، صوابٌ، صيّبٌ، مُصيبة”؛ والمصيبة ما يصيب الإنسان سواء أكان مكروهًا أو مرغوبًا؛ إلاَّ أنَّ مألوف اللغة اختصرها على “كل مكروه يصيب الإنسان ويحل به قهرًا”.
وفي كتاب الله تعالى ورد اللفظ “مصيبة” عشر مرات، ولقد أخذت آيتين، وحاولتُ ربطهما بما أصاب الناس اليوم من مكروه الوباء، وهما:
قوله تعالى في سورة البقرة: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ  أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ(البقرة:155-157).
وقوله سبحانه في سورة التوبة: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(التوبة:51).
ثم سافرتُ بالآيتين إلى التراث البشري كله، وإلى الفلسفات الشرقية والغربية عبر التاريخ، من أكثرها تفاؤلاً إلى أشدها تشاؤمًا؛ وقرأت في الفلسفة، والأدب، والرواية، والدين.. لعلي أجد موقفًا من “المصيبة” و”الابتلاء” أشبه بما ورد في الآيتين، فلم أهتد إلاَّ إلى ما كان مصدره الوحي في الديانات الأخرى، مما يظهر عليه عدم التحريف.. ولكن بشهادة عالم محقق مثل “جيفري لانغ”، مثل هذه المعاني غير المحرَّفة في التراث المسيحي مثلاً، لا توجد للأسف، إلا قليلاً.
والعجب في ذلك أن يلازم لفظ المصيبة معان من مثل: البشرى، والصلوات، والرحمة، والهداية، والمكتوب، والتوكل، والإيمان.. أيْ أنها بهذه المعاني تتحوَّل إلى منحة بعد أن كانت محنة، إلى فرصة بعد أن أضحت تهديدًا.
ومن هنا فهمت لماذا استعمل رسول الله عليه الصلاة والسلام صيغة العجب في سياق علاقة المؤمن بالمصيبة، ثم أكد أنَّ هذه الحظوة ليست “إلا للمؤمن” لا يشاركه فيها غيره؛ فقال: “عَجَبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه له خيرٌ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إنْ أصابته سرَّاءُ شكرَ فكانت خيرًا له، وإنْ أصابته ضَرَّاءُ صبرَ فكانت خيرًا له” (رواه مسلم).
واليوم إذا حلَّت المصيبة بأحد منَّا، أو ببعض منَّا؛ أترانا ننسلخ من إيماننا لنواجهها بفكر حضاري عالمي إنساني؟!
ثم هل نردد ما يردده الملحد، والكافر، والشاك.. الذي لا يؤمن بالله، ولا يؤمن باليوم الآخر، والوضعاني، والعبثي، والفوضوي، والعلموي.. الذي يقصر كلَّ إدراكه وفهمه على ما هو محسوس ومحسوب، وعلى كل ما هو أرضي ومادي من عالم الشهود؛ ويرفض كلَّ ما هو سماوي، ومعنوي من عالم الغيب.
كيف لنا أن نكون ممن يتخذ جميع الأسباب والوسائل، ويجتهد في عالم الشهادة اجتهادًا مطلقًا؛ ثم إذا حلت المصيبة وكانت فوق قدرته وطاقته، فإنه يستسلم لله، ويسلم أمره له، ويقول معنى لا لفظًا فقط: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، سواء أكان رئيس دولة أم طبيبًا في الفيروسات، أم مصابًا بالوباء، أو أحد أقرباء المصاب، أم مسلمًا متألمًا لجميع الناس المصابين عبر العالم.
كيف نقولها بملء فينا ولا نبالي: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(التوبة:51)، وأن نعمل بمقتضى “هو مولانا”، “على الله توكلنا”، و”حسبنا الله”.. لا بمنطق “أنا ربكم الأعلى”، و”ما أريكم إلا ما أرى”؟!
كل الرهان اليوم أن نتعلم نحن أولاً، ثم نعلم البشرية، وقد خاب ظنها في العلم، واكتشفت أنه ليس وحده كافيًا لإسعادها ولرفع الخطر عنها، بل البشرية تبينت أنَّ العلم أحيانًا هو نفسه سبب الشقاء، ومقدمة الوبال، ومنطلق المحن؛ إذا لم يكن مربوطًا بقيم، ودين، وغاية، وروح، أي إذا كان “باسم العلم” لا “باسم ربك”.
هو منعرج في التاريخ لن يعود، إمَّا أن نكون للناس هداة فنحملهم على مقام الجمع، أو نكون لهم مضلين فنولع بهم، ونتبعهم حتى في فكهم الارتباط بالله سبحانه، ونحول المصيبة إلى “هوس”، وإلى “صخب”، و”فوضى عارمة”.. ونعذب الناس بالخوف فيموتوا ويهلكوا به قبل أن يهلكوا بالوباء.
هي فرصتنا إذن، والله وكيلنا وحسيبنا سبحانه.. حين يحلُّ أمر ما بالإنسان، فهو إمَّا يستقبله بعقله فقط، فيحلل ويستنبط، ويبني النتائج على المقدمات، ويستخرج الروابط والعلاقات.. أو يستقبله بقلبه ليس إلاَّ، فيحبُّ أو يبغض، وينفرج مهللاً أو ينقبض متأوهًا، ويصادق فلانًا أو يعادي علانًا لأجل ذلك الأمر.
ولكن، أن يستقبله بقلبه وعقله معًا، بأن يعقل بالعقل ما هو من المعقولات، ويوازن بالقلب ما كان من القلبيات.. فذاك ما عبَّر عنه القرآن بـ”قلب يعقل”، “قلب لا يعقل”؛ وهو ما يسمَّى في التراث المعرفي الإسلامي بالضمير والوجدان.

(*) مدير معهد المناهج، الجزائر العاصمة / الجزائر.