الناظر إلى حال البيئة العربية قبل تلك الليلة الشريفة التي بزغ منها نور الوحي بقرب حراء، يخال له بأن ذلك الشتات المتنافر لن يتّحد أبدًا، ولن ينضوي تحت راية واحدة أبدًا.. لقد كان الواقع كئيبًا، فعلى الصعيد الإيماني ضرب الشرك بأطنابه في كلّ أرجاء الجزيرة، وبلغ الواقع السياسي أدنى دركات التردّي؛ فالأحقاد القديمة المتراكمة عبر القرون لا يمكن تناسيها، وسريعًا ما تثور الحروب بين القبائل المتناحرة لأتفه الأسباب، وقبائل الشمال والغرب تدين بولائها الكامل لهذه الإمبراطورية أو تلك. وأما الحالة الاجتماعية فقد صورها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيف.

غير أن المعجزة حدثت بعد عشرين سنة فقط من البعثة المحمدية. وعلى أنقاض ذلك الركام البائد ظهرت أمة واحدة قوية، تجمّعت أطرافها، واكتملت هويتها، واتضحت رسالتها، واتسعت رقعتها حتى بلغت المشرق والمغرب. قال صلى الله عليه وسلم: “لَيبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز، أو ذُلّ ذليل، عِزًّا يُعزّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يذلّ الله به الكفر” (رواه ابن حبان).

من الغربة كانت البداية

التجديد، رحمة الله تعالى بهذه الأمّة.. وبداية السنا والرفعة كانت على أيدي “الغرباء” الأوائل الذين حملوا الراية، وآمنوا بالمهمّة، وصبروا على مشاقّ الطريق حتى قام على أكتافهم هذا البنيان العظيم. وسيكون كذلك في آخر الزمان، قال : “بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء” (رواه مسلم)، وفي رواية أخرى: قيل: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: “الذين يَصْلحون إذا فسد الناس” وفي لفظ آخر: “يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي”، وفي لفظ: “هم النزّاع من القبائل”، وفي لفظ آخر: “هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير”؛ وفيه بشارة بانتصار الدين ورفعته، والمعنى، كما بدأ الإسلام غريبًا ثم انتشر إلى أقطار الأرض، فكذلك حاله في آخر الزمان. عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، من أسلم معك؟ قال: “حُرٌّ وعبد” (رواه ابن ماجه).

والمجدّدون هم الغرباء الذين يرحم الله تعالى هذه الأمة في فترات الضعف والهوان. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود).

وإذا كانت الرحمة التي بعث الله تعالى بها محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أصابت البشر كلهم، فإن أسعد الناس بهذا الرحمة أمته صلى الله عليه وسلم؛ فهي وإن كانت آخر الأمم من جهة الزمان، إلا أنها السابقة على جميع الأمم من حيث الفضل والشرف، حيث تكفّل الله لها بحفظ كتابه الذي به عصمتها، وكتب لها الغلبة على عدوها، وحماها من الهلاك العام حتى غدت أمة فتيّة لا تهرم ولا تذوي فتوّتها.. عصيّة على الفناء، بعيدة بمجموعها عن التزام الشرك والظلم والفساد. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ مُلك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها” إلى قوله: “ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله” (رواه أبو داود).

المصلحون هم الأساتذة الكبار

المجدّد بشر من البشر، لا يخرج من الأرض ولا يهبط عليه الوحي من السماء. قد يكون مُلهمًا نعم، لكنه ليس معصومًا عن الزلل.. إنه يمارس الحياة كغيره، ويذوق معاناة الناس، ويصيبه من الأذى والفرح ما أصابهم.. غير أنّه نِتاج رعاية خاصّة من كوكبة مباركة من العلماء المصلحين الذين نذروا أنفسهم لتعليمه وصقل شخصيته.

وظهور قوة المجدّد أو ضعفه بعد ذلك -من حيث العلم والعمل- بقدر قوة أولئك المصلحين أو ضعفهم؛ فمجدّد كالشمس، ومجدّد كالقمر، ومجدّد كالنجم، ومجدّد كالسراج.. هذا في مقدار النفع العام وظهوره، وكذلك الحال في سعة شمول العلم وكماله؛ فمجدّد أحاط بعلوم الشرع وظهر أثره في واقع الناس، ومجدّد أحاط بعلوم الشريعة أو بعض فنونها ولم يظهر أثره في الواقع إلا بمقدار ما أخرجه إلى دائرة المجدّدين دون سائر علماء عصره.

ومن هنا فالمجدّد لا يكون إلا عالمًا عاملاً.. وهو من أعيان الطائفة الأولى المباركة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا، فكان منها نقيةً قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به” (متفق عليه).

والمصلحون جند مجهولون، لا يعلمهم إلا الله، وهو الذي يؤلّف قلوبهم تجاه هذا المجدّد أو ذاك؛ حتى إنّهم ليُسهروا ليلهم، ويُجهدوا نهارهم لتزكية روحه، وتفتيق عقله، وتبصيره مراد ربه سبحانه.

وقد شهد تاريخ المجدّدين الأوائل ظهور الكثرة الكاثرة من المصلحين، حتى إنّ المئات منهم ربما تقاطروا صفًّا لتمهيد الطريق أمام مجدّد واحد، يزيحون عن طريقه الشوك، ويوطئون له القلوب والعقول حتى يبلغ تمامه، ويتسلّم الراية من جديد.

