المؤسسات التربوية وثقافة الأمن الفكري

بالرغم من أن الظاهرة الإرهابية جانبها إجرامياً فى المقام الأول، يتطلب المواجهة الأمنية الحاسمة، لكن من الخطأ، أن نتحدث عن الإرهاب كظاهرة إجرامية فقط، ونتغاضى عن جوانبه الأخرى، التى تحتاج إلى وقفة جادة من قبل المؤسسات الاجتماعية فى بلداننا العربية والإسلامية، وفى مقدمتها المؤسسات التربوية ،التى تعد إحدى الجوانب الاجتماعية الهامة، التي تؤدي عملاً حيوياً مؤثراً فى المحافظة على بناء المجتمع واستقراره، من خلال ما يقوم به النظام التعليمي من نقل معايير وقيم المجتمع من جيل إلى أخر، الأمر الذى يسهم مساهمة فاعلة فى أمن واستقرار المجتمع ، فالنظام التربوي فى المجتمع، ممثلاً فى مؤسساته التعليمية يعد أحد الركائز الهامة فى نشر ما يمكننا أن نطلق عليه ثقافة الأمن الفكري بين التلاميذ والطلاب.

أهمية ثقافة الأمن الفكري

يعد الأمن الفكري، من أهم المفاهيم الأمنية تأثيراً وأقواها صلة بمفهوم الأمن الشامل، الذى يشمل مراحل حياة الإنسان، ويشمل جميع حاجاته وضروراته ومتطلباته، حيث يوفر مفهوم الأمن الفكري صيانة وحماية فكر الأمة، وثقافتها وعقيدتها وقيمها من أخطار الغزو الثقافي، ومن أخطار الأفكار الهدامة، التى تستهدف فكر الأمة وطمس هويتها وأضعاف عقيدتها واستلاب شخصيتها، فلثقافة الأمن الفكري أهمية كبرى ، فهي ثقافة لها دوراً مؤثراً وحيوياً فى ترسيخ دعائم الفكر الصحيح فى نفوس جمهور المتعلمين ، ، فعن طريقها يتشرب النشء القيم الدينية والاجتماعية الإيجابية، التى تقود إلى المفاهيم الصحيحة، التى تخلق التماثل الاجتماعي، وتكون فى نفس الوقت صمام الأمان الذى يحمى النشء والشباب من الوقوع تحت تأثير أي انحراف فكرى يقود إلى الغلو والتطرف ، بالعمل الجاد على تصحيح المفاهيم، وبتهيئة المناخ العام أمام النشء ليصبح واعياً ومثقفاً بمبادئ دينية صحيحة تحصنهم وتحميهم فى أوقات الشدائد والأزمات.

ثقافة الأمن الفكري والمؤسسات التعليمية

بداية نؤكد على حقيقة هامة، أن التعليم هو الأساس المتين الذى تقوم عليه حضارات الأمم والشعوب، لذلك فإن الدور الفكري والثقافي للمؤسسات التعليمية ، دور فى غاية الأهمية فالتربية والتعليم هي الركيزة الأساسية للتنمية البشرية الشاملة ، فى أي مجتمع بشري، فعن طريقها تصنع شخصية المتعلم ويهذب سلوكه ، وتنمى معارفه ، ويعزز انتماؤه لأمته ووطنه، بدءاً بتعريفه بقيمة وطنه ومكانته ومحبته والدفاع عنه، مروراً بمفردات المنهج والإرشاد الطلابي والإرشاد الأكاديمي، فإذا قامت المؤسسات التعليمية بدورها التربوي نحو كل طالب ينتمى إليها، وإذا هي أدت دورها الإنساني والديني والوطني فى رعاية الناشئة وتوجيه الشباب توجيهاً سليماً يدفعهم لحب دينهم وأمتهم ووطنهم، فإنها دون شك ستهدى للأمة والوطن جيلاً محصناً من كل فكر دخيل منحرف  والسؤال الذى يتبادر إلى أذهاننا الآن، كيف تستطيع المؤسسات التربوية تحقيق ثقافة الأمن الفكري، تلك الثقافة التى نحن فى أمس الحاجة إليها فى هذا العصر ، فى ظل اختلاط الأمور، واشتداد موجات العنف والإرهاب، وأرى أن ذلك الدور يتحقق على النحو الآتي:

أولاً: الأعداد الجيد للمعلم، هذا المعلم الذى يعد العصب الأساسي للعملية التربوية والتعليمية، فإن لم يكن المعلم مؤهلاً لذلك، يحسن توظيف المناهج الدراسية فى خدمة ترسيخ مفهوم الأمن الفكري، الذى يقود إلى ترسيخ قيمة الأمن الشامل، بما لديه من  زادً خصب من جوانب الفكر المستنير، فأنه لن يستطيع التواصل مع تلاميذه وطلابه، وهنا تفشل العملية التربوية ولا تأتى بالثمار المرجوة منها، فى إعداد جليل يحمل الكثير من القيم الدينية والأخلاقية التى تحصن وتقى المجتمع من أي فكر هدام، ولكى نجنى ثمار ثقافة الأمن الفكري، لأبد أن يكون المعلم أولاً على علم ودراية، بما يريد تعليمه لتلاميذه، مستشعراً المسؤولية بتثبيت دعائم الثقافة الصحيحة، التى تحصن الطلاب وتحميهم ممن ألتبس عليهم من أمور قد توقعهم أسرى لكل فكر منحرف، ولديه العديد من الوسائل فى ذلك منها بالتحذير من كل فكر هدام، ومنها بإفساح المجال أمام تلاميذه وطلابه بالحوار الهادئ المستنير فى طرح الأفكار والرؤى وبالمناقشة الجادة، التى تقود فى النهاية إلى غرس بذور ثقافة الأمن الفكري فى تلك التربة الخصبة، لتنمو وتترعرع بفضل توجيهات هذا المعلم، فإن لم يجد الطلاب هذا المعلم الصادق المحمل بالثقافة الصحيحة والفكر الواعي الذى يفتح قلبه وعقله ويتسع صدره لسماع ما يجول بخواطر وعقول طلابه ، ويدلهم فى النهاية إلى الطريق الصحيح ، فسوف تتشعب بهم الطرق هنا وهناك إلى أمور وأماكن لا تحمد عقبها .

ثانياً: إعادة النظر فى الكثير من المناهج الدراسية والأساليب التربوية المتبعة فى تدريسها، مع النظر إليها بعقلية انفتاحيه جديدة، تعيد النظر فى كثير من المنطلقات التربوية والتعليمية ، من أجل صياغة جديدة أكثر انسجاما ومواكبة مع ما يحدث فى عالم اليوم من عولمة الثقافات والمجتمعات، والتعامل معها بشخصية الصانع لا المقلد، مع الحفاظ على الثوابت وعدم المساس بها، والحرص على تأصيل التربية وتعويل عليها بناء الوعى العميق للمتعلم، بوضع ما يتلالم مع معطيات العصر، وإعادة النظر فيما لا يتلائم مع هذه المعطيات، وإعادة النظر تلك يجب أن لا تكون مجرد انفعالات وقتية أو رود فعل عاجلة، وإنما يجب أن تنطلق من دراسات متعمقة تبعاً للتغيرات التى يمر بها المجتمع، والمستجدات العصرية، وبروح تأخذ مصلحة البلاد وأمنها فوق كل اعتبار.

ثالثاً: أن تقوم المؤسسات التربوية ممثلة فى مدير المؤسسة التعليمية وزملاؤه المعلمون، ومرشدي الطلاب، بعملية تنشئة اجتماعية داخل المدرسة، من أجل تكوين شخصية الطالب، فالمدرسة مجتمع صغير يهيئ للمجتمع الكبير، والتعليم وظيفة إنسانية اجتماعية قبل أن تكون معلوماتية، ويتمثل هذا الدور فى تربية الطالب على حب النظام وحسن الانضباط، وحب الآخرين ، وإشاعة الأمن إلى أخر ذلك من سلوكيات يتربى عليها التلميذ ويتشرب معنيها السامية فى نفسه، الأمر الذى يجعل منه عضواً مهيئاً لخدمة وطنه، ومواجهة كل فكر ضال ومنحرف يسعى لخلخلة أمن هذا الوطن واستقراره.

رابعًا: تشجيع النشاطات الثقافية فى المؤسسات التعليمية، فإن لهذه النشاطات دور هام فى إثراء ثقافة الأمن الفكري لدى التلاميذ والطلاب، وذلك بتخصيص بعضاً من الأنشطة لعقد لقاءات مع الشباب، تدارس فيها الهموم وتصحح من خلالها بعض السلوكيات الخاطئة، وعقد مسابقات ثقافية لتقديم بحوث تربوية يشارك فيها الدراسين من تلاميذ وطلاب، مع استضافة بعض علماء الشريعة ورجال الفكر والرأي لتقديم محاضرات، وعقد ندوات، أو على هيئة ورش علمية، تؤصل المفاهيم الشرعية الصحيحة والثقافية المعتدلة.

خامسًا: استحداث مناهج جديدة للوقاية من الجريمة والانحراف، على أن يبدأ تدريس هذه البرامج والمناهج من المراحل الأولى للتعليم حتى المرحلة الجامعية، ويمكننا خلال وضع هذه البرامج والمناهج الاستفادة من التجارب الدولية فى ذلك، حيث يوجد كم هائل من برامج الوقاية المطبقة فى الكثير من دول العالم، كما على الإرشاد الطلابي دور هام فى ذلك عن طريق دراسة أحوال الطلاب ومتابعة سلوكهم ورعايتهم وتوجيهم.

فى النهاية نقول إن تحقيق ثقافة الأمن الفكري هي صمام الأمان، الذي يجب أن نحرص عليه جميعاً، ولا يتحقق ذلك إلا بالاستفادة القصوى من وسائل التعليم ومزاياه ودوره الفعال فى إرساء القيم الروحية والأخلاقية، ودعائم الفكر الصحيح، التى تنطلق من المدرسة أولاً إلى المجتمع المحيط بها، ثم إلى المجتمع الكبير فى النهاية لتضافر جهودنا جمعياً لعلاج مشكلة الإرهاب، ومحاربة كل فكر منحرف ضال.