المحراب عبادة وفن جمالي

كي يتعرف المسلمين على الجهة الصحيحة للقبلة أثناء الصلاة أوجد المحراب، ليكون وجهتهم الصحيحة للصلاة نحو الكعبة المشرفة، هذا المحراب الذي أمسى رمزًا للصلاة وموقعًا جوهريًّا يذكر الناس بعبادة الله عز وجل، تباري الفنان المسلم في تفخيمه والتركيز علي شكله، حتى صار تحفة معمارية، تنطق بالجمال والإبداع، وتعبر في نفس الوقت عن الروح المبدعة، التي تحلى بها المعماري والفنان المسلم.

تعريف المحراب

والمحراب عنصر معماري، يوجد في المساجد والجوامع والزوايا والمدارس، وهو التجويف أو الحنية الموجودة في حائط القبلة، وقيل إنه “الغرفة، والموضع العالي، وصدر البيت، أرفع مكان في المسجد، أشرف الأماكن، أشرف المجالس، و أطلق عليه أيضاً القبلة”(1)، والمحراب لا يتسع إلا لشخص وأحد هو الإمام، يؤدي فيه الصلاة، خلال وقت الذروة، في الأعياد والمواسم وازدياد عدد المصلين، فيكون وجود الإمام داخل تجويف المحراب، متيحًا فرصة لتكوين صف كامل من المصلين، مما يوفر في المكان، أما في الأحوال العادية، فإن الإمام غالبًا يقف بعيدًا عنه، وذلك يعطي انطباعًا، بأن عمل المحراب، لا يزيد عن كونه علامة بارزة لتحديد اتجاه الصلاة.

أنواع المحاريب

تنقسم المحاريب إلي نوعين، محاريب مسطحة، ومحاريب مجوفة

المحاريب المسطحة

هي مجرد رمز يعين اتجاه بيت الله الحرام “الكعبة” على هيئة رسم مسطح أو غائر أو بارز، وتذكر المصادر التاريخية أنه “لم يكن المحراب في مسجد النبي صلي الله عليه وسلم مجوفًا، بل مسطحًا تسطح الجدار نفسه، ولكنه كان محددًا أو معلمًا، وظل في مكانه بعد توسعة المسجد في حياة النبي صلي الله عليه وسلم، حيث كان المحراب في العهد الإسلامي الأول مسطحًا، أما عن المادة التي صنعت منها المحاريب المسطحة، كانت من مادة الجص علي حائط القبلة، ومن أمثلة المحاريب المسطحة الباقية إلى اليوم محراب قبة الصخرة المسطح في المغارة تحت الأرض كما يوجد بمسجد ابن طولون بالقاهرة، خمسة من المحاريب الجصية المسطحة، التي يعود بعضها إلي العصر الفاطمي، والبعض الأخر صنع في العصر المملوكي.

المحاريب المجوفة

تتخذ المحاريب المجوفة، هيئة بنائية وكيانًا معماريًّا فريدًا، ولا يعرف علي وجه التحديد، مكان أول محراب مجوف، في المساجد الإسلامية، إلا أن بعض المصادر ترجع إنشاء أول محراب مجوف إلى توسعة المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك، على يد ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة ” الذي جعل للمسجد محرابًا مجوفًا، وموقعه في الروضة الشريفة، أمام مصلي النبي صلي الله عليه وسلم، فكان هذا أول محراب مجوف في المسجد”(2)، وقد انقسمت المحاريب المجوفة إلي نوعين، محاريب المجوفة ذات المسقط المتعامد الأضلاع، التي ترجع إلي القرنين الأول والثاني الهجري، خلال العصر العباسي كما في “محراب قصر الإخيصر، ومحراب أقدم مسجد باق علي أرض فارس ويعرف باسم طريق خانه”(3)، أما خلال النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، فقد كانت الغلبة للمحراب المجوف، ذي المسقط النصف دائري والذي نجده بكثرة في العمائر الأموية، كما في المسجد الأموي بدمشق، وجامع قصر الحلايات ومسجد خان الزبيب، ومسجد أو الوليد، والمحراب الصغير في قصر المشتى وقصر الطوبة، وجميعها في منطقة الشام، وسرعان ما أنتشر هذا النوع من المحاريب المجوفة، في بناء المساجد في شرق العالم الإسلامي وغربه، علي حد سواء.

مواد المحاريب

نال المحراب المجوف، عناية كبيرة من مؤسسي المساجد، من حيث الاهتمام بعمارته وزخرفته، ونوعية المواد التي غشيت بها تجويفه، ونتوقف هنا، مع أهم المواد التي صنعت منها تجويف المحاريب.

الجص

يعد الجص من أقدم المواد، التي صنعت منها تجويف المحاريب في المساجد الإسلامية، ويعد المحراب القديم في جامع أحمد بن طولون، بمدينة القاهرة، أقدم مثل علي أستخدم الجص في تشييد المحاريب، حيث أستخدم الجص في تشييد محراب المسجد، وذلك من ناحية جداره المجوف وعقود واجهته، وما حولها من زخارف جصية، كلها تعود إلي فترة ابن طولون” ما عدا الكسوة الطاقية، التي من الخشب والتي زخرفت بالألوان، فهي من أعمال السلطان لاجين المملوكي، وكذلك الشريط المزخرف بالفسيفساء والكسوة من الحشوات والأشرطة الرخامية، التي تغطي سطح تجويف المحراب (4)

الرخام

كان الرخام من المواد المفضلة في تغشية محاريب المساجد، ومن أشهر المحاريب الرخامية القديمة، المحراب الذي عثر عليه في جامع الخاصكي ببغداد، وهو عبارة عن قطعة من الرخام وأيضاً محراب جامع عقبة بن نافع بالقيروان، وهو من حشوات رخامية من المرمر المزخرف، ومحراب مسجد الناصر قلاوون بمدينة القاهرة، والذي يعد من أكبر وأفخم المحاريب في مصر، “يكتنفه ثلاثة أعمدة رخامية ذات تيجان كأسية، وفي تجويفه فسيفساء من الرخام، والصدف متعددة الألوان”(5) ومحراب مسجد السلطان حسن “المكسو بالرخام الملون المحلي بنقوش ذهبية، والذي يكتنفه أربعة أعمدة من الرخام، وعلي يمينه المنبر، وهو من الرخام الأبيض، وبابه من الخشب المصفح بالنحاس المنقوش”(6)، كما زاوج المسلمون في المغرب والأندلس في عمل المحاريب، وزخرفتها بين استخدم الجص والرخام، في عبقرية فنية فريدة تفصح عن نفسها في محراب جامع قرطبة الكبير، ومحراب مدرسة يوسف بغرناطة.

الخزف

كما برع الفنان المسلم في استخدام مختلف أنواع البلاطات الخزفية، لتغشية المحاريب، وكان أول ظهور لبلاطات الخزف ذات البريق المعدني، في صنع المحاريب، صنعت في سامراء بالعراق، ثم أرسلت ليزدان بها محراب مسجد عقبة بن نافع بالقيروان، وهي باقية إلي يومنا هذا”(7)، وقد تنافس المغرب الإسلامي مع المشرق الإسلامي، من حيث الشغف باستخدام الخزف، لزخرفة المحاريب، ففي بلاد المغرب والأندلس، خاصة في عصر دولة الموحدين، استخدم الزليج بزخارفه الهندسية الدقيقة والمتعددة الألوان على نطاق واسع، حتى بات من مميزات الفن الإسلامي الرئيسة هناك، كما أثبت الخزافون في المشرق الإسلامي جدارتهم بريادة هذا الفن، من خلال استخدام بلاطات الخزف ذي البريق المعدني، والخزف ذي اللون الأزرق الفيروزي، لتغشية وزخرفة حنايا المحاريب، وذلك بتجميل محاريب البلاطات الخزفية بالكتابات النسخية، التي تحوي آيات من القرآن الكريم، إلى جانبي الزخارف النباتية المعروفة بالتوريق أو الأرابيسك، واستخدمت المقرنصات الخزفية، أيضاً لتزين طواقي المحاريب، مثلما نري في محراب جامع يزد، ومحراب جامع قلبان في بخاري، كما برع الأتراك العثمانيون في فن المحاريب الخزفية، فنراهم يستخدمون بلاطات الخزف المنتجة في أزتيك، ليس فقط لتغشية المحاريب، بل ولكسوة جدران المساجد من الداخل بها.

المحاريب المتنقلة

هي محاريب يمكن نقلها من مكان إلى أخر عند الضرورة، وكانت تصنع من الخشب، ويعني بزخرفتها، حيث كان يستخدم بعضها لإقامة الصلاة في القصور الخاصة بالخلفاء والأمراء، وقد عرفت هذه المحاريب المتنقلة أيضاً في منطقة الموصل بالعراق، وذلك بغرض استخدمها في المصلي الصيفي، للمساجد التي تقع في المناطق القارية، التي يتسم مناخها بالبرودة الشديدة شتاءً، والحارة الشديدة صيفاً، الأمر الذي دفع بالمسلمين في هذه المناطق، إلى تقسيم المسجد إلى قسمين، أحدهما مغلق للصلاة في أوقات الشتاء، والأخر مفتوح لأستخدمه في فصل الصيف ولما كان المحراب الرئيسي، يشيد في الجزء المغلق، فقد كان الاحتياج شديداً لاستخدام المحاريب المتنقلة في المصليات الصيفية، ومن أمثلة هذه المحاريب المتنقلة الباقية إلي اليوم ” محراب السيدة رقية ، بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة ، والذي يعود تاريخه إلي عام 533 هجرية(8).

الهوامش

  • مختار الصحاح، مادة م/ ح/ ب، ص 128
  • وكالة الرئاسة العامة لشئون المسجد النبوي ، محاريب المساجد
  • الفن الإسلامي، أبو صالح الألفي، ص 168
  • المصدر السابق، ص 169
  • المصدر السابق ص 198
  • جامع السلطان حسن، وما حوله، د/ حسن عبد الوهاب، ص 18
  • الفن الإسلامي، مصدر سابق، ص 175
  • موسوعة العمارة والآثار والفنون الإسلامية، د / حسن الباشا، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، نسخة الكترونية