بيئة ظهور المجدد

إذا أردت أن تعرف آثار المجدّد الحقّ وبركته في هذه الأمّة، فقارن بين حال البيئة التي بدأ منها، ومآل البيئة التي مات عنها.

إنّ المجدّد غالبًا ما يظهر في بيئة غير نقية؛ مليئة بالمتناقضات، ومفعمة بالنكسات، مع أفراد غير صالحين، أو صالحين غير مؤهلين، ثم لا يلبث إلا فترة وجيزة حتى يقيم الله تعالى به الملة العوجاء، ويفتح به أعينًا عميا، وآذانا صُمّا، وقلوبًا غلفًا، ويحيل به البيئات الخاملة مجتمعات مثالية في الطهر والصلاح، والأفراد إلى نماذج راقية في العلم والأخلاق والكفاح.

وبيئة الجهل هي التي تسبق ظهور المجددين من هذه الأمة، وتعقب قبض العلماء، سواء بفقدهم حال موتهم الحسّي، أو موتهم المعنوي بفقد أدوارهم واتباع شهواتهم رغم كثرتهم. عن عبد الله بن عمرو بن العاص  قال: سمعت رسول الله  يقول: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتّخذ الناس رؤوسًا جُهّالاً؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا” (رواه البخاري).

ورؤوس “الضّلال” هؤلاء سريعًا ما يتصدّرون المشهد -أو يُصدّرون له- عند اضطراب الفتن، وسريعًا ما يُفتضح أمرهم كذلك عند ظهور قوة الحق الدامغة على أيدي المصلحين والمجدّدين، قال الله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون)(الأنبياء:18).

وكما أنّ الظلم المجرّد، حالة تستوجب العقوبة. فإنّ الجهل المجرّد حالة تتنزلّ معها الرحمة وهي أحرى بقبول الهداية من غيرها، بشرط عدم اقترانها بالظلم المستوجب للعقوبة، أو الهوى الذي يصدّ عن الحق.. ونور العلم أعظم رحمة تحلّ في بيئات الجهل تلك. وفرق بين واقع يفشو فيه “الجهل” لغياب العلم وأهله، وآخر تستحكم فيه “الجاهلية” لعدم وجود الحق وأهله. ولذا لا تُطلق “الجاهلية” على هذه الأمّة المرحومة بمجموعها بعد بعثة نبيها؛ لأنه لا يُعدم فيها قائمون بالحق حتى في أحلك الأوقات وإن لم يكونوا ظاهرين به.

ومن هنا فتخلّف العلم -وأعظمه علم الكتاب والسنة- أو العدل -وأعظمه التوحيد- في زمن من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، لا يعني بالضرورة ذهاب الدين كلّه ولا زوال العلم برمّته؛ لأنّ الحجة ثابتة والكتاب محفوظ، وإنما التخلّف في حال من يُقيم تلك الحجة في الناس، أو يتمثل شرائع الدين ويقيمها في واقع المحيطين به.

المجدّد لا يكون إلا عالمًا وداعيًا للاجتماع على الحق

مقتضى التجديد يتطلب معرفة الله تعالى بالحبّ والخوف والذلّ، ومعرفة مراده بالعلم والعمل، والدّعوة والصبر. ولما انقطعت النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس لمن يجدد لهم دينهم، أضحت مهمة العلماء في هذه الأمة كمهمة الأنبياء سواء بسواء، إلا أنه لا يوحى إليهم. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة.. وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر” (رواه أبو داود).

وما سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة. قال السعدي رحمه الله: ومن أعظم الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام الاقتداء بتعليماتهم، وكيفية إلقاء العلم على حسب مراتب الخلق، والصبر على التعليم، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبهذا وأمثاله كان العلماء ورثة الأنبياء(1).

والناظر في حال هذه الأمة يجد أنها أمة اجتماع واعتصام، ولذا كان المجدّد العالم فيها داعية رحمة، وقدوة في الاعتصام بالحق.. لا يعارض كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة بقياس، ولا ذوق، ولا كشف، ولا قول شيخ، ولا ولي، ولا إمام.. ونحوها من أسباب تفرّق الأمة وذهاب ريحها، رحمة من الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله أجاركم من ثلاث خِلال: أن لا يدعو عليكم نبيُّكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يَظهر أهلُ الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة”(2).

ولأن جديدَ هذه الأمة قديم، وقديمها جديد، فالمجدّد فيها لا يتكلّف الإتيان بجديد يعارض به التليد، بل على العكس.. لا تصحّ مهمته إلا بإعادة الناس إلى عصر السعادة، بل إلى اليوم الذي أكمل الله تعالى به الدين، وأتمّ به النعمة على المؤمنين، ثم لا عليهم بعد ذلك أن يسابقوا في علوم الذرة والصناعة والتكنولوجيا وارتياد الفضاء. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيّ آية؟  قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا). قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة. والمحفوظ أنه صلى الله عليه سلم مكث بعد نزول هذه الآية واحدًا وثمانين يومًا، ثم قبضه الله إليه.

 

(*) المشرف العام لمركز رؤية الثقافي بمكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.

الهوامش

(1) تفسير السعدي، 1/36.

(2) حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم عن أنس رضي الله عنه، انظر: صحيح الجامع، حديث رقم: 1786.