المثقف العربي في الغرب

ثمة كوكبة مهمة من مثقفي البلاد العربية تتوزع على جملة من البلدان الغربية، باتت تلعب دورًا معتبرًا في الحراك الثقافي الحاصل بين الثقافتين، يطبع اهتماماتها انشغال بقضايا المثاقفة بكافة أبعادها وآثارها، ناهيك عما لها من انعكاسات على الجانبين. ونقصد بالأساس فئة المثقفين الذين اختاروا المكوث الطوعي في الغرب، وليس المثقفين العابرين الذين اقتضت ظروف عملهم أو دراستهم أو ما شابه ذلك. من هذا الباب سنسلّط الضوء على شريحة مَن صاروا مواطنين غربيين، أو من نشأوا في أحضان تلك المواطنة مع استبطانهم لمكوّن حضاري عربي. فأية هوية حضارية تميز هؤلاء، وأي دور وظيفي لهم في ظلّ تقلص فرص التواصل مع بلدان المأتى التي هجروا التفاعل المباشر معها، وتنامى نشاطهم في بلدان المهجر التي باتوا يعيشون بين أحضانها؟ فأن يكون المرء عربيًّا ثم يغدو غربيًّا، أو أن ينشأ بالمولد غربيًّا ويستبطن رأسمالاً ثقافيًّا عربيًّا (في حال مواليد المهجر) ليس أمرًا متناقضًا، بوصف الغرب هو جملة تراكمات ثقافية تتداخل فيها انتماءات حضارية متنوعة وليس مكوَّنًا مغلَقا يجبّ ما دونه. فالغرب أتون تنصهر في جوفه جملة من التقاليد الثقافية، ما عاد بمقدور الرؤى المنغلقة ادعاء نقاوته الوهمية، أو الحديث فيه عن نموذج مفارق ينبغي ملاحقته والمقايسة عليه، بل هناك صيرورة ثقافية متحركة هي ما يشكّل هوية غرب ما بعد الحداثة. إضافة إلى أن المثقف الكوسموبوليتي، المتحرر من تصلب الهوية، والمرشَّح للتطور وأخْذ دور في ظلّ تحولات العالم الجارية، هو كائن عابر للثقافات، وغير خاضع للتصنيف المعتاد المحصور بمحددات جغرافية تقليدية.
وبرغم ما قد يلوح للوهلة الأولى بشأن تموضع المثقف العربي في الغرب على هامش خارطة المثقفين العرب في الداخل، كونه لا يعيش قضاياهم المصيرية المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة والحفاظ على سلامة الأوطان، والالتزام بإنماء أوضاع الإنسان، فإن بوسع ذلك المثقف النائي أن يغطّي جانبًا وازنًا في جدل الثقافة العربية بالثقافة الغربية، وأن يؤسس لرؤى متزنة بين العالمين تخلو من الإجحاف أو الانتقاد العدمي الصادر من الجانبين. والجلي في هذا التطور الحاصل، أنه ما كان ممكنًا لولا حصول تطور في أوساط الجاليات العربية عمومًا، باتت بمقتضاه مساهمةً في الفعل الثقافي في الغرب وأفضل حال مما كانت عليه خلال العقود السابقة. ترافق ذلك بتنامي حسّ ثقة بين جموع واسعة من المهاجرين، غدا فيه العربي لا يتعمّد إخفاء أصوله الحضارية ولا يخجل من تجليها، ولعله يجد في التشبث ببعض مضامينها الدينية والقيمية واللغوية سندًا قويًّا لوجوده.
ضمن هذا التفاعل الثقافي الجاري بين الضفتين، يجد المثقف العربي المهجري نفسه ماديًّا مرتبطًا بواقعه الجديد، ومعرفيًّا في معترك زخم مشرَّع على عالمين ثقافيين. وبفعل وعيه المركّب (العربي/الغربي) قد يجد نفسه في مأزق بفعل انتمائه المزدوج، لا سبيل لتخطيه إلا بوساطة وعي تحليلي نقدي عميق أكان لماضيه السالف أو لحاضره الراهن. فليس المثقف العربي الغربي نصير نمط حضاري دخيل، أو لسان دفاع حضارة مظلومة، بل مساهم في حراك ثقافي في الواقع الذي ينتمي إليه برؤية متزنة وواقعية تجافي الإجحاف أو الانتصار المجاني لهذا الطرف دون ذاك. فمن حق المرء أن يروّج لمخزونه الثقافي وعالم رموزه ورؤيته للوجود في أوساط أبناء جاليته في مجاله الضيق، أو بين نظرائه في وسطه المجتمعي الموسع، وهو ما لا يتناقض مع مفهوم الاندماج الذي قد يُفهم خطأ كونه إلغاء لهوية المندمج. لأن الاندماج الصائب هو بالإضافة لما هو موجود وليس بالانغماس السلبي في ما هو مهيمن وغالب. وكل كائن مثقف لا يطمح إلى توسيع نطاق دائرة رؤيته الثقافية التي ينتمي إليها، والتي يرتئي اختزانها لمظاهر قِيمية أو صور جمالية أو أبعاد إنسانية هو مثقف مُقعَد.
ولا شك -ضمن أجواء هذا التفاعل الثقافي- أن هناك أفقًا إنسانيًّا تلتقي فيه الثقافات، برغم ما قد يبدو أحيانًا من تباين بينها، وبرغم ما قد ينشأ من تصارع يُلحق عمدًا بالثقافة، وهو عادة ما يكون مأتاه التنافس السياسي بين فضاءين حضاريين. ففي زمن التوتر الحالي بين العرب والغرب، نشهد تلهفًا في الغرب من قِبل الغربيين على الدراسات العربية -أكان في مجال اللغة أو التصوف أو الأدب وما شابهه- يقابله توتر ونفور كلما لامسنا المجالات السياسية والأمنية. وفي هذا السياق العام استطاعت الأنثروبولوجيا أن تحدّ من غلواء مزاعم التمايز والتعالي وأفضلية ثقافة على أخرى، وهو ما يجعل المثقف الإنسانوي يتخطى حدود ثقافته القومية ليعانق أفقًا أرحب.
ناهيك عما ينضاف إلى هذا الجدل، ليس كما يُخيل أن المثقف العربي في الغرب في أريحية من أمره، وهو يعيش في أحضان مجتمعات ديمقراطية وعلمانية مفتوحة، بل هناك ضغوطات متنوعة يقع عرضة لها أكان في مجاله الأكاديمي المنضوي تحت أحد فروعه، أو في وسطه الثقافي العامل فيه والمنتمي إلى أحد شُعبه. فأن تنتمي إلى وسط أكاديمي، أو مؤسسة ثقافية غربية، يعني أن تتبنى الخط العام السائد في ذلك الحيز، بما يمثله ذلك من توجهات سياسية ومواقف فكرية، وأي تشكيك في مشروعيته أو انتقاد لبعض خياراته من شأنه أن يلغي الوفاق الضمني بين المنضوي والمؤسسة ويعرّض علاقته للاضطراب. وبالمثل أن تنتمي إلى فئة اجتماعية وحضارية وافدة على الغرب الحديث، وتبدي انتقادًا للميْز أو الانتهاك أو الدونية المنبعثة من الحاضنة الكبرى، يعني أنك في صف مهددي النموذج العام. لذلك غالبًا ما تفرض أجواءُ التدافع بين الغرب والعرب بسبب أوضاع التوتر السياسية والأمنية، على المثقف المهجري بلورة موقف مما يجري، يعبر في الحقيقة عن فحوى رؤية معينة يتحول إلى معيار لتحديد موقعه. وبموجب حساسية موقع المثقف العربي في الغرب، يملي عليه الظرف ألا يطرح القضايا العربية في الأوساط الغربية ضمن رؤية مشحونة بحمولات عاطفية أو قومية أو حضارية، بل بإصباغ رؤية واقعية عليها بوصفها قضايا إنسانية تهمّ الجميع. وحتى الانتقاد للغرب ينبغي ألا يكون صادرًا عن حسّ قومي للمثقف العربي المهجري، بل ينبغي أن يكون مبنيًّا على أسس واقعية خالية من الحساسيات القومية والعواطف الجياشة التي غالبًا ما تطبع نقد الداخل العربي للغرب، وإلا سقط المثقف العربي الغربي في محاباة أصوله الحضارية، وخلق انفصامًا مع واقعه الغربي المنتمي إليه.
يبلغ الأمر مستوى متقدمًا من الارتباك أثناء لحظات التأزم السياسي يغدو فيها مسموحًا للمثقف العربي المهجري التعاطي مع القضايا العربية من وجهة نظر غربية لا غير. وكل انحراف عن ذلك، من شأنه أن يساهم في إدراجه ضمن خانة “محامي الإرهاب”، أو “نصير نقيض النموذج الغربي”، أو “المشكك في علوية القيم الغربية”، وهي النعوت التي عانى منه جملة من المثقفين العرب في الغرب.
ولكن الخيارات التي يتبناها المثقف العربي في الغرب، ليست بالقدر نفسه من الوطأة على الجميع. إذ ثمة شقٌّ من المثقفين، وهم في الغالب ممن قدِموا في سنّ متقدمة إلى ديار الغرب، يقيمون في دياره ويتركز معظم تواصلهم الثقافي مع حضارة بلدان المأتى، وهو ما ينسحب على شقّ واسع ممن يعملون في المجال الإعلامي والصحفي والدعوي ومجال الترجمة، بما يجعل ارتباطهم المادي غير متأثر بالعلاقة بالغرب. وعلى خلاف ذلك الصنف، هناك شق مرتبط بعلاقات مادية وعملية بالواقع الغربي، تؤثر في قناعاته السياسية وفي خياراته الثقافية. أشرنا إلى تلك المؤثرات المادية التي تتحكم بالمثقف العربي في الغرب، ونحن نعي ما حصل من انهيار للمثقف الديماغوجي المرتبط بعمارات الأدلجة القومية واليسارية أو المتشرب للنزعات المركزية، وبالمثل ما حصل من انحسار لدور المثقف الموسوم بسمة النقدي، الذي أوشك أن يبيد بعد أن ساد في العقود الماضية، وقد بات رهينًا وتبيعًا، أو في أفضل الأحوال منضويًا في مؤسسة ثقافية محكومة بقانون السوق، بما حوَّل المثقف إلى “محترف ثقافة” لا غير. وهو مناخ عام تحوَّل فيه المثقف من “مشرّع” يرسم حدود المحظور والمسموح والصائب والخاطئ، إلى “مفسّر” يعلّق على الأحداث ويلاحق تفاعلاتها، وذلك بفعل متطلبات السوق الثقافية، كما يقول الجامعي الإيطالي “جيوسيبي باتيللا”.
فالمثقف الفرد اليوم في أزمة خانقة، وقلّة نادرة من مثقفي الغرب يمتلكون حقوق أعمالهم الأدبية أو الفنية أو الفكرية، وقد باتت ملكًا لمؤسسات أو شركات ترعى إبداعاتهم، والأدهى أن الأمر لا يتوقف عند تبنّي أعمالهم وتحويلها إلى بضاعة تجارية، بل على صلة بظهوريتهم الإعلامية التي باتت عاملاً رئيسًا في حضور المثقف أو غيابه في السوق الثقافية. لذا تجد المثقفين اليوم مدفوعين دفعًا للعمل ضمن تجمعات ومؤسسات، وهو ما يتجلى في نشاط مراكز الأبحاث والدراسات، أو ما يُعرف بوجه عام بـ”think-tanks”، لأنه لم يبق للمثقف الفرد دور ضمن أوضاع محكومة بالرأسمالية الإعلامية كما يصف عالم الاجتماع مانويل كاستلز الأمر. وبالتالي هناك حاجة ماسة تدفع بالمثقف للانخراط في هيكل “ثقافي مؤسساتي” حفاظًا على ماء الوجه، في ظل انحسار دوره الفردي، وبموجب ما حصل من تبدلات باتت تعصف بأوضاع الثقافة عامة. فالعقود الأخيرة قد شهدت تحول الفعل الثقافي من المثقف الفرد إلى المثقف الجمعي الذي تعبر عنه مؤسسة ثقافية محكومة باستراتيجية مضبوطة وبخيارات سياسية.
وفي جانب له صلة بأوضاع المثقف العربي في الغرب، نقصد مجال الانضمام إلى الأكاديميات الغربية ومراكز الأبحاث المرموقة المهتمة بالدراسات الاستشراقية، فإنه غالبًا ما تنتصب أمام المترشح العربي حتى وإن كان وليد الغرب جملة من العراقيل لا يتخطاها إلا قلة تُخضِع المترشحَ إلى اختبار عسير شبيه بالفرز الأمني الذي دأبت الدول القمعية العربية على ممارسته مع النخب التعليمية والثقافية عند انتدابها. حيث يتم الترحيب بالمثقف العربي في الغرب، حين يتحول إلى حربة ثقافية وسياسية في صراعات الغرب التي يخوضها ضد البلدان المارقة والحضارات “المنحطة”، لذلك نعرف في الغرب ظاهرة المثقفين العرب الموسميين محددي مدة الصلاحية ممن يكلَّفون بهذا الدور العاجل. ضمن هذا السياق يُعدّ الراحل “إدوارد سعيد” حالة فريدة في أوساط المثقفين العرب في الغرب، في قدرة الرجل على اقتحام أعتى الحصون الأكاديمية للاستشراق وإرساء مدرسة ما بعد الاستشراق، أو ما بعد الاستعمار، بات لها أتباعها شرقًا وغربًا، وهو ما يطرح سؤال: ما الذي توفر لإدوارد سعيد ولم يتوفر لغيره، حتى استطاع أن يحقق ذلك الإنجاز الفكري الباهر في الغرب؟ ربما الإجابة عن ذلك، في قدرة “سعيد” على تحويل القضايا الهامشية إلى قضايا إنسانية، بعيدًا عن مضامينها القومية الحصرية، وإلى انضواء الرجل ضمن شبكة تقدمية من المفكرين يجمعهم حس نقدي عال نحو الرأسمالية.
تكشف المتابعة السوسيولوجية للإنتلجنسيا العربية في الغرب عن وحدات معزولة، عاملة ضمن المؤسسات التعليمية والثقافية الغربية، تفتقر إلى التنسيق اللازم فيما بينها، فضلاً عن انسداد قنوات تواصلها بينها وبين الحضارة الأم. لكن أوضاع التوتر بين الغرب والعالم الإسلامي وانعكاساتها المباشرة على الجموع المهاجرة، باتت تدفع المثقف العربي في الغرب، ولا سيما من الأجيال الشبابية الجديدة وليدة الغرب، نحو طرح سؤال الهوية بعد أن كان الآباء متغافلين عن هذا السؤال ومعنيين بتثبيت وجودهم المادي.
صيرورة التحولات التي يعيشها المثقف العربي في الغرب، تدفع نحو تطورات جديدة تضعه على عتبة الدخول في طور جديد يمكن نعته بطور المثقف العربي الغربي، وهو ما يشي بجملة من المراجعات والبنْينة الجديدة للهوية.
(*) أستاذ بجامعة روما / إيطاليا.