المسجد ودوره في النسيج الحضاري

منذ بناء النبي صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة المنورة، صارت للمساجد مكانة مركزية في الحياة الفكرية والمجتمعية للمسلمين. ومن ثم أضحى المسجد مؤسسة دينية وعلمية بالدرجة الأولى؛ تقام فيه الشعائر الدينية، كالصلوات الخمس، وتلاوة القرآن، وإلقاء الدروس في الفقه والتفسير والحديث.. بل تعدّى ذلك إلى أن يكون مؤسسة اجتماعية واقتصادية وثقافية وقضائية وتعليمية ومعمارية.

دور المسجد في النسيج الحضري

ومن اليسير لزائر المدن العتيقة أن يلاحظ أن المساجد الجامعة تتموقع في مركز المدينة وكأنه قلبها النابض، وهو الأمر الذي وثقه المؤرخون؛ ففي تأريخهم للحواضر الإسلامية الشهيرة -مثل الكوفة أو القيروان أو غيرهما- ذكروا أن المساجد الجامعة هي أول ما رُسم في تخطيطها، فعند وضع خطط الكوفة، كان أول ما عزم عليه المسلمون تحديد موقع المسجد الجامع، وتم اختطاطه بطريقة ذكية، إذ قام رجلٌ في وسطه رامٍ شديد النزع (أي قويه)، فرمى عن يمينه وعن يساره وبين يديه ومن خلفه، وأمر من شاء أن يبني وراء موقع السهام، وترك المسجد في مربّعة غلوتين في غلوتين، وبنى في مقدمته ظلّة من مائتي ذراع على أساطين من رخام.

والقصور -وهي مدن صحراوية منتشرة في بلاد المغرب الكبير- تعدّ من أقدم المراكز الحضرية  العتيقة، وما زالت محافظة على شكلها القديم، وهي ألطف مثال على مركزية المسجد في النسيج العمراني الإسلامي. ففي أعالي كل قصر يأخذ المسجد موقع القلب، وحوله تلتفّ المنازل وسائر البناءات والمرافق، تربط بينها الأزقة والممرات.

في “قصر تاجنينت” بالجزائر، يقع المسجد في أعلى الربوة، معلنًا مكانته المحورية في الحياة الميزابية، ودوره القيادي ووظيفته الحمائية. من يزور مدينة غرداية وأخواتها الستّ، سيلفت انتباهه ذلك التكوين الهرمي الذي يشكله انتصاب المئذنة التي يقف فوق قمة الربوة، فيما يتربع المسجد كالحارس الأمين، وحوله المنازل تنداح دوائر متماسكة تحت سمع وبصر المئذنة.

صمم المسجد ليكون حصنًا، وآخر معقلاً للمقاومة في حالة الحصار، ويضم ترسانة ومخزنًا للحبوب، فهو يشكل النواة المركزية والروحية للقصر. ووظائفه متعددة؛ فهو مكان لأداء العبادات، ومؤسسة علمية، وفضاء لعقد الاجتماعات، ومخزن المؤن، ومركز دفاعي، وملجأ المظلومين لطلب الإنصاف.. لذلك يقام في المدن الميزابية في مكان محصن يصعب الوصول إليه.

تتميز المساجد الميزابية بمآذنها، وتشكل إلى جانب الأبراج نظامًا دفاعيًّا محكمًا. ويتخذها الميزابيون رمزًا لهم؛ مآذنها هرمية الشكل ذات قاعدة مربعة، فمئذنة تغردايت علوها 22 مترًا، وعرض قاعدتها 6 أمتار، وعرض أعلاها متران، وسمك جدرانها يتناقص من متر واحد إلى 30 سم. بجانب المسجد تقع الميضأة ومحاضر تعليم الصبيان، وفوقه المخازن والسطح ومقر اجتماعات العزابة الذي يسمى تامنايت.

الدور الاجتماعي الأمني

اختار المسلمون أن يكون المسجد في قلب المدينة، لأنه يمثل موئلهم الروحي وعقلهم الفعال، خاصة وأن مهامه لا تقتصر على إقامة الصلاة وأداء العبادات، بل تمتد إلى المهام الاجتماعية، لهذا كان انضواؤهم تحت لوائه فيه رمزية الاعتراف بمرجعيته التامة ودوره الواسع الذي ليس له مثيل في أي مكان آخر. فالمسجد في الحقيقة خط الدفاع العسكري والاجتماعي.

في ميزاب بالجزائر، يعتبر المسجد -في العادة- المركز الذي تباشر من خلاله العزابة مهامها التي تمتد إلى مختلف شؤون الحياة وحقولها، وهيئة العزابة ورئيسها الإمام؛ هيئة يختارها السكان للنيابة عنهم وتمثيلهم، وتوكل لها مهام وصلاحيات كثيرة، منها تدبير الحرب ووسائل الدفاع، وعقد المعاهدات والأحلاف. وفي المسجد تعقد جلسات الإشراف على المنافع العامة لمياه السدود التقليدية.

كما يؤدي أئمة المساجد، ومجالس العزابة، دورًا مهمًّا في الإصلاح بين المصلين والتوسط فيما بينهم، وحل المشكلات وفض المنازعات بينهم، ليصبح المجتمع متحابًّّا يسوده الحب والإخاء والأمن والاطمئنان.

ولما كان الأمن والأمان هو الركيزة الأساسية لقيام المجتمعات الإسلامية، كانت المساجد هي صمام الأمان فيها. وجرى العرف في المجتمع الإسلامي، أن المسلم الذي يشعر بأن هناك ظلمًا واقعًا عليه، يذهب إلى المسجد ليمنع المصلين من الصلاة قبل أن يأخذوا له حقه أو يتعهدوا بذلك، إيمانًا بأن المسجد يقوم بدور رئيس في تحقيق الأمن في المجتمع، وظل هذا العرف قائمًا في عدة قبائل ببلاد المغرب الكبير إلى عهود متأخرة.

فإقامة الصلاة ليست مجرد طقس تعبدي، بل هي أداة نشر الفضيلة بين المصلين، والتعاون والتراحم والترابط بينهم، وتحقيق التكافل الاجتماعي في أحسن صورة.

ولكن ماذا يحدث لمن يخالف تعاليم مجلس العزابة؟ يقف إمام المجلس أمام المصلين، ويعلن التبرؤ على رؤوس الإشهاد، ممن يخالف التعاليم الدينية أو يقترف جرمًا في حق غيره. فيتبرأ منه سائر الناس، فلا يجالس ولا يشارك في فرح أو في مأتم، ولا يُقبل البيع والشراء منه.

فالدين الإسلامي الحنيف هو دين انضباط في المقام الأول، وجميع العبادات تشترط انضباط العابد وتنمي فيه هذا السلوك، والصلاة تقوم على الاصطفاف الدقيق في صفوف، واتباع الإمام والاقتداء به. لذلك كان المسجد من أبرز الميادين لتربية المسلم على الانضباط. ويصبح هذا الانضباط الذي يتعلمه المسلم في المسجد، ديدن الحياة والسلوك في كافة تعاملاته، فيتحقق الأمن، والأمن الاجتماعي هو الصورة الحقيقية التي تعكس انضباط الناس.

الدور العلمي الثقافي

المسجد هو بيت الله المفتوح لعباد الله، لم يكن مكانًا للصلاة فحسب، بل احتضن أولى حلقات العلم والتعلم ومجالس المذاكرة والوعظ؛ وكان الرسول  رائد التعليم الإسلامي، إذ جعل من مسجده مجلسًا للقضاء ومدرسة للتعليم، فكان إذا صلّّى الصبح انصرف إلى إحدى أسطوانات المسجد واجتمع حوله بعض صحابته، فيتلو عليهم ما نزل عليه من الوحي ويحدثهم ويحدثونه.

بعد الرسول  توبعت المسيرة العلمية في المساجد، فأصبحت مؤسسات لتعليم الفقه واللغة. ومع ازدهار الحركة العلمية والثقافية في العصر الأموي والعباسي، تعددت وتنوعت حلقات الدرس في المساجد تبعًا لها، حتى أصبحت تضم في جنباتها حلقات للجدل وأخرى للشعر. ولعل هذه الحركة العلمية كانت تفتر أحيانًا وتضعف، لكنها كانت تجد دومًا من يبعثها من رقادها ويجدد نشاطها. ومن هذا ما نقله ابن عساكر في تاريخه من أن الخليفة عمر بن عبد العزيز  وجه إلى عماله في الأمصار كتابًا قال فيه:أما بعد، فامروا أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت.

ولقد فضل الفقهاء دومًا التعلم في المساجد على سواها من المؤسسات، وقد نظم الشاعر الزبيدي عمر بن عاصم في المفاضلة بين المسجد والمدرسة أبياتًا لطيفة قال فيها:

بيع المدارس لو علمت بدارس

غال وأخــسر صفقة للمشتري

دعــهـا ولازم المــســاجـــد دائــمًــا

إن شئت تظفر بالثواب الأوفر

وفي المفاضلة بين المسجد والمدرسة يرى ابن الحاج أن المسجد أفضل؛ لأن السلف كانوا يعلِّمون ويتعلمون في المساجد دون غيرها. وإن لم يخلُ التعليم في المدرسة من الخير والمنفعة والبركة، إلا أن ابن الحاج يفضل التعليم في المسجد، لأن الجلوس للتدريس فائدته أن تظهر به سنة، أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى، والمسجد يحصل فيه هذا الغرض متوفرًا، لأنه موضع اجتماع الناس رفيعهم ووضيعهم، عالمهم وجاهلهم.

والتعليم في المسجد يحقق تعميم المعرفة ومجانيتها، ويضمن استفادة وتمتع جميع الناس -على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية- بحقهم في التعلم.

إن ربط المساجد بالمجتمعات أمر مهم وثمين، وانفتاحها على الناس وحياتهم وقضاياهم من أثمن ما يسعى إليه المسلمون. فالمجتمعات الإسلامية تعاني الجهل، وهو السبب الرئيس في كثير من المعضلات الاجتماعية.. لهذا بادرت الجوامع العصرية الكبرى إلى إحداث المكتبات ومراكز المعلومات المفتوحة لعموم الناس -بغض النظر عن دينهم أو التزامهم الشعائري- وقاعات للتعليم ومحاربة الأمية، وأخرى للمحاضرات.. تستقبل العلماء من كل الديانات، وكافة التخصصات العلمية الدقيقة والإنسانية، والقانونية والاقتصادية وغيرها، وعقد لقاءات لهم بالناس.

(*) كاتب وباحث مغربي